
الاحتلال يصعّد نسف الأبراج ويهدد بتهجير غزة
سبتمبر 6, 2025
القدوة الحسنةالعظمة النبوية في التواصل والإقناع (3)
سبتمبر 6, 2025أ.د. قيس عبدالعزيز الدوري
أستاذ التاريخ الإسلامي
في حياة الإنسان المسلم محطات عظيمة ترشده إلى معالم الكمال والسلوك الراقي، ولعل من أعظم هذه المحطات هي محطة الأدب مع النبي محمد ﷺ؛ فالأدب مع النبي ﷺ ليس مجرد خُلق حسن، بل هو منهاج حياة ومظهر من مظاهر الإيمان العميق والحب الصادق لنبي أرسله الله رحمة للعالمين.
حين يتأمل المرء في سيرة النبي ﷺ، يجد أن شخصيته الكريمة قد اجتمعت فيها صفات النبوة والقيادة والتواضع والرحمة والحكمة، وكلها تدفع المؤمن إلى توقيره وإجلاله والتأدب في كل ما يتعلق به؛ في اسمه وذكره، في سُنته وشريعته، في حديثنا عنه، بل وفي تعاملنا مع دينه الذي جاء به.
أولًا: مفهوم الأدب مع النبي ﷺ
الأدب مع النبي ﷺ هو التعامل الواعي الممزوج بالخشية والمحبة والتعظيم، الذي يظهر في سلوك المسلم تجاه النبي ﷺ في حياته وبعد وفاته، ويشمل هذا الأدب أقوالنا وأفعالنا ومواقفنا. إنَّه يعكس إدراكنا لعظمة الرسالة وفضل الرسول، فهو الذي بلّغ، وأدى، ونصح، وجاهد، وربّى الأمة، وكان أحرص الناس علينا.
قال الحافظ ابن القيم: “الأدب مع النبي ﷺ هو عنوان السعادة والفلاح، ومفتاح القبول والنجاح، فكلما كان العبد به مؤدبًا كان عند الله أرفع مقامًا”.
ثانيًا: توقيره وإجلاله ﷺ
القرآن الكريم حافل بالآيات التي تؤكد على ضرورة توقير النبي، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 8-9].
فـ”تُعزّروه” تعني: تنصروه وتوقروه وتحفظوا مقامه الشريف.
ولم يكن الصحابة يعاملونه ﷺ كما يُعامل سائر البشر، بل بعظمة وهيبة، فها هو عمرو بن العاص يقول: “ما كنت أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفه ما استطعت”.
كانوا يخفضون أصواتهم بحضرته، ويجلسون بأدب ووقار، بل إن أحدهم ليبكي إذا تذكر هيبته ﷺ.
ثالثًا: أدب الخطاب والحديث معه
من أرقى صور الأدب القرآني ما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: 2].
وقد نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين ارتفعت أصواتهم عنده، فكان أثر الآية عظيمًا، حتى أن عمر بعد نزولها ما عاد يُسمع صوته في حضرته ﷺ.
ومن الآداب أيضًا أن لا يُنادى النبي ﷺ باسمه المجرد، بل يُقال: “يا رسول الله”، أو “يا نبي الله”، قال تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: 63].
رابعًا: الأدب في الدخول على النبي ﷺ
الله عز وجل وضع قواعد للزيارة والدخول عليه، فقال: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدۡخُلُوا۟ بُیُوتَ ٱلنَّبِیِّ إِلَّاۤ أَن یُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَیۡرَ نَـٰظِرِینَ إِنَىٰهُ وَلَـٰكِنۡ إِذَا دُعِیتُمۡ فَٱدۡخُلُوا۟ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُوا۟﴾ [الأحزاب: 53]. لأن الإطالة دون حاجة تُسبب له الحرج، وكان النبي ﷺ يستحي من أن يطلب من ضيفه المغادرة، فجاء الوحي يضبط هذه المسألة. هذا درس في الخصوصية والأدب الاجتماعي.
خامسًا: عدم مخالفة أمره أو ردّ سُنته
طاعة النبي ليست تفضُّلًا، بل فرضاً إيمانياً، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7].
فلا يجوز التردد في أمره، ولا رفض حديثه، ولا معارضته بالعقل أو الرأي.
من الأدب ألا نُجادل في أمر جاء به، أو نؤخر تنفيذه، أو نقدم عليه غيره، فقد قال الله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ [النساء: 65].
سادسًا: تعظيم سنته والتأدب مع أحاديثه
سنة النبي ﷺ هي المصدر الثاني للتشريع، والأدب معها يعني:
• عدم الاستخفاف بها.
• العمل بها ما استطعنا.
• الدفاع عنها ونشرها.
إن أي تقليل من سنته هو مساس بمقامه، لذا كان الإمام مالك بن أنس لا يركب دابته في المدينة المنورة، احترامًا للموضع الذي يضم جسده الشريف.
سابعًا: الصلاة والسلام عليه
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56].
الصلاة عليه ﷺ هي باب من أبواب القرب منه، وهي صورة من صور الأدب والحب. مَن صلى عليه مرة، صلى الله عليه بها عشرًا، وغفرت ذنوبه، وزكت أعماله.
وقد قال النبي ﷺ: “إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه”1.
ثامنًا: الأدب في عرض سيرته
حين نكتب أو نُعلّم سيرة النبي، ينبغي أن تكون كلماتنا موزونة، ونبرة صوتنا مشحونة بالحب والتوقير. لا يجوز أن يُقدَّم ذكره عرضًا كأننا نتحدث عن شخصية تاريخية عادية. بل هو خير من وطئت قدمه الثرى، بل هو الرحمة المهداة.
تاسعًا: الأدب عند زيارة قبره
زيارة قبره الشريف في المدينة المنورة من أعظم الأعمال، ومن أدب الزيارة:
• الوقوف بخشوع وسكينة.
• السلام عليه بأدب: “السلام عليك يا رسول الله”.
• عدم رفع الصوت أو التقاط الصور أو الازدحام.
• عدم دعائه، بل التوجه بالدعاء إلى الله تعالى.
عاشرًا: الأدب في الذب عنه والدفاع عنه
في زمن كثرت فيه الإساءات، يصبح من واجبنا أن نحمل سيف الأدب ونرد بالحكمة. الدفاع عن النبي يكون:
• بنشر سنته.
• تعليمها.
• الالتزام بأخلاقه.
• كشف زيف الشبهات بحكمة وعلم.
إن الأدب مع النبي ﷺ هو مفتاح لكل خير، وهو معيار الإيمان، ودليل على سلامة القلب، وعنوان لمحبة خالصة لا تشوبها الدنيا ولا الرياء.
لقد فهم الصحابة هذا المعنى العظيم، ففازوا بحب الله ورضاه. ونحن اليوم، إن أردنا أن نكون على أثرهم، فلتكن سيرتنا على خطاهم: توقير، محبة، طاعة، واتّباع.
فالأدب مع الحبيب المصطفى ﷺ ليس مجرد كلام يُقال، بل سلوك يُعاش، ونهج يُتّبع، وخلق يُجسّد. وهو واجب لا ينقطع بموته ﷺ، بل يستمر فينا إلى أن نلقاه على الحوض.
نسأل الله أن يرزقنا كمال الأدب معه، وأن يجعلنا من الذين يحبونه حبًا صادقًا، ويصلون عليه في الليل والنهار، وأن يحشرنا في زمرته، تحت لوائه، يوم لا ظل إلا ظله.




