
﴿یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِۖ﴾
أكتوبر 8, 2024
العدد التاسع والعشرون
أكتوبر 8, 2024د. علي عمر بادحدح – فك الله أسره –
فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه يقول قبل المعركة، وهو الذي فاتته غزوة بدر، وفاته شرف تلك الغزوة العظيمة، يقول: لئن أشهدني الله عز وجل يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع؟ قسم عظيم يُبرز فيه هذا الصحابي الجليل أنه سيبذل وسيضحي وسيثبت ويقدم لهذا الدين ما تقر به أعين المسلمين، وما يرضى به عنه الله رب العالمين، يقول ذلك لا قولاً رخواً وهو متكئ على أريكته، ولا يقول ذلك وهو في مجلس اللهو واللعب؛ وإنما يقوله مقسماً بالله عز وجل في مواطن الجد والعز.
فلما جاءت المعركة وجاءت هذه الدائرة، مر أنس رضي الله عنه ببعض الأنصار وقد سرت شائعة قتل النبي ﷺ بعد أن تجمع حوله المشركون وحصل ما حصل، فمر أنس ببعض الأنصار وقد قعدوا على هامش المعركة، وسألهم: ما بكم؟ قالوا: أما شعرت أن محمداً ﷺ قد مات؟ فقال كلمات تسجل في صحائف التاريخ، وتخلد في ذاكرة المسلمين، وتنقش في قلوبهم صوراً محفورة لا تنسى من صور الثبات والتضحية، ومعرفة المنهج، ووضوح الرؤية عند الصحابة رضوان اللهم عليهم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ!
لئن مات النبي ﷺ فما قيمة الحياة بعده؟ ولئن أهينت المقدسات، وانتهكت الأعراض، واعتدي على الدين فما قيمة الحياة؟ هل يبقى المسلم في هذه الحياة ليأكل وينكح مثل بقية الأنعام والدواب والهوام؟ إن المسلم أجل وأرفع من أن تكون هذه غاياته، إنه صاحب مهمة ورسالة يقدم حياته كلها لأجل رسالته وإعلاء رايتها؛ فإن أصيب في دينه أو في رسالته؛ فإنه لا يمكن أن يرضى بالذل في هذه الحياة، ولا يمكن أن يبقى ساكناً وادعاً، بل ينبغي أن يتحرق قلبه، وتتحرك جوارحه، وينطق لسانه، وتنطلق أقدامه، وتنفق أمواله، ولو اقتضى الأمر أن تبذل مهجته وروحه في سبيل الله عز وجل كما فعل الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ونداء أنس رضي الله عنه ينادي كل المسلمين: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ.
ثم مضى أنس رضي الله عنه إلى ميدان المعركة، مضى إلى الغبار المثار، إلى السيوف التي تبرق في الضحى، إلى الأعناق التي تقطع، والدماء التي تسيل؛ فلقيه في أثناء مسيره سعد بن معاذ فقال له: إلى أين يا أبا عمرو ؟! فسطر أنس رضي الله عنه أيضاً الجواب بكلمات عظيمة: واهاً لريح الجنة، والله إني لأجدها دون أحد.
قوم أيقنوا بما أخبر الله عز وجل به، واستيقنوا بما أخبر به الرسول ﷺ، وعلموا أن طريق مرضاة الله إنما تكون من طريق إعزاز دين الله عز وجل، ونصر عباد الله، وعدم رضى الذل لدين الله عز وجل.
واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد، ثم انطلق رضي الله عنه، قال سعد : فما استطعت أن أمضي مضيه، ولا أن أفري فريه، فمضى يقتل ويضرب حتى استشهد رضي الله عنه وفي جسمه بضع وثمانون ما بين ضربة سيف أو طعنة رمح أو موضع سهم، حتى ما عرف وجهه، وإنما عرفته أخت له ببنانه أو شامة. لم يعرف من شدة ما أصابه من ضرب.
قال بعض الصحابة: فأحصيت ما به من ضربات فلم أجد في ظهره منها ضربة قط. كان مقبلاً غير مدبر، ولم تأته الضربات من ظهره؛ لأنه لم يول ولم يهرب، وإنما كان مضحياً ثابتاً، ولذلك ضرب مثلاً عظيماً من أمثلة التضحية والثبات على دين الله عز وجل.
أمثلة وصور متفرقة للثبات
وعن ثابت بن الدحداح رضي الله عنه: أنه مر بفئة من الصحابة الأنصار من قومه، ورأى بعضهم وقد تردد وتذبذب وحار وتبلبل، فقال: يا معشر الأنصار! إن كان محمد قد مات فإن الله عز وجل حي لا يموت، قاتلوا على دينكم فإن الله مظهركم وناصركم.
هكذا كانوا يعرفون أن المسألة مسألة منهج ومبدأ، وإن كان الرسول ﷺ في نفوسهم عظيماً فدين الله عز وجل أعظم، وإن كان ارتباطهم بالرسول ﷺ وثيقاً فارتباطهم بالله عز وجل أوثق؛ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ.
وكما أخبر ثابت أيضاً في هذه المقالة: قاتلوا على دينكم فإن الله مظهركم وناصركم. ثم مضى ثابت رضي الله عنه، ولم يكن هذا الكلام منهم كلاماً عابراً، بل مضى وقاتل حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه.
وهذه صورة ثالثة: مر مهاجري بأحد الأنصار وهو يتشحط في دمه وقد أصيب إصابة قاتلة، مر به وقال متسائلاً ومستغرباً: يا فلان! أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال هذا الذي يفارق الحياة ويستقبل الموت: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
صحابة يتواردون على معنىً واحد، مما يدلنا على أن تربيتهم وإيمانهم ومنهجهم كان واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، ولذا لم يتذبذبوا ولم يتراجعوا ولم ينخذلوا، وإنما كانت فترة من فترات الاضطراب والفوضى، ثم جاء نداء النبي ﷺ، وجاءت القدوة المثلى لتجمع الصحابة رضوان الله عليهم، ولست بصدد ذكر الفداء والتضحية التي كانت من الصحب الكرام حول النبي ﷺ، سبعة من الأنصار واحداً إثر آخر يقفون حول الرسول الكريم ﷺ، يفتدونه بصدورهم وظهورهم، يهلكون واحداً إثر واحد، وكان معه سبعة من الأنصار واثنان من المهاجرين فقضى الأنصار واحداً إثر الآخر حتى قال النبي ﷺ: “ما أنصفنا أصحابنا”؛ لأنهم تقدموا وكان الآخرون لم يكتب الله عز وجل لهم الشهادة في ذلك الوقت، كانوا ينضحون عنه النبل، ويتلقون عنه السيوف، ويذبون عنه الأعداء، وضحوا وثبتوا ثباتاً عجيباً في وقت كان الأصل أن يكون حالهم الفرار والهرب؛ فقد انفرط عقدهم ودارت الدائرة عليهم.
حنظلة الغسيل وشوقه إلى الجهاد
مثل أخير أقف عنده؛ لأنه مثل يبين لنا الصورة التي تعيقنا عن الانطلاق لرضوان الله عز وجل، والمضي لنصرة دين الله سبحانه وتعالى، والعمل لأجل نصرة هذا الدين في كل مكان.
هذا حنظلة بن أبي عامر، كان أبوه يسمى أبا عامر الراهب، وسماه النبي ﷺ أبا عامر الفاسق؛ لأنه كان من أشد أعداء الإسلام، أما ابنه حنظلة فقد كان صحابياً جليلاً من خيار الصحابة، كان عرسه في ليلة أحد، ودخل على زوجته وهو حديث عهد بعرس -في يوم الدخلة التي نسميها اليوم- وإذا به يسمع المنادي يقول: يا خيل الله اركبي!
يسمع النداء إلى الجهاد، يسمع الانتقال من أحضان المرأة إلى الانتقال إلى أحضان الموت، يسمع الانتقال من العيش الرغيد إلى العيش الشظف الشاق، فإذا به لا يفكر ولا يتردد ولا يضعف ولا يركن إلى الأرض، ولا تلفته الزوجة الحسناء، ولا البيت المهيأ، ولا العطر والطيب.. بل يشتاق شوقاً عظيماً، ويتحرك حركة هائلة، وينخلع من بيته وزوجته، ويمتطي فرسه ويمضي مع المجاهدين إلى سبيل الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة:38]، رسمها الصحابة صوراً حية. ما متاع الآخرة في الدنيا إلا قليل! عرفوا ذلك فاشتاقت له نفوسهم.
ومضى حنظلة مقاتلاً ومجاهداً يشق الصفوف، كان يقصد أبا سفيان رضي الله عنه؛ لأنه كان قائداً لجيش المشركين في تلك المعركة حتى أوشك أن يصل إليه ويقتله، فإذا بـشداد بن الأسود يأتيه من جنبه أو من خلفه فيضربه ضربة فيستشهد، فيخبر النبي ﷺ عن شأن حنظلة أنه كان لم يغتسل من الجنابة بعد، فإذا بالنبي ﷺ يقول: “إن الملائكة تغسل صاحبكم ما بين السماء والأرض”، وتطهره لينتقل إلى الجنان وإلى الحور العين التي وعد الله عز وجل بها الشهداء.
التضحية والثبات درب السلف الأوائل
إن كل صور التضحية بالأهل والديار والأموال والأنفس ظهرت في هذه المواقف التي كانت للصحب الكرام رضوان الله عليهم، وخطوا لنا بكلماتهم في سمع الزمان كلمات تدوي لا تنسى، وخطوا لنا بأفعالهم صوراً تحتذى وأمثلة يقتدى بها، نسوقها لنا، نحن الذين شغلنا بالدنيا، وأخلدنا إلى الأرض، وانصرفنا إلى مصالحنا وذواتنا، ونسينا أمتنا، وديننا، ودعوتنا، ورسالتنا، إلا من رحم الله.
ونبث هذه المواقف أيضاً إلى إخواننا المسلمين في البوسنة والشيشان وفلسطين وكشمير وكل مكان ليروا كيف كان النبي ﷺ، فقد لقي مثل ما يلقون؟ وكيف كان موقفه وموقف الصحابة رضوان الله عليهم؟
إنها صور تبعث القوة في نفوس المؤمنين، وتعيد الحياة إلى القلوب التي ذوت فيها الحياة، وإلى السواعد التي صارت كالأيدي الشلاء؛ ينبغي لنا أن نجدد هذا المعنى في نفوسنا، إنه لا يمكن لنا أن نحيي معاني هذا الدين، وأن نعلي رايته دون أن نضحي في سبيل الله عز وجل، فإذا لم نستطع أن نضحي بشيء من أوقاتنا، وقليل من أموالنا، وبعض من جهودنا فكيف سنضحي يوماً ما بأنفسنا في الجهاد في سبيل الله عز وجل، لابد أن نوطن أنفسنا على أن نكون على سنن الصحابة رضوان الله عليهم، أن نأخذ من هذه المدرسة النبوية هذه المعاني التربوية الإيمانية، وأن نحقق بعضاً من الشعور أننا من أبناء هذه الأمة، ومنتسبون لهذا الدين، ونحظى بشرف اتباع محمد ﷺ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:108].
أتباع محمد حملة رسالة، وناشرو دعوة، ومجاهدون في سبيل الله عز وجل. أتباع محمد ليسوا من أهل الدنيا، ولا من أهل الانشغال عن الآخرة، ولا العمل لذوات أنفسهم والانشغال بمصالحهم الذاتية الأنانية؛ هذه لها حدها وقدرها ومشروعيتها، لكن النفوس العظيمة والإيمان العظيم يدعو صاحبه إلى ما دعا إليه أنس بن النضر، وحنظلة بن أبي عامر رضي الله عنهما، وإلى ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم يوم أحد.
ينبغي أن نحيي هذه المعاني حتى نعالج هذا الفتور والخور والضعف والتعلق بالدنيا الذي في أنفسنا، فلئن كانت هذه صورة شامخة سامقة في حياة الصحابة ونحن في سفح سحيق فينبغي أن نحرك أنفسنا، نعم نحن بحمد الله اليوم في خير كثير، نعم قد دب الإيمان في القلوب، وشاع الإسلام في الصفوف، وتنادى المسلمون باسم الإسلام.. بوادر خير تحتاج إلى أن نرويها بتضحياتنا، ونغذيها بأرواحنا، ونحييها بكلماتنا ومواقفنا.
نسأل الله عز وجل أن يسخرنا لخدمة هذا الدين، وأن يجعلنا من نصرائه في كل مكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يسخرون أموالهم وجهودهم وأوقاتهم وأرواحهم في سبيل نصرة هذا الدين، وإعلاء راية الله في كل مكان.
ــــــــــــــــــــــــــ
- علي عمر بادحدح، غزو أحد درس التضحية والثبات، محاضرة مفرغة، موقع إلكتروني: الشبكة الإسلامية.