
قصف مكثف ونسف منازل وتشريد شمال غزة
سبتمبر 19, 2025
القرضاوي والسياسة والتطبيع
سبتمبر 19, 2025ول ديورانت-المؤرخ الأمريكي
قضى النبي معظم العامين الباقيين من حياته في المدينة، وكان ينتقل فيها من نصر إلى نصر، فقد خضعت فيهما بلاد العرب كلها، بعد فتن قليلة الشأن، إلى سلطانه ودخلت في دين الإسلام.
وجاء إلى المدينة كعب بن زهير، أعظم شعراء العرب في ذلك الوقت، وكان قد هجا النبي في بعض قصائده، وأسلم نفسه إليه، واعتنق الإسلام، فعفا عنه النبي، وأنشأ الشاعر قصيدة عصماء في مديح النبي أجازه عليها ببردته، وعاهد النبي المسيحيين في بلاد العرب، وأخذ على نفسه أن يحميهم وأن يكونوا أحرار في ممارسة شعائر دينهم نظير ضريبة هينة، ولكنه نهاهم عن الربا.
ويقول المؤرخون إنه بعث الوفود إلى ملك الروم، وملك الفرس وإلى أمير الحيرة وبني غسان، يدعوهم إلى الدين الجديد؛ ويلوح أن أحداً منهم لم يرد على رسائله، وكان يشهد بعين المستسلم الفيلسوف الحروب المشتعلة نارها بين فارس وبيزنطية وما جرته على الدولتين من خراب، ولكنه يبدو أنه لم يفكر قط في توسيع سلطانه خارج حدود بلاد العرب.
وكانت أعمال الحكومة تشغل وقته كله، فقد كان يُعنى أشد العناية بكل صغيرة وكبيرة في شؤون التشريع والقضاء، والتنظيم المدني، والديني، والحزبي. وحتى التقويم نفسه قد عني بتنظيمه لأتباعه، فقد كان العرب يقسمون السنة كما يقسمها اليهود إلى اثني عشر شهراً قمرياً، وكانوا يضيفون إليها شهراً كل ثلاث سنوات لكي تتفق مع السنة الشمسية. فأمر النبي أن تكون السنة الإسلامية اثني عشر شهراً على الدوام كل منها ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون على التوالي، وكانت نتيجة هذا أن أصبحت السنة الإسلامية فيما بعد غير متفقة مع فصول السنة، وأن تقدم التقويم الإسلامي سنة كاملة على التقويم الجريجوري كل اثنتين وثلاثين سنة.
ولم يكن النبي مشرعاً علمياً، فلم يضع لأمته كتاباً في القانون أو موجزاً فيه، ولم يسِر في تشريعه على نظام مقرر…
ومع اضطلاع النبي بهذه الشؤون كلها فقد كان جم التواضع إلى درجة تحببه إلى النفوس، وكثيراً ما كان يعترف بأن ثمة أموراً لا يعرفها، ويحتج على الذين يظنونه أكثر من إنسان يجري عليه ما يجري على الناس جميعاً من موت ووقوع في الخطأ.
ولم يدعِ في يوم من الأيام أنه قادر على معرفة الغيب أو الإتيان بالمعجزات…
وتزوج النبي بعشر نساء وكانت له اثنتان من السراري هن مبعث الدهشة والحسد والتعليق والمدح عند الغربيين، ولكن علينا أن نذكر على الدوام أن نسبة الوفيات العالية من الذكور بين الساميين في العصر القديم وفي بداية العصور الوسطى جعلت تعدد الزوجات، في نظر هؤلاء الساميين، ضرورة حيوية تكاد تكون واجباً أخلاقياً.
وكان تعدد الزوجات في نظر النبي أمراً عادياً مسلماً به لا غبار عليه، ولذلك كان يقبل عليه وهو مرتاح الضمير لا يبغي به إشباع الشهوة الجنسية، ويروى عن عائشة حديث عن النبي مشكوك في صحته يقول فيه: “حُبب إلي من دنياكم ثلاث: الطِّيب، والنساء، وقُرة عيني في الصلاة”. ولقد كانت بعض زوجاته من أعمال البر والرحمة بالأرامل الفقيرات اللاتي تُوفي عنهن أتباعه أو أصدقاؤه، وكان بعضها زيجات دبلوماسية كزواجه بحفصة بنت عمر الذي أراد به أن يوثق صلته بأبيها، وكزواجه من ابنة أبي سفيان ليكسب بذلك صداقة عدوه القديم. وربما كان الدافع إلى بعضها أمله في أن يكون له ولد، وهو أمل حُرم منه زمناً طويلاً.
وكانت زوجاته كلهن ما عدا خديجة عقيمات، وكان هذا موضع السخرية بين أعدائه، ولم يبقَ من أبنائه الذين رُزقهم من خديجة إلا فاطمة. وقد رُزق من مارية القبطية -التي أهداها إليه نجاشي الحبشة- بولد اغتبط النبي بمولده أشد الاغتباط، ولكن إبراهيم مات بعد خمسة عشر شهراً من مولده.
وكثيراً ما ضايقه نساؤه بمنازعتهن، وغيرتهن، ومطالبهن، ولكنه أبى أن يجيبهن إلى مطالبهن الكثيرة، ووعدهن بالجنة، وقضى بعض الوقت يعدل بينهن فيقضي ليلة عند كل واحدة منهن، ذلك أن سيد بلاد العرب كلها لم يكن يملك بيتاً خاصاً له، غير أن عائشة قد استأثرت بأكبر من حقها من عنايته، فغضبت لذلك زوجاته الأخريات حتى نزلت الآية: ﴿تُرۡجِی مَن تَشَاۤءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِیۤ إِلَیۡكَ مَن تَشَاۤءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَیۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكَۚ ذَ لِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن تَقَرَّ أَعۡیُنُهُنَّ وَلَا یَحۡزَنَّ وَیَرۡضَیۡنَ بِمَاۤ ءَاتَیۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا فِی قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَلِیمࣰا﴾ [الأحزاب: ٥١].
وكانت حياة النبي فيما عدا النساء والسلطان غاية في البساطة، فقد كانت المساكن التي أقام بها واحداً بعد واحد كلها من اللبن، لا يزيد اتساعها على اثنتي عشرة أو أربع عشرة قدماً، ولا يزيد ارتفاعها على ثمان أقدام، سقفها من جريد النخل، وأبوابها ستائر من شعر المعز أو وبر الجمال. أما الفراش فلم يكن أكثر من حشية تُفرش على الأرض ووسادة، وكثيراً ما كان يُشاهد وهو يخصف نعليهِ؛ ويرقع ثوبه، وينفخ النار، ويكنس أرض الدار، ويحلب عنزة البيت في فنائه، ويبتاع الطعام من السوق. وكان يأكل بيده، ويلعق أصابعه بعد كل وجبة، وكان طعامه الأساسي التمر وخبز الشعير، وكان اللبن وعسل النحل كل ما يستمتع به من الترف في بعض الأحيان.
ولم يتعاطَ الخمر التي حرمها هو على غيره، وكان لطيفاً مع العظماء، بشوشاً في أوجه الضعفاء، عظيماً مهيباً أمام المتعاظمين المتكبرين، متسامحاً مع أعوانه، يشترك في تشييع كل جنازة تمر به، ولم يتظاهر قط بأبهة السلطان. وكان يرفض أن يوجَّه إليه شيء من التعظيم الخاص، يقبل دعوة العبد الرقيق إلى الطعام، ولا يطلب إلى عبد أن يقوم له بعمل يجد لديه من الوقت والقوة ما يمكنانه من القيام به لنفسه. ولم يكن ينفق على أسرته إلا القليل من المال رغم ما كان يرد إليه من الفيء وغيره من الموارد، أما ما كان ينفقه على نفسه فقد كان أقل من القليل.
وكان يخص الصدقات بالجزء الأكبر من هذا المال، لكنه كان ككل الناس يعنى بمظهره الشخصي ويقضي في تلك العناية كثيراً من الوقت، فكان يتعطر ويكتحل، ويصبغ شعره، ويلبس خاتماً نُقش عليه “محمد رسول الله” وربما كان الغرض من هذا الخاتم هو توقيع الوثائق والرسائل.
وكان صوته موسيقياً حلواً يأسر القلوب، وكان مرهف الحس إلى أقصى حد، لا يطيق الروائح الكريهة، ولا صلصلة الأجراس، أو الأصوات العالية: ﴿وَٱقۡصِدۡ فِی مَشۡیِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَ ٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِیرِ﴾ [لقمان ١٩]…
وكان حلو الفكاهة فقد قال مرة لأبي هريرة، وكان يتردد عليه كثيراً: “يا أبا هريرة زُرْ غِباً تزدَد حُباً”.
وكان محارباً صارماً لا يرحم عدواً، وقاضياً عادلاً… ولكن أعماله الرحيمة أكثر من أن تُعد.
وقد قضى على كثير من الخرافات الهمجية كفقء أعين بعض الحيوانات لوقايتها من الحسد، أو ربط بعير الميت عند قبرهم. وكان أصدقاؤه يحبونه حباً يقرب من العبادة، وكان أتباعه يجمعون بصاقه أو شعره بعد قصه، أو الماء الذي يغسل به يديه، لاعتقادهم أن في هذه الفضلات شفاء لهم من ضعفهم أو مرضهم.
وقد أعانه نشاطه وصحته على أداء جميع واجبات الحب والحرب، ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره، وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحميات ونوبات غريبة. وتقول عائشة إنه كان يخرج من بيته في ظلام الليل، ويزور القبور، ويطلب المغفرة للأموات، ويدعو الله لهم جهرة، ويهنئهم على أنهم موتى.
ولما بلغ الثالثة والستين من عمره اشتدت عليه هذه الحميات، وحدث في إحدى الليالي أن شكت عائشة الصداع، وأن شكاه هو نفسه وسألها وهو يمازحها هل تفضل أن تموت هي قبله، فتحظى بأن يدفنها رسول الله، فأجابته بحديثها المعهود، أنه حين يعود من دفنها سيأتي بعروس أخرى مكانها. وظلت الحمى تعاوده أربعة عشر يوماً بعد ذلك الوقت، وقبل وفاته بثلاثة أيام نهض من فراشه، ودخل المسجد وشاهد أبا بكر يؤم المسلمين للصلاة بدله، فجلس متواضعاً إلى جانبه حتى أتم صلاته. وفي اليوم السابع من شهر يونيه عام 632 توفي ورأسه على صدر عائشة.
أعظم عظماء التاريخ
وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمداً كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانِه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقلّ أن نجد إنساناً غيره حقق كل ما كان يحلم به.
وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، فقد لجأ إلى خيالهم، وإلى مخاوفهم وآمالهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، وكانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة.
وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية، ودين بلاده القديم، ديناً سهلاً واضحاً قوياً، وصرحاً خلقياً قوامه البسالة والعزة القومية.
واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم.