
ماذا يُدبَّر للمسلمين؟
أكتوبر 15, 2025
صحة غزة: وفيات سوء التغذية مستمرة والقطاع بحاجة لـ400 ألف عملية
أكتوبر 16, 2025محمد حسن شراب
المؤرخ الغزي الفلسطيني*
في الثامن عشر من شهر تشرين الثاني، ترك القسام وصحبه جبال (كفر قود) واتجهوا نحو خربة (الشيخ زيد) قُرْب (يعبد)، حيث الشيخ (سعيد الحسان) أحد أفراد عصبة القسام، وفي الطريق، لاحظ عربي بدوي متابعة الجواسيس خطواتهم فطلب من القسام، أخذ قسط من الراحة، لبحث مسألة الجواسيس.
يقول عربي: كان القسام يأخذ بآرائي مع صغر سني، فأخبرتُ الجماعة أنّ هذه القرى يوجد فيها من يتعقبون آثارنا، واقترحت أن ننقسم إلى فريقين: فريق يتجه إلى الشمال، ويعود إلى حيفا والناصرة، ويقوم أثناء سيره بتخريب سكك الحديد، وقطع خطوط الهاتف التابعة للإنكليز واليهود، ثم يذهبون إلى (نورس) حيث يوجد الشيخ فرحان السعدي، ونلتقي جميعاً في (الوادي الأحمر)۱ بين نابلس والغور. وهناك تملك الجماعة حرية أكثر، وتخف ملاحقة الجواسيس، فأعجب القسام بهذه الفكرة، وطلب من المجاهدين الانقسام إلى مجموعتين:
الأولى: ذهبت إلى الشمال، وهي مكونة من عشرة رجال، ويدلهم على الطريق الشيخ داود الخطاب.
والثانية: توجهت نحو الغرب إلى ضواحي (يعبد). وهم: الشيخ عز الدين القسام وحسن الباير، وعربي البدوي، وأحمد عبد الرحمن جابر، ومحمد يوسف، ونمر السعدي، وعطية المصري، وأسعد المفلح، ويوسف الزيباوي.
قال الراوي عربي البدوي: وفي الطريق نفد الماء، وكانت أحمالنا ثقيلة، فكل رجل يحمل بندقية، وستين (مشط فشك)، وحربة صنعها القسام عند أحد الحدادين تيمناً بسلاح الصحابة، يضاف إليها الأغطية وأدوات السفر والطعام. وفي الليل أرهقنا التعب والعطش، فطلبت من الشيخ أن نستريح لنشرب، ولكن ليس لدينا ماء، ولا نعرف منهلاً قريباً، وكان حسن الباير يعرف المنطقة شبراً شبراً، فقال: إنَّ أقرب منبع للماء يبعد حوالي عشرة أكيال. فأمرنا الشيخ بالاستراحة، وأرسل معي رجلين حملوا أوعية ماء، فسرْتُ أمامهم على غير هدى، ولم نكن نقطع مسافة ستين متراً، حتى أتينا صخرة، وإذ بها حفرة (معصرة) حجمها متر مربع، مليئة بالماء، فشربنا وملأنا الأوعية، ورجعنا، فشرب إخواننا، ثم واصلنا السير حتى وصلنا خربة الشيخ زيد.
وفي اليوم التاسع عشر من شهر تشرين الثاني أصبحت تحركات الجماعة تلاقي صعوبة شديدة.. فقد وصل إلى جنين عدد كبير من رجال المخابرات والجواسيس وانبثوا بين الناس في قرى القضاء، وكانوا يتخفون في زي عامل أو فلاح أو زبال… إلخ. ووصف مراسل صحيفة (فلسطين) في جنين وقضاء المدينة بأنه أصبح ساحة حرب، لكثرة استعدادات البوليس، وازدياد عدد رجاله من رسميين وسريين.
وفي اليوم نفسه شيعت مدينة جنين الشهيد محمد أبو القاسم خلف الحلحولي. وكانت الشرطة قد أبقت جثته مكانها بعد استشهاده يوماً كاملاً، إلى أن تم فحصها، وقد سار في الجنازة عدد كبير من تجار ووجهاء وشباب مدينة جنين وقضائها، وأظهر المشيعون تعاطفاً مع الشهيد، مع أنه لم يكن معروفاً وقتها أنَّ المطاردين هم جماعة مجاهدة. وإنما كان الشائع حسب بلاغات الشرطة أن القتيل من عصابة لصوص. فشيعه الناس بوصفه خارجاً على قانون الانتداب البريطاني الجائر، وكان الناس ينظرون بعين التقدير لمن يتحدى قانون الانتداب بقوة السلاح، حتى ولو قيل: إنه لص يسطو على مزارع اليهود، ومعسكرات الانتداب، ولو كان ذلك بدافع السرقة فقط، لأنه وجه نفسه لسرقة أمتعة الأعداء فقط، ولم يسطُ على أحد من إخوانه العرب.
وقد عني الناس في الثلاثينيات بأخبار (أبو جلدة) قاطع الطريق على الإنكليز واليهود وصار بطلاً شعبياً، يتغنى الناس بقصته2. مع أن (أبو جلدة) لم يقطع الطريق على الإنكليز واليهود وهو يرفع شعاراً وطنياً. ولكنه نال إعجاب الجمهور لأنه كان يزرع الرعب في قلوب المستعمرين ببسالته وجرأته، في وقت كان فيه الذين يرفعون الشعارات الوطنية منطوين في جحورهم.
يوم الشهادة والشهداء
وصل الشيخ القسام وصحبه خربة الشيخ زيد3 في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني، ونزلوا في بيت الشيخ سعيد الحسان، حتى صبيحة الأربعاء ٢٠/ ١١/ ١٩٣٥م، وهو يوم الشهادة، يوم الحياة، يوم بُعثت فيه الأمة، واستيقظ الشعب من غفلته.
ويصف عربي البدوي مشاهد من هذا اليوم، فيقول: كان يوم أربعاء، وكنتُ أقفُ خفيراً في طرف حرش (يعبد) قرب خربة الشيخ زيد، والطرْم4، ورفاقي داخل الغابة: الشيخ عز الدين وعصبته. ومع طلوع الشمس رأيت رجال (البوليس) يهجمون علينا، وهم على ظهور الخيل، ويتصايحون: “عليهم عليهم!” فأوعزت إلى رفاقي بأن يتوزعوا، ويأخذوا أماكنهم.. وبدأت أطلق الرصاص، فجعلوا يتركون الخيل، ويأخذون مواقع لهم على بطونهم، خلف الحجارة والرجوم من أكوام الحجارة.
وابتدأت المعركة غير متكافئة.. نحن تسعة، وهم يتوافدون عشرات عشرات إلى أن اكتمل عددهم، من مئتين إلى أربعمئة، ومعظمهم يحمل شارة بندقيتين على ذراعه، وهذا يعني أنه قناص لا يخطئ. مكثت مدة تزيد على عشرين دقيقة وأنا أطلق الرصاص واقفاً، لا يحجبني عنهم حجر أو شجر، والمسافة بيني وبينهم لا تزيد عن خمسين متراً.. وأخيراً انتبه الشيخ رحمه الله وصاح بأعلى صوته: “خُذ الأرض، لن تموت شهيداً إذا مت على هذه الحال أنت منتحر إذا لم تأخذ الأرض”!
تلقينا أمراً بالانسحاب والتوغل داخل الغابة، وجُرح الشيخ أسعد المفلح (من أم الفحم) وحاولت حمله، فناداني الشيخ: “اتركه واعتنِ بنفسك”. وفي داخل الغابة وجدنا صخوراً تصلح للتمترس بها.. ضيقوا علينا الخناق، وأحكموا نطاق الطوق إلا من جهة واحدة جهة الشمال، وكانت مكشوفة، والانسحاب منها معروفة نتائجه، فقررنا المقاومة حتى مجيء الظلام.
وحين عرف الشيخ القسام أن أفراد الشرطة يقتربون، أعطى للمجاهدين أمراً بألا يطلقوا النار على أفراد الشرطة العرب، وأن يوجهوا رصاصهم إلى الإنكليز، وكان الضباط الإنكليز قد وَضَعُوا الشرطة العربية في ثلاثة مواقع أمامية، وتمترس الإنكليز خلفهم، ولم تكن الشرطة العربية تعرف حقيقة الجهة التي أُحضروا إليها، وحقيقة الجماعة التي يطاردونها؛ فقد ادعوا لهم بأن المطاردين لصوص، يهددون أمن البلاد.
واتخذت المعركة بين الطرفين شكل عراك متنقل، وساعدت كثافة الأشجار على انتقال أفراد الجماعة من موقع إلى آخر. ودامت المعركة مستمرة من الصباح الباكر حتى وقت قبيل العصر.
وقد ثبت المجاهدون وأبوا الفرار، وكان يستطيعون ذلك، وبدت أمامهم فرصة للنجاة عندما ناداهم الضابط البريطاني: استسلموا تنجوا.
فأجاب القسام: “لن نستسلم هذا جهاد في سبيل الله”. ثم هتف بأصحابه: “موتوا شهداء” فردَّد الجميع: “الله أكبر الله أكبر”.
فاستشهد في المعركة القائد عزّ الدين القسام، وثلاثة من أصحابه هم: يوسف عبد الله الزيباوي -بالزاي- نسبة إلى قرية (الزيب) في قضاء عكا. وعطية أحمد المصري5، وأحمد سعيد الحسان، من (نزلة زيد).
وجُرح في المعركة: نمر السعدي من غابة شفا عمرو، وأسعد المفلح من أم الفحم.
وأُسر في المعركة: حسن الباير ـ من برقين، وحُكم عليه بالسجن ١٤ عاماً. وأحمد عبد الرحمن جابر – من (عنبتا) وحكم عليه ١٤ عاماً. وعربي البدوي – من (قيلان) وحكم عليه ١٤ عاماً. ومحمد يوسف – من سبسطية.
يوم القسام
بدأت المعركة عند انبثاق نور الصباح، وانتهت قبيل عصر اليوم، ومن أسباب طول مدة المعركة مع انعدام التكافؤ العسكري، أن القسام اتبع خطة لإطالة أمد المعركة، لإحداث خسائر في الجانب الإنكليزي، ولإثبات قدرة المجاهدين على مراوغة العدو، وبيان مدى استعدادهم العسكري. ومن الأسباب التي تعود إلى الجانب الإنكليزي، دخول الرعب إلى نفوسهم، لجهلهم بالعدد والعدة التي تحاربهم.
وربما كان أقوى الأسباب أن الإنكليز كانوا يريدون القائد القسام حياً، لأنهم يعرفون أن استشهاد قائد يُحيي سنة الجهاد عند المسلمين، ويُصبح القدوة المتجددة للمجاهدين، ولذلك فهم يكرهون قتل قادة الجهاد والثورات، لئلا يكونوا مشعلاً يضيء أمام الشعوب طريقهم.
وحصل ما تخشاه السلطة البريطانية، وهو ما يتمناه القسام، فكان له مقعد صدق عند الله تعالى إن شاء الله، ونال حظاً من الذكر الحسن عند قومه، ما كان يحصل له لو بقي حياً.
استشهد القسام، فوجدوا في ثيابه مصحفاً، وأربعة عشر جنيهاً. وأما الأسرة، فقد تركها الله، فهو الوكيل، وهو الكفيل.
وزعم بعض المؤلفين أن القسام باع بيته في حيفا قبل خروجه. فسألت الأستاذ عبد الرحمن بن محمد الحنفي هل كنتم تمتلكون بيوتاً؟
فقال: إنَّ القسام لم يمتلك بيتاً، وإنما كان يسكن بيتاً مستأجراً، وكذلك الوالد: محمد الحنفي، رفيق القسام من جبلة إلى حيفا، مع أن القسام والحنفي، قد وصلت لأيديهم آلاف الجنيهات، فكانوا ينفقونها في شراء السلاح.
إذن مات القسام، فنال -بإذن الله- ما وعد الله به الشهداء، وترك ثروة عظيمة أهداها إلى الأمة، وهو المنهج والقدوة. المنهج الصالح لقتال الأعداء ودحرهم، والقدوة العملية في الزهد في الدنيا، وبذل النفس في سبيل الله، وإعلاء كلمة المسلمين في أوطانهم.
نُقل الشهداء من ساح المعركة إلى جنين، ثُمَّ أُرسلت إلى حيفا، لتُسلم إلى ذويها. واشترطت السلطات البريطانية شرطين:
أولهما: أن يكون الدفن في الساعة العاشرة من صباح الغد، الخميس ٢١/ ١١/ ١٩٣٥م.
وثانيهما: أن تسير الجنازة من بيت الشيخ عز الدين القسام الواقع خارج البلدة، إلى المقبرة في بلد الشيخ6 فلا يستطاع السير بالشهداء داخل المدينة.
وصدرت الصحافة المحلية تحمل نبأ استشهاد القسام في صفحاتها الأولى.. وعندما وصل النبأ إلى الناس، أقفلت حيفا محالها، وتدفقت إلى بيت القسام، وجاءت الوفود من جميع أنحاء فلسطين، لتشارك في تشييع الجنازة، وأخذت المآذن تزف خبر الشهداء في جميع أنحاء البلاد.
وفي بيت الشهيد القسام لفت النعوش الثلاثة بأعلام الدول العربية، رمز وحدة الأمة، وحملت الجماهير النعوش الثلاثة، واتجهت إلى جامع الجرينة -النصر- في وسط حيفا، رغم أنف السلطات البريطانية.. وبعد صلاة الجنازة أبّن الشيخ يونس الخطيب -قاضي مكة الأسبق- الشهداء بكلمة مؤثرة، بيّن فيها أجر الشهداء عند ربهم.
وبذلت جهود حتى أمكن الخروج بالشهداء من المسجد إلى الساحة الكبرى أمامه، وأستعير هنا قلم الأديب الألمعي الأستاذ أكرم زعيتر ليصف موكب الشهداء الذي رافقه من المسجد إلى مثواه الطاهر:
“آلاف المشيعين والجثث على الأكف مرفوعة تصرخ: الله أكبر، الله أكبر، والنساء يزغردن من على ظهور البيوت والشرفات والنوافذ، والكشافة ينشدون أناشيد تثير النخوات، ثم ارتفع صوت والجثث مرفوعة: الانتقام الانتقام! فردّدت الألوف بصوت واحد كالرعد القاصف: الانتقام الانتقام! وبعد جهد شاق، سار الموكب وئيداً، وأصوات تدوّي: الله أكبر، الله أكبر… إلى أن اقتربنا من دائرة البوليس.
وقد بلغ التأثر والهياج من الجمهور مبلغاً هائلاً، فراح يرجم دائرة البوليس بالطوب والحجارة رجماً متواصلاً، وكانت الحجارة تنهال على الدائرة ونوافذها، كالوابل المدرار.. وكانت ثلاث سيارات للبوليس واقفة أمام الدائرة فحطمها الجمهور الثائر.. كل هذا ونعوش الشهداء على الأكف، ونحن وقوف، وقد قفَّ شعر رؤوسنا7.
وبعد لأيٍ.. استأنف الموكب سيره إلى أن وصلنا إلى آخر شارع الملوك، حيث النصب التذكاري للملك فيصل الأول ذكرى مرور جثمانه قبل سنتين بحيفا، فوقفنا وقرأنا الفاتحة لروح فيصل بن الحسين، واستأنفنا السير حتى وصلنا إلى مقربة من محطة السكك الحديدية، فهاجمها الجمهور بالحجارة، وتوقف الموكب والشهداء على الأكف.
وفي هذه الأثناء أقبلت كتيبة من الجند البريطاني المدجج بالسلاح، يقودها الضابط (جيمس) بخوذها الفولاذية، وإذا بالجمهور يضع الجثث على الأرض، لا هَرَباً ولا خوفاً، ولكن ليدخل في معركة مع البريطانيين الذين جاؤوا لقمع الموكب، ونزلوا من السيارات واصطدموا بالشعب. يقول أكرم: وقد رأيتُ -والحمد لله- الضابط جيمس يقع على الأرض، ورأيتُ جندياً آخر وثالثاً يُجرحون.. وأدركت القوة بقيادة جيمس ألّا قِبل لها بمقارعة الجمهور، فانسحبت مسرعة، ورفع الجمهور الجثث على الأكف ثانية وهو يهتف: الله أكبر، الانتقام!
واستأنف الموكب السير، وكان مقرراً للجنازة أن تقف عند دار الشهيد القسام، وأن ترسل النعوش في السيارات إلى مقبرة (بلد الشيخ) البعيدة عدة أكيال، وقفنا والجو مكهرب، وعزفت الموسيقى نشيدها الحزين وتقدم بعضهم لوضع النعوش في السيارات ولكن الجمهور الثائر الفائر حال دون ذلك، وأصر على أن يستأنف السير والنعوش على الأكتاف إلى المقبرة مشياً على الأقدام، خمسة أكيال، حيث ووريت الجثث التراب، وهي في حالها الطبيعية، وفي ملابسها المخضبة بالدماء الزكية.. وتصوّر كيف شاهد الجمهور شهداءه الأبطال يُدفنون بثياب الجهاد المخضبة بالدماء، وقد استغرق السير بالجنازة من الجامع الكبير في ساحة الجرينة إلى مقبرة (الياجور) ثلاث ساعات ونصف الساعة”.




