
سيد قطب في ظلال القرآن (2)
سبتمبر 11, 2025د. يوسف القرضاوي رحمه الله
كلما أهل علينا شهر ربيع الأول تذكر الناس مولد أعظم شخصية في الوجود، وهي شخصية محمد ﷺ، الذي اصطفاه الله تعالى من خلقه، وصنعه على عينه، وأرسله رحمة للعالمين.
وللناس في هذا الشهر أحوال في الاحتفاء أو الاحتفال بمولد محمد ﷺ، واحتفاؤنا واحتفالنا واهتمامنا بمولده ﷺ ليس كما يصنع الجهال والغافلون من الناس؛ ليس بأن نقيم الزينات، أو نرفع الرايات، أو نوزع الحلوى، إنما احتفالنا به أن نتذكر هذا الرسول العظيم، أن نعيش في ذكراه، أي نعيش في ذكرى سيرته، أو ذكرى رسالته ﷺ.
إن هذا الرسول العظيم قد ترك لنا سيرة طاهرة عاطرة، وترك لنا رسالة عامة خالدة، صالحة مصلحة لكل زمان ومكان، والاحتفاء والاحتفال به أن نتذكر هذه السيرة وتلك الرسالة؛ فالسيرة النبوية هي من أنصع الأدلة على أن محمدًا ﷺ مرسل من ربه، لا يمثل نفسه، وإنما يمثل الإرادة العليا، إرادة الله عز وجل: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 3-5].
من قرأ هذه السيرة، عرف بصدق ويقين أن صاحبها لا يمكن أن يكون دعيًا، لا يمكن أن يكون دجالاً، كما لا يمكن أن يكون ملكًا أو طالب ملك، لا يمكن أن يكون رجل دنيا.. صاحب هذه السيرة صادق كل الصدق، يتمثل الصدق في هذه السيرة في كل جنباتها، ومن هنا كان علينا أن نقف وقفات في جوانب العظمة والخلود والطهارة والإشراق في هذه السيرة النبوية المحمدية.
حفظ السيرة النبوية
ومن حسن حظنا نحن المسلمين أن هذه السيرة محفوظة، مروية، مسجلة، مخلدة.. سير الأنبياء معظمها ضاعت، وما بقي منها لا يكون حلقات متصلة، وليس له إسناد يصلنا بهم، ولكن سيرة محمد ﷺ بقيت محفوظة.
السيرة محفوظة في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهي محفوظة في أحاديث رسول الله ﷺ، وفي سننه التي رواها الثقات في كتب الحديث الجامعة في الصحيحين، وفي الكتب الستة، وفي الجوامع والمصنفات والمسانيد. كما أنها محفوظة في كتب السيرة التي عنيت بهذا الأمر خاصة، مثل كتب ابن إسحاق وابن هشام وابن كثير وغيرهم. ومحفوظة في كتب الشمائل التي عنيت بأخلاقه وشمائله وهديه ﷺ. ومحفوظة في كتب الدلائل، ودلائل النبوة والآيات والمعجزات الحسية والمعنوية المتكاثرة والوفيرة. ومحفوظة في كتب التاريخ العام، التي خصصت جزءًا كبيرًا لحياته ﷺ.
السيرة محفوظة من ألفها إلى يائها، من المولد إلى الوفاة. في السيرة كيف وُلد؟ ومتى ولد؟ ومن أرضعه؟ ومن احتضنه؟ وكيف نشأ؟ وماذا عمل في صباه؟ وماذا عمل في شبابه؟ وماذا صنع في كهولته قبل البعثة وبعد البعثة، قبل الهجرة وبعد الهجرة؟
كل هذا تحكيه لنا سيرة محمد ﷺ، حلقات متصلة مروية بأسانيدها الصحاح. لا يوجد هذا لأي نبي من الأنبياء، ولا لأي عظيم من العظماء.
عموم وخلود رسالته ﷺ
الأنبياء الذين بعثهم الله بعثهم لمراحل موقوتة، لزمن محدود معلوم، ولأقاليم معينة، وأقوام مخصوصين. أما محمد ﷺ فكانت رسالته عامة خالدة خاتمة، امتدت طولًا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضًا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقًا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة.
لهذا تكفل الله بحفظ سيرته وسنته ﷺ في مجموعهما، باعتبارهما البيان النظري، والشرح العملي للكتاب الكريم. والله تكفل بحفظ كتابه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، والسنة والسيرة هما الشرح النظري والتطبيق العملي لكتاب الله، لهذا حفظهما الله سبحانه وتعالى.
شمول السيرة
إن سيرة رسولنا ﷺ تحكي لنا كل أحواله، أقواله وأعماله، وتقريراته، وأوصافه الخَلقية، وصفاته الخُلقية، وسيرته كلها. ليست هناك دائرة حمراء في هذه السيرة فيقال هذه لا تروى، أو هذا شيء خاص لا يُذكر للناس، لا، حياته كلها ﷺ مِلك للناس!
حتى صلته بأهله، حتى الصلة الجنسية تروى للناس، لأن فيها تشريعًا، ولأن فيها اقتداء. روت لنا السيرة كل حياته ﷺ:
في علاقته بربه، في علاقته بنفسه، في علاقته بزوجاته، في علاقته بأولاده، في علاقته بأحفاده، في علاقته بالناس، في علاقته بالأعداء، في سِلمه إذا سالم، في حربه إذا حارب، في صُلحه إذا صالح، كل هذا مروي في سيرة رسول الله ﷺ.
حتى حياته الخاصة، ترويها تسع نسوة، لو نسيت واحدة ذكّرتها الأخرى، ليكون كل شيء أمامنا واضحًا جليًا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
ما أحوجنا نحن المسلمين إلى أن نتدبر سيرة رسولنا ﷺ، أن نعيش مع هذه السيرة، أن نستجلي جوانب العظمة المحمدية، العظمة التي أشار إليها رب العزة في كتابه. أشار إلى جانب من جوانبها، وهو الجانب الخُلقي حينما قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]. الله زكى نبيه هذه التزكية وليس بعدها تزكية.
ما أحوجنا إلى أن ندرس هذه السيرة دراسة المتأمل البصير، لنعرف كيف نقتدي برسول الله ﷺ، وكيف نأخذ الأسوة، ونقتبس النور من هذه السيرة الجامعة لحياتنا.. لأنفسنا.. لبيوتنا وأسرنا.. لأبنائنا وبناتنا.. لمجتمعاتنا.. لحكامنا ومحكومينا.. نأخذ من هذه السيرة هديًا، وخير الهدي هدي محمد ﷺ.
إننا كثيرًا ما نقف عند الأشياء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، طالما كنت أسمع وأنا صغير قصة المولد، يقرأونها في القرى والأرياف، ومعظم هذه القصة تدور على أشياء وخوارق ليس فيها هذا الأمر الذي نريده: جانب القدوة، جانب التأسي، جانب العظمة في سيرة محمد ﷺ وفي رسالته. طالما رأينا المؤذنين يؤذنون على المآذن والمنابر، يقولون: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله! وما ثبت أنه أول خلق الله، الصلاة والسلام عليك يا مليح الوجه يا رسول الله! أفي ملاحة الوجه هذه مجال للقدوة؟!
المسلمون -أو أقول: الكثيرون منهم- أخطأوا فَهم شخصية رسول الله ﷺ، هذه الشخصية التي أنزلت عليها الرسالة الخالدة العامة، اختاره الله عز وجل ليختم النبوات والرسالات، ويعلن أنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده.
هذه الشخصية في حاجة إلى أن ندرسها، إلى أن نعرفها، وما أكثر الجوانب التي يمكن أن نقف عندها لنعرف عظمة الشخصية المحمدية.
لرسول العابد
خذوا الجانب الرباني من سيرته وحياته ﷺ، جانب التعبد لله سبحانه وتعالى. إن من يقرأ في هذا الجانب جانب العبادة.. الصلاة.. الصيام.. الذكر.. التسبيح.. التهليل.. التكبير.. الدعاء.. الاستغفار، يجد قلبًا نابضًا بحب الله سبحانه وتعالى، يجد لسانًا رطبًا بذكر الله تعالى، لا ينساه على كل حال، يذكر الله في كل أحواله، وعلى كل أحيانه.
انظروا إلى الرسول العابد الذي أمره الله تعالى بقوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، فكان يعبده في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه، في خلوته وجلوته، لا يفتر عن عبادة ربه. كان يعلم أن الإنسان ما خُلق إلا لعبادة الله، وأن عبادة الله هي المهمة الأولى لهذا المخلوق. كان يعلم أن مهمته أن يعبد الله عبادة مبنية على معرفة به ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56-58]. لهذا كان ﷺ أكثر الناس إقبالًا على الله.
شرع الله الصلوات الخمس لتربط المسلم بربه كل يوم خمس مرات، لا يوجد دين يربط الإنسان بمولاه هذا الربط الوثيق. ليكون دائماً على موعد مع ربه، كلما شغلته الشواغل، كلما غرق في لجة الحياة، كلما أنسته مطالب الدنيا، كلما غرق مع التجارات، مع الدينار والدرهم، لكنه حين يسمع المنادي ينادي: الله أكبر الله أكبر.. حي على الصلاة، حي على الفلاح، يترك البيع والشراء، ويترك دنياه ودنيا الناس، ويهرع إلى بيت الله، هكذا علم محمد ﷺ الناس.
علّمهم أن الحياة إنما تكون لله وبالله، وأن الإنسان يجب أن يتحرر لمولاه، هكذا علمه ربه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162- 163].
ولهذا كان ﷺ المسلم الأول في كل أمر، المسلم الأول في عبادته إذا تعبد، في ذكره إذا ذكر، في دعائه إذا دعا، في خُلقه إذا تخلّق، في جهاده إذا جاهد. كان المسلم الأول في عبادته لله، ولم تكن عبادته مجرد تسديد خانة، أو امتثالًا لأمر، بل كانت عبادته عبادة الحب والشوق إلى الله عز وجل. كان إذا قرب وقت الصلاة يتشوق إليها ويحن لها، ينتظر وقتها بفارغ الصبر، حتى إذا حان الوقت قال لمؤذنه: “قم يا بلال فأرحنا بالصلاة”. وما أعظم الفرق بين من يقول: “أرحنا بها”، ومن يقول: “أرحنا منها”!
إنها صلاة الحب، لا مجرد صلاة الأمر، إنه كان يجد فيها نفسه، يجد فيها غذاء قلبه، وانشراح صدره، وحياة روحه، وقرة عينه. وقد قال ﷺ: “وجُعلت قرة عيني في الصلاة”.
كان يصلي الصلوات الخمس في ميقاتها.. في جماعتها، بخشوعها، وركوعها، وسجودها، وإسباغ وضوئها. وما كان يكتفي بها، بل كان له صلوات: كان يصلي من الليل، ما كانت متاعبه لتشغله عن وقوفه بين يدي ربه. إذا جنّ الليل وأرخى ستوره، وغارت النجوم، وهدأت العيون، وأوى كل ذي فراش إلى فراشه، كان يقوم من الليل، ويصف قدميه مصليًا لله عز وجل، ويناجيه فيقول:
“اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وما أسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت”.
هذا هو النبي العظيم، ما شغلته متاعب الحياة، ومتاعب الدعوة، وما شغلته حياته الخاصة: تسع نسوة لهن مطالب، ومسلمون لهم حاجات، وعليه توجيههم وهدايتهم، وجبهات تقف له بالمرصاد تريد أن تقتلع جذوره، وأن تهدم دعوته من أساسها.. الجبهة الوثنية، والجبهة اليهودية، والجبهة النصرانية البيزنطية، والجبهة المجوسية المتربصة، والطابور الخامس من المنافقين الذين يعلنون الإسلام ويبطنون الكفر ﴿يُخْادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9].
متاعب الحياة، ومتاعب الدعوة وهمومها، ما كانت لتشغله أن يقف بالليل مع ربه. يقف ويطيل الوقوف حتى تتورم قدماه، وحتى تتفطر وتتشقق من طول القيام. حكى عنه حذيفة رضي الله عنه قال:
“صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذ تعوَّذ. ثم ركع فجعل يقول: “سبحان ربي العظيم”، فكان ركوعه نحوًا من قيامه. ثم قال: “سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد”، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع. ثم سجد فقال: “سبحان ربي الأعلى”، فكان سجوده قريبًا من قيامه”.
إنها صلاة يشعر فيها بحلاوة العبادة، يجد حلاوتها في قلبه، فلا يمل ولا يضجر ولا يسأم…
صلى الله عليك وسلَّم يا رسول الله، وجعلنا من المهتدين بهديك، المتدين بسنتك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ