
الاحتلال يقتحم رام الله وسط مواجهات عنيفة مع الفلسطينيين
سبتمبر 17, 2025هنري دي كاستري- مستشرق فرنسي
كنتُ كلما بحثت في الديانات، مع صاحب لي من طلبة العلم في تلمسان، وأراد الهرب من الجدال، يُجيبني: “هم يقولون إن لله ولداً، وإن محمدًا لمن الساحرين”! إجابة مملوءة بالاحتقار، كما يجيب صاحب المعتقد وثنيًا، يُريد أن يُشفق عليه، وذلك مع مبالغته في احترامي، وحسن الصلات بيننا.
وكان يرى أن التثليث خرافة فادحة، كسحر محمد، وأن المسيحيين الذين اخترعوا البدعتين قوم لا ينبغي الجدال معهم. ولست أدري ما الذي يقوله المسلمون لو علموا أقاصيص القرون الوسطى وفهموا ما كان يأتي في أغاني القُوَّال من المسيحيين؛ فجميع أغانينا -حتى التي ظهرت قبل القرن الثاني عشر- صادرة عن فكر واحد كان السبب في الحروب الصليبية. وكلها محشوة بالحقد على المسلمين للجهل الكلي بديانتهم.
وقد نتج عن تلك الأناشيد تثبيت هاتيك القصص في العقول ضد ذلك الدين، ورسوخ تلك الأغلاط في الأذهان. ولا يزال بعضها راسخاً إلى هذه الأيام. فكل ناشد كان يعد المسلمين مشركين غير مؤمنين، وعبدة أوثان مارقين. وقد جعلوا لهم ثلاثة آلهة، هم على ترتيب درجاتهم: “ماهوم”. ويُنطق: ماهوم، وبافوميد وماهوميد. وهو محمد. ثم “آبلّين”، ثم “ترفاجان”!
وذهبوا إلى أن محمداً وضع دينه بادعائه الألوهية، ومن المستغربات قولهم: إن محمدًا -الذي هو عدو الأصنام ومبيد الأوثان- كان يدعو الناس لعبادته في صورة وثن من ذهب كما كان يعتقد “الكارولنجيون”، أن المسلمين لما غلبهم الإفرنج وصدوهم إلى أسوار سرقسطه، عادوا إلى أصنامهم فحطموها. كما طنطن به أحد منشدي ذلك العصر حيث قال: “وكان آبلين في مغارة هناك، فتراموا عليه، وأوسعوه شتماً وسباً، وصلبوه من يديه في أحد العمدان، وجعلوا يدوسونه بأقدامهم، ويُوجعونه ضرباً بالعصي حتى هشموه. وأما “ماهوم”، فقد رموه في حفرة وتركوا الكلاب والخنازير تنهشه وتمشي عليه. وتلك إهانة لم تصب إلهاً قبله”!
ويظهر أن المسلمين لم يلبثوا أن تابوا من ذنبهم، واستغفروا آلهتهم، وأصلحوا ما أتلفوه منها. ولذلك أمر الإمبراطور كارلوس بإبادتها لما دخل سرقسطه كما جاء في قول ذلك الشاعر: “وقد أمر الإمبراطور الفرنسيين، فطافوا جميع أنحاء المدينة، ودخلوا المساجد والجوامع وبأيديهم مطارق من حديد، فكسروا بها ماهوميد، وجميع الأوثان والأصنام”. وكذلك يقول “ريشار” في أناشيده، وهي جميلة لا شيء من الخرف فيها، إلا أنها زور وبهتان حيث يطلب من الله أن يوقع الفشل العميم بين “أولئك الذين يعبدون صورة ماهوم”.
ثم جعل يحرض الأشراف على الحرب المقدسة، وينصحهم أن ينكسوا أصنام المسلمين: “قوموا ونكسوا صنم ماهوميد وترفاجان وصبوهم على النار وقدموهم إلى ربكم”.
وذهبوا إلى أن صورة ماهوم كانت تُصنع من أنفس الأحجار والمعادن، بأحكم صنع، وأدق اتفاق، ومن قرأ وصفه في أناشيد “رولان”، كاد يحلف أن ذلك الشاعر إنما يصف عن خبر وعيان! يقول: “وكانت كلها من الذهب والفضة. لو شاهدتها لأيقنت أنه لا يمكن للعقل أن يتصور أجمل منها، عظيمة الشكل، لطيفة الصنع، تلوح على وجهها سمات الشهامة. كان ماهوم من ذهب وفضة يأخذ بريقها بالأبصار، قد وُضع فوق فيل، على جلسة من أجمل المصنوعات، خاويًا من جوفه، فيرى الضوء من خلاله مرصعاً بنفائس الأحجار المضيئة. يرى الناظر باطنه من الظاهر. وهو صنع عزّ عن المثال والنظير”!
ولما كانت الآلهة تُنزل الوحي وقت الشدائد وانهزم المسلمون في إحدى غزواتهم، بعث قائدهم إلى مكة؛ يطلب ربه. قال الراوي: “فجاء الإله محمد في موكب عظيم، يضرب بالطبل والمزامير ضرباً يسمع له دوي قاصف. وبعضهم يغني بالمزمار، والآخر بصفارة من الفضة والكل حولهم يرقصون، ويُغنون بأعلى أصواتهم وأقبلوا به فرحين، حيث المجلس معقود والخليفة الديني في انتظاره. فلما رآه قام يعبده بخضوع وخشوع”.
ثم أخذ “ريشار” بعد ذلك يقص كيفية مناجاة أولئك الوثنيين لذلك الصنم الذي وصفه بالتجويف، وأن لا شيء في باطنه إلا ويرى من الخارج. فقال: ” وقد وضعوا في جوفه عفريتاً، استحضره السحرة، وصار ينط ويُعربد، ثم أخذ يكلم المسلمين وهم يسمعون”.
ولقد زاد بغضهم لذلك الصنم، حتى جعلوه علامة على الدين الإسلامي كما جعلوا الصليب علامة للدين المسيحي فروى “بودوان” في نشيده على الكونتيسة “بونتيو”، لما أرادت أن تعتنق الإسلام أمام صلاح الدين أنها قالت: “أريد أن أعبد محمدًا فائتوني به، فلما صار بين يديها، خرت ساجدة إليه”.
ويأخذ القارئ من نشيد آخر، يظهر أنه وضع تتمة لأناشيد “بودوان”، وجود إلهين للمسلمين غير الذين سبق ذكرهم وهما “بارتوان” و”جوبين”. إلا أن الثلاثة الأولين هم الرؤساء!
ولما ردَّ أحد قواد المسيحيين جيش المسلمين الذي خرج من مكة، أخذ الشاعر يصف اضطراب المسلمين كما يأتي: ” وقد جعل الوثنيون يصيحون ويصرخون ويموجون بينهم، ويهرجون وينادون بأعلى أصواتهم يا “ترفاجان” یا “ماهوم”!
ومع ذلك، يوجد نشيد من أناشيد القرون الوسطى، لا يرى فيه القارئ رمزاً إلى محمد بالصنم. وهو للقسيس “إسكندروديون”، ألفه سنة ١٢٥٨م، أخذا عن مسلم تنصّر من ذوي الاعتبار. وعدّ الناس تلك القصة تاريخاً صحيحاً عن ذلك. وقد جاء فيها: “إنه من المعلوم أن محمداً كان عالماً بطرق المكر والخيانة والخداع”.
ثم شبَّهه بأحد الأمراء، المحاط بأتباعه، ينشر دينه على أبسط حال، حتى اعتقده الناس أكثر مما اعتقدوا حبر روما.
ولقد أطلنا القول في تلك الأضاليل؛ لأن تاريخ “إسكندر” المذكور لم يُزلها؛ ولأنها تركت أثراً في الأذهان، وصل إلى أهل هذه الأيام، وتشبعت به أفكارهم في النبي وكتابه. ولو سأل سائل: هل كان أولئك المنشدون يعتقدون صحة ما يقولون؟ لأجبناه جواب أهل الفلسفة: لا ونعم. إذ من المحقق أن الاختلاط بين المسيحيين والمسلمين سهل للمنشدين معرفة الدين الإسلامي على حقيقته، ولكنهم ما كانوا يقصدون الحقائق التاريخية في أناشيدهم، بل حفظ روح البغضاء في نفوس قومهم؛ فاحتاجوا في ذلك إلى وصف المسلمين ونبيهم ودينهم، بالأوصاف التي تؤثر في نفوس المنشود لهم على حسب معارفهم وأميالهم.
وإذا انتقلنا من شعراء القرون الوسطى إلى مَن جاء بعدهم من المؤرخين والمتكلمين الباحثين في علم التوحيد، الذين يظهر من كتبهم في ذلك الزمن أنهم ميالون إلى الاعتدال وجدنا مؤلفاتهم محشوة بتلك الأقاصيص الخرافية مملوءة بالطعن والشتائم في نبي المسلمين. وكان المصلحون وهم البروتستنت أيام دعوتهم لإصلاح الدين المسيحي أشد تعصباً ضده من غيرهم، فقد اعتنى “بيبلياندر” بتشبيه محمد بالشيطان وعاملوا كتابه وشرعه كما عاملوه. ولسنا نقيم برهاناً على ما نقول غير توجيه نظر القارئ إلى مطالعة ما جاء في مقدمة كتاب “ريلان”، الذي ألفه سنة ۱۷۲۱م تحت عنوان: “ما هو السبب في أن الناس عامة لا يعرفون من الديانة المحمدية إلا شيئًا يسيرا”؟ حيث يقول: “لو أراد الباحثون أن يصمُوا مذهباً أو طريقة بوصمة الخزي والعار، نسبوها إلى محمد. فقالوا مذهب محمدي، أو طريقة محمدية.. وهكذا”.
وألّف القس “دون مارتينو الفرنسو كيكالدو” كتاباً سماه: “سراج الكنيسة المقدسة الذهبي”. جاء فيه: “إن كتاب محمد لا تلزم قراءته، بل يجب أن يُسخر به، وأن يحتقر ويُرمى في النار أنَّى وُجِدَ. ولا يليق أن يحفظه الناس؛ لأنه عمل بهيمي”.
وبعضهم كان لا يقول بحرقه، ولكنه يرى أنه: “من العبث أن يجهد الإنسان نفسه، ويزيد إيلامها بحفظ هزئيات وأمور تافهة منشؤها خيالات شخص اختل عقله، واضطربت قواه”.
وأما المسلمون، فمن أسمائهم في تلك الكتب: البلَدة، والكسالى، والحمير والحمر الوحشية، والممقوتون الذين يملأون المنزل بالنساء في الليل، ويطلقونهن في النهار.
ولو أردت الاطلاع على جعبة الشتائم والسباب، فعليك بكتاب ألفه أحد اليسوعيين، وهو “بروشار”، وسماه “مرشد السياحة”. وقدمه إلى الأمير “فيليب روكالو” سنة ۱۳۳۲م. وذكر فيه الأسباب التي تحمله على الدعوة إلى حرب صليبية. فقال:
” من ذا الذي لا يذرف عبرات الدمع، عندما يعلم أي الرجال هم قابضون اليوم على تلك البقاع، التي هي ميراثنا، أولئك قوم لا رب لهم، ولا دين يهديهم، ولا شرع يرجعون إليه، ولا عهد، ولا رحمة. أولئك قوم أخساء أدنياء. وهم أعداء لكل حقيقة في الوجود، وكل صفاء، وكل خير، وكل عدل. أولئك هم أعداء الصليب الكافرون بالله المضطهدون للمسيحيين المفرطون في نسائهم الفاسقون بالأطفال الظالمون لعجم الحيوانات المخالفون لطبائع البشر، القتالون للفضائل، المميتون للأخلاق الغارقون في القبائح والخطايا. أولئك هم أولياء الشيطان، وأنصار الدنايا، ذوو حقد وبغض، ذوو أفكار سافلة، وأعمال سخيفة وعيشة دنيئة، وأقوال بذيئة وعشرة سوء معدية. لا تنصرف إرادتهم، ولا تتجه هممهم، إلا إلى اللذائذ البهيمية، والمعيشة الهمجية. أولئك هم القوم الذين أبعدونا عن تلك البقاع، وآذونا في هذه البقعة الصغيرة، التي نحن فيها، مستهزئين بنا، وساخرين بديننا. أولئك هم الذين خربوا بيت الله وملكوا المدينة المقدسة، التي هي مهبط شرعنا، ولوثوا أماكنها المقدسة المطهرة”.
ولم يزل هذه الروح سائدة عند المسيحيين، حتى أن المستشرق “بريدو” الإنجليزي ألف سنة ١٧٢٣م كتابًا في سيرة النبي عنوانه: “حياة ذي المدح محمد”، وترجمه بعضهم إلى لغتنا، وجعل له مقدمة بيّن فيها مقصد المؤلف. فقال: “إن غرض واضع هذا الكتاب هو خدمة المقصد المسيحي الحكيم، بذكر حياة ذلك الرجل الشرير محمد”.
أولئك كُتاب ما قصدوا التاريخ، ولكنهم أرادوا خدمة المقصد المسيحي الحكيم-كما يقولون- وكان سلاحهم الوحيد في تأييد سواقط حججهم، أن يُشبعوا خصمهم سباً وشتماً، وأن يُحرّفوا في النقل ما استطاعوا.
وأراد “داماسين” أن يخالفهم في التأليف، لكونه تربى في دمشق الشام، وكان مقرباً عند الحلفاء، فجعل يورد دين الإسلام من غير تعصب، لذلك عدّه بدعة في الديانة المسيحية، تَقرُب من بدعة “أريوس”.
ومع ذلك، فلم تؤثر عبارته في رأي الغربيين، بل ظلوا يعتقدون الخرافات في النبي، وقرآنه، وكان رؤساؤهم الروحانيون يجتهدون دائماً في تأييدها وتمكينها من الأذهان، وهي سياسة جعلت الناس عندنا يهزءون بالدين الإسلامي، وأغنت الباباوات عن حربه حرباً صحيحة. فقد كانت الكنيسة اللاتينية في القرن الثامن مشتغلة بأمور أخرى؛ لأن الكنيسة الشرقية كانت واقعة بين عاملين مضرين هما: أحزاب النفسين في جسد، وأحزاب النفس الواحدة في جسم واحد.
ولم يبدأ البحث في الإسلام بغير تعصب، ولا تشيع، إلا في زمننا هذا. ففي القرن التاسع عشر، أخذ الباحثون ينظرون إلى المسألة نظر الناقد البصير. وكان من وراء ذلك أن افترق الناس في القرآن إلى معجب به، وطاعن فيه. ومع ذلك، لا نزال نرى في لسان هذا القسم الأخير ما تُشتمّ منه رائحة تأثرهم بالأفكار الماضية. قال مسيو “دروختي” في سياحته في بلاد الغرب التي نشرها سنة ۱۸۷۸م عن النبي: “إنه عربي خائن دني”. وقد نسي أن هذه الألفاظ التي يشمئز منها السامع، لم تعد تصلح اليوم حجة على صحة الدعوى.
وأول ما دار البحث فيه مسألة صدق النبي في رسالته. وقد قلنا: إن ذلك الصدق متفق عليه بين المستشرقين والمتكلمين على التقريب. ومعلوم أنه لا ارتباط بين هذه المسألة، وبين كون القرآن كتاباً منزلاً من عند الله.
ولسنا نحتاج في إثبات صدق محمد إلى أكثر من إثبات أنه كان مقتنعاً لصحة رسالته وحقيقة نبوته. أما الغرض من تلك الرسالة في الأصل فهو إقامة الإله الواحد مقام عبادة الأوثان، التي كان عليها قبيلته قبل ظهوره.
وبيان ذلك أن إسماعيل لما حنقت عليه سارة، وطُرد من عائلة أبيه، توجه إلى بلاد العرب، ونقل إليها ديانة أبيه إبراهيم، إلا أنه لم يبقَ بين العرب من تلك الديانة سوى شيء قليل، يشبه الخيال؛ إذ لم يكن عندهم من يذكّرهم على الدوام بأن رب إبراهيم هو رب عزيز، لا يقبل له شريكاً، كما حصل ذلك لنبي إسرائيل. ولا يزال هذا الاعتقاد يزول شيئًا فشيئًا، وتحل محله عبادة الآلهة، التي كانت معروفة في أمم أخرى حتى نُسي دين إسماعيل تماماً.
ثم دخلت اليهودية في بعض القبائل المجاورة لبلاد الشام، ولكن الديانة المسيحية لم تعلق في تلك البقاع حتى أن “تنث” قس بصرة، اعترف في القرن الرابع بأن معيشة العرب الرحالة النقالة، تمنع من انتشار تلك الديانة في بقية جزيرة العرب.
تلك هي حالة الدين ببلاد العرب إلى القرن السابع. وقد بحث فيها الكُتاب كل على حسب أمياله وكما اعتقد؛ لذلك تناقضت أقوالهم في اعتبارهم، والحكم على أهلها. فقال مسيو “رينان”: “لا يوجد في تاريخ التمدن كله صورة أجمل من حالة بلاد العرب قبل الإسلام”. ومن رأيه أن القبائل في تلك البقاع كانت تدين باليهودية، أو بالدين المسيحي، وكانت مشتغلة بحركة دينية عظيمة.
وقال مسيو “بارتيلي سانت هيلير”: “لو صح أن أولئك القوم كانوا على جانب عظيم من التمدن كما يدعون، لما احتاجوا إلى تلك التعاليم الأدبية، التي تقشعر أبداننا لسماعها: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ﴾ [النساء: 23] ومن رأي المؤلف: أن العرب كانت أمة متبربرة في حالة من التوحش، تقرب من حالة العبرانيين أيام بعث فيها موسى بمثل ما تقدم من المحرمات.
ولست أريد الخوض في ترجيح أحد الرأيين، ولكني أرى التوسط في الأمور أقرب إلى الصواب، وأن أمة العرب قبل النبي كانت وثنية على وجه العموم وكان مذهب توحيد الإله يخطر في الأذهان رويداً رويداً. وكان المشخصون لهذا الاعتقاد، فريق يُقال لهم “الأحناف”، بقوا على مذهب إبراهيم .
أما المسيحيون فكانوا فرقاً كثيرة، كلها تعتقد بمذهب التكثير (تعدد الآلهة والتثليث).
وتلقى محمد مذهب أولئك الأحناف بحالة سطحية، ولكن لما كانت نفس ذلك النبي مفطورة على التشبع بالدين تكيف هذا المذهب في وجدانه حتى صار اعتقادًا لم تصل إليه نفس قبله إلا قليلاً، وهو ذلك الاعتقاد المتين الذي أحدث انقلاباً كلياً في النوع البشري.
ومن الخطأ أن يبحث عن هذا المبدأ العميم فيضه من غير طريقة الأحناف؛ لأن محمداً ما كان يقرأ ولا يكتب، بل كان كما وصف نفسه مرارا نبياً أمياً. وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه. ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس؛ لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان. على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين في تلك الأقطار. ولم يكن بمكة قارئ أو كاتب سوى رجل واحد ذكره “جارسين دي تاسي” في كتابه الذي طُبع سنة ١٨٧٤م.
وكذلك من الخطأ مع معرفة أخلاق الشرقيين أن يُستدل على معرفة النبي للقراءة والكتابة، باختيار السيدة خديجة رضي الله عنها إياه لمتاجرها في الشام، ويقال: إنه لم تكن خديجة لتعهد إليه أعمالها في التجارة إن كان جاهلاً غير متعلم. فإنا نشاهد بين تجار كل قوم -غير العرب- وكلاء، لا يقرءون، ولا يكتبون، وهم في الغالب أكثرهم أمانة وصدقاً.
إذن، ثبت مما تقدم أن محمدًا لم يقرأ كتاباً مقدساً، ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه، خلافاً لما ذهب إليه “إسكندر ديون” حيث يقول: “إنه كان يعرف في دين عيسى قراءة وكتابة”.
نعم، إن البحث عن معرفة المصادر التي عساه يكون تلقى عنها بالمشافهة ديانة المسيح، أو الديانة اليهودية، أو ديانة عباد الكواكب، قد يكون مفيداً لمعرفة الموافقات التي جاءت بين القرآن وبين التوراة، إلا أنه بحث ثانوي؛ إذ لو فُرض وكان القرآن قد نقل بعضاً من الكتب المقدسة الأخرى لبقي الأمر مشكلاً -كما كان عليه- في معرفة حقيقة ما اختلج بروحه الديني، وكيف وجد فيها ذلك الاعتقاد الثابت بوحدانية الله حتى استولى عليه روحاً وجسماً!
ولقد نعلم أن محمداً مرّ بمتاعب كثيرة، وقاسي آلاماً نفسية كبرى قبل أن يخبر برسالته، فقد خلقه الله ذا نفس تمحصت للدين. ومن أجل ذلك، احتاج إلى العزلة عن الناس؛ لكي يهرب من عبادة الأوثان، ومذهب تعدد الآلهة، الذي ابتدعه المسيحيون وكان بغضهما متمكناً من قلبه حتى كان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة في جسمه .
ولكي ينفرد محمد بما أُلهِم من الفكر العظيم، وهو وحدانية الله، اعتكف في جبل حراء، وأطلق العنان لفكره، يجول في بحار التأملات، عابداً متهجداً. ومضت عليه بهذه الحال ليال من ليالي هاتيك البقاع التي تملأ النفس انشراحاً، حتى جاء عنها في لسان العامة: أن الملائكة يسألون ربهم لو أذن لهم في الهبوط من السماء لقضاء ليلهم على الأرض؛ إعجاباً بجمال الليل فيها؛ وشوقاً إلى صفائه وجلاله.
ولعمري فيم كان يفكر ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين وهو في ريعان الذكاء، ومن أولئك الشرقيين الذين امتازوا في العقل بحدة التخيل وقوة الإدراك لا بوضع المقدمات وتعليق النتائج عليها؟
ما كان إلا أن يقول مراراً، ويُعيد تكراراً كلمات: “الله أحد، الله أحد”. كلمات رددها المسلمون أجمعون في عهده، ومن بعده، ولكن غاب عنا معشر المسيحيين مغزاها، وذلك لبعدنا عن فكرة التوحيد. ولم يزل عقل محمد منشغلاً؛ حتى ظهر هذا الفكر في كلامه على صور مختلفة، جاءت في القرآن، ومنها: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ * لَمۡ یَلِدۡ وَلَمۡ یُولَدۡ * وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ﴾ [الإخلاص: ١-٤].
وكانت مترادفات اللغة العربية تساعد محمدًا بمعانيها الرقيقة على ترداد ذلك الفكر السامي، الذي دل عليه، ومن تلك الأفكار، وهذه العبادة، تولدت كلمة الإسلام: “لا إله إلا الله”.
ذلك هو أصل الاعتقاد بالله بأنه فرد ورب صمد منزه عن النقائص. وهو اعتقاد يكاد العقل يتصوره. وهذا اعتقاد قوي يؤمن به المسلمون على الدوام، ويمتازون به على غيرهم من الشعوب والقبائل وأولئك حقاً هم المؤمنون، كما يسمون به أنفسهم!
ولقد يستحيل أن يكون هذا الاعتقاد وصل إلى النبي محمد من مطالعة التوراة والإنجيل؛ إذ لو قرأ تلك الكتب لردها؛ لاحتوائها على مذهب التثليث وهو مناقض لفطرته، ومخالف لوجدانه منذ خُلق؛ فظهور هذا الاعتقاد بواسطته في جزيرة العرب دفعة واحدة، هو أعظم مظهر في حياته، كما أنه بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته، وأمانته في نبوته.
أما مسألة الوحي بالقرآن، فهي أكثر إشكالاً وأكبر تعقيداً؛ لأن الباحثين لم يهتدوا إلى حلها حلاً مرضياً. والعقل يحار كيف يتأتى أن تصدر تلك الآيات عن رجل أميّ!
وقد اعترف الشرق قاطبة بأنها آيات، يعجز فكر بني الإنسان عن الإتيان بمثلها لفظاً ومعنى. آيات لما سمعها عتبة بن ربيعة حار في جمالها. وكفى رفيع عباراتها لإقناع عمر بن الخطاب فآمن برب قائلها. وفاضت أعين النجاشي إمبراطور الحبشة بالدموع!