
الأدب مع النبي ﷺ منهاج حياة
سبتمبر 6, 2025
المسلمون الجدد.. سفراء للإسلام
سبتمبر 7, 2025د. محمود عبد الغفار
ماجستير في الإعلام
نواصل في هذا المقال الثالث والأخير حديثنا عن المهارات النبوية في التواصل والإقناع.
5- الإقناع باستخدام القياس
فقد جاء الإقناع هنا باستخدام القياس عبر الاشتراك في علة واحدة، مثلما حدث عندما جاء أعرابي يسأله عن مولود له لونه أسود غير لونه، وهو سؤال المتشكك المستنكر، وهو ما يحتاج فطنة عالية في الرد واستخدام دقيق لاستراتيجيات الإقناع، ومن لذلك غير خاتم الأنبياء وأفصح العرب رسول الله ﷺ؟
فلقد ضرب له الرسول ﷺ مثالًا مما يملكه هذا الأعرابي ليكون أقرب إلى فهمه، إذ سأله عن إبله وهل يأتي منها ما هو مخالف لأبويه في الشكل والصفة، فقال: نعم. عندئذ أخبره النبي ﷺ أن ذلك حاصل في البشر أيضاً.
ومع نص الحديث بصحيح مسلم:
أنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسولَ اللهِ ﷺ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ امْرَأَتي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وإنِّي أَنْكَرْتُهُ.
فَقالَ له النبيُّ ﷺ: “هلْ لكَ مِن إبِلٍ”؟
قالَ: نَعَمْ.
قالَ: “ما أَلْوَانُهَا”؟
قالَ: حُمْرٌ.
قالَ: “فَهلْ فِيهَا مِن أَوْرَقَ”؟
قالَ: نَعَمْ.
قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: “فأنَّى هُوَ”؟
قالَ: لَعَلَّهُ يا رَسولَ اللهِ يَكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له.
فَقالَ له النبيُّ ﷺَ: “وَهذا لَعَلَّهُ يَكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له”.
كما استخدم ﷺ أيضاً القياس والاستفهام التقريري؛ إذ روى البخاري عن ابن عباس أنَّ امْرَأَةً مِن جُهَيْنَةَ جاءَتْ إلى النبيِّ ﷺ، فقالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حتَّى ماتَتْ؛ أفَأَحُجُّ عَنْها؟ قالَ: “نَعَمْ حُجِّي عَنْها؛ أرَأَيْتِ لو كانَ علَى أُمِّكِ دَيْنٌ أكُنْتِ قاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ؛ فاللَّهُ أحَقُّ بالوَفاءِ”.
ولقد اتبع رسولنا الكريم كذلك أرقى أساليب الإقناع بما يستميل به النفوس البشرية متعددة المشارب، عبر إنصاف المستمعين وذِكر ما لهم من فضل ومآثر، والتواضع في الحوار خاصة أثناء عرض القضايا الجديدة عليهم، مع السعي لإرساء خلفية مرجعية لحسم مواطن الخلاف، وتوظيف الأقوال والمواقف للشخصيات المؤثرة بينهم في الماضي والحاضر، واستحضار مواقف الأمم المتحدة للقياس عليها.
جـ- استمالات التخويف
يعتبر استخدام استمالات التخويف (أو الترهيب) مكملاً منطقياً لا بد منه مع الاستمالات العاطفية الدافعة إلى عمل ما (أو الترغيب)، لأن الله عز وجل جبل النفس البشرية على الاختيار بين الخير والشر؛ إذ قال سبحانه: ﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾، قال ابن عباس: أي بيّن لها الخير والشر.
ورأى العلامة الشيخ محمد أبو زهرة –في كتابه: الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي- “أن الغاية من الترهيب في العقوبات: حماية الفضيلة وحماية المجتمع من أن تتحكم الرذيلة فيه، والمنفعة العامة أو المصلحة، لأنه ما من حكم في الإسلام إلا كان فيه مصلحة للناس”.
ووازن الإسلام بدقة بالغة بين الترغيب والترهيب، وما ينتج عنهما من رجاء وخوف حتى يقع الإنسان في إفراط أو تفريط، فلا يتمادى في المعاصي مغترًا بعظم رحمة الله، ولا يقنط من رحمته مخافة الترهيب من عذابه للمصرين على الذنوب والمعاصي.
وقد استخدم الرسول الكريم ﷺ استمالات التخويف عبر عرض النتائج غير المرغوبة التي تترتب على المخالفة لأوامره عليه الصلاة والسلام.
جاء ذلك عندما كان النبي ﷺ وصحبه في طريقهم إلى محاربة الكفار في حُنين، وعندما مروا بشجرة (تسمى ذات أنواط) يتبرك المشركون بها ويعلقون عليها أسلحتهم، فطلب بعض الصحابة أن يجعل لهم الرسول ﷺ مثل هذه الشجرة، فنهاههم عن ذلك مستخدماً استمالات التخويف بالنهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما هو من خصائصهم وعباداتهم.
فقد روى الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي واقد الليثي، رضي الله عنه “أنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى حُنَيْنٍ، قَالَ وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُم، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “قُلْتُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّهَا لَسُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّة”.
كما حذر رسول الله ﷺ بشدة من لعن المسلم لأخيه أو اتهامه بالكفر واعتبر من ينطق بذلك كمن قتل أخاه، وقال: “إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فهو كقتله، و لعن المؤمن كقتله”1.
ثانياً: أساليب الإقناع المستخدمة في الرسالة
1- وضوح الرسالة أمام المتلقي وعدم تركها للاستنتاج الضمني
كان الهدف الأسمى للرسول الكريم ﷺ هو تبليغ دعوة الله لقومه وللعالمين معاً، وتجلى ذلك بوضوح في رسالته منذ البعثة حتى لقي ربه.
فقد مَكَثَ رسولُ اللهِ ﷺ بمكةَ عشْرَ سِنينَ يَتَّبَّعُ النَّاسَ في مَنازِلِهِم بِعُكَاظَ ومَجَنَّةَ، وفي المواسمِ بمِنًى، يقولُ: مَن يُؤْوِيني، مَن يَنصُرُني حتَّى أُبَلِّغَ رسالةَ ربِّي ولهُ الجنَّةُ؟
وفي السيرة النبوية لابن هشام أن الرسول ﷺ “ظل عشر سنوات يقابل وفود القبائل والحجيج، فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه ﷺ؛ خرج رسول الله ﷺ يعرض نفسه علىٰ القبائل كعادته فالتقىٰ برهط من الخزرج أراد الله بهم خيرًا. فقال لهم النبي ﷺ “من أنتم؟” قالوا: نفر من الخزرج، قال: “أمن موالي يهود؟” قالوا: نعم، قال: “أفلا تجلسون أكلمكم؟” قالوا: بلىٰ، فجلسوا معه، فدعاهم إلىٰ الله تعالى، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكان مما صنع الله بهم في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزُّوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتَّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله ﷺ أولئك النفر، ودعاهم إلىٰ الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبيّ الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسىٰ أن يجمعهم الله تعالىٰ بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلىٰ أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ راجعين إلىٰ بلادهم، وقد آمنوا وصدَّقوا، وهم ستة نفر جميعهم من الخزرج القادمين من يثرب”.
وكان ذلك بداية الغيث والفتح الكبير لنصرة الإسلام والهجرة للنبي ﷺ وصحبه حتى إقامة الدولة الإسلامية في يثرب، والتي سُميت بالمدينة المنورة بعد هجرة خاتم الأنبياء إليها وتشرفها به.
2- تقديم الرسالة لأدلة وشواهد
ورد في عدد من الأحاديث النبوية الصحيحة الكثير من الشواهد والأدلة التي سبقت توصل العلم الحديث لها بمئات السنين.
فمثلاً جاء في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ: “الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا”.
إضافة إلى أحاديث أخرى تشير إلى الفروق الفطرية الوراثية، كالألوان والصفات الخِلقية وغير ذلك. وهو ما توصلت الدراسات الحديثة إليه، خاصة قوانين الوراثة التي توصل إليها العالم الشهير (مندل).
3- التكرار
يعتبر كثيرون من علماء الاتصال أن تكرار الرسالة من العوامل التي تسهم في الإقناع.
وقد ثبت عن رسول الله ﷺ استخدام التكرار في أحاديثه، ففي صحيح الترمذي عن أنس (يحكي عن الرسول الكريم ﷺ) “أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثـًا”.
وقد سبق النبي ﷺ بذلك علماء الاتصال والتدريب في التأكيد على أهمية التكرار (خاصة ثلاثاً) في طرح المفاهيم الأساسية لتنبيه المستمع إلى الأمر.
4- سرد القصص
يعد استخدام القصص عند ضرب الأمثال من أهم الوسائل التي تؤثر في المتلقين وتسهم في تعديل أو تنشيط العوامل الإدراكية؛ إذ تشبع فيهم حاجات بعينها؛ مما يسهم في تغيير الاتجاهات والسلوك نحو الأفعال الإيجابية المطلوبة من قِبل المرسل، وهو ما أراده عندما سرد القصص.
وحفلت السنة النبوية بالكثير من القصص الشاملة للعديد من الحكم والعبر، خاصة عبر سرد قصص الصالحين وما بها من قدوة وموعظة.
ومن أبرز الأحاديث النبوية التي وردت عن قصص السابقين من الصالحين، حديث الثلاثة الذين لجأوا إلى الغار، وفيه عبرة عظيمة عن الإخلاص، والبر بالوالدين، والوفاء بالأمانة، والعفة.
ونص الحديث كما ورد في رواية البخاري:
“خَرَجَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ فأصابَهُمُ المَطَرُ، فَدَخَلُوا في غارٍ في جَبَلٍ، فانْحَطَّتْ عليهم صَخْرَةٌ، قالَ: فقالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ بأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ.
فقالَ أحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنِّي كانَ لي أبَوانِ شيخانِ كَبِيرانِ، فَكُنْتُ أخْرُجُ فأرْعَى، ثُمَّ أجِيءُ فأحْلُبُ فأجِيءُ بالحِلابِ، فَآتي به أبَوَيَّ فَيَشْرَبانِ، ثُمَّ أسْقِي الصِّبْيَةَ وأَهْلِي وامْرَأَتِي، فاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً، فَجِئْتُ فإذا هُما نائِمانِ، قالَ: فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُما، والصِّبْيَةُ يَتَضاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذلكَ دَأْبِي ودَأْبَهُما، حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغاءَ وجْهِكَ، فافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْها السَّماءَ، قالَ: فَفُرِجَ عنْهمْ.
وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِن بَناتِ عَمِّي كَأَشَدِّ ما يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّساءَ، فقالَتْ: لا تَنالُ ذلكَ مِنْها حتَّى تُعْطِيَها مِئَةَ دِينارٍ، فَسَعَيْتُ فيها حتَّى جَمَعْتُها، فَلَمَّا قَعَدْتُ بيْنَ رِجْلَيْها قالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ ولا تَفُضَّ الخاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَقُمْتُ وتَرَكْتُها، فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغاءَ وجْهِكَ، فافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قالَ: فَفَرَجَ عنْهمُ الثُّلُثَيْنِ.
وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي اسْتَأْجَرْتُ أجِيرًا بفَرَقٍ مِن ذُرَةٍ فأعْطَيْتُهُ، وأَبَى ذاكَ أنْ يَأْخُذَ، فَعَمَدْتُ إلى ذلكَ الفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، حتَّى اشْتَرَيْتُ منه بَقَرًا وراعِيها، ثُمَّ جاءَ فقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ أعْطِنِي حَقِّي، فَقُلتُ: انْطَلِقْ إلى تِلكَ البَقَرِ وراعِيها فإنَّها لَكَ، فقالَ: أتَسْتَهْزِئُ بي؟ قالَ: فَقُلتُ: ما أسْتَهْزِئُ بكَ ولَكِنَّها لَكَ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغاءَ وجْهِكَ، فافْرُجْ عَنَّا فَكُشِفَ عنْهمْ”.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




