مهارة جذبِ الانتباهِ في سيرةِ النّبي ﷺ
أغسطس 8, 2024ميراث المرأة بين الإسلام والأديان الأخرى
أغسطس 10, 2024بقلم الدكتور وصفي عاشور أبو زيد
أن يُستشهد مسلم تركي على بحر فلسطين، وتختلط دماؤه بدماء المسلمين على أرض فلسطين، فهذا يعيد لمفهوم الأمة معناه وألَقه وحقيقته، ويثبت أن الأمة المسلمة حاضرة بقوة مهما أصابها من مرض أو ضعف، فهي حية نابضة بالخير لا تموت، وأنها ماضية في أداء رسالتها جيلاً بعد جيل، مهما أراد بها أعداؤها، ومهما حدث لها من داخلها.
هذه المعاني تجسدت يوم السبت، الأول من حزيران الجاري 2024م؛ حيث أقيمت احتفالية كبيرة في مسجد صلاح الدين الأيوبي بولاية ديار بكر عن ذكرى سفينة مرمرة، وشهدائها، وعلى رأسهم الشهيد علي حيدر الذي لقي الله شهيداً عام 2010م، هذه الاحتفالية التي أقامها وقف الدعوة والأخوة، وجمعية آيدر في ديار بكر.
لقد احتشد الناس في قاعة الاحتفالات بمسجد صلاح الدين الأيوبي في ديار بكر كما يجتمعون للمناسبات الكبيرة، والاحتفاليات الضخمة؛ ليعرب شعب ديار بكر ومن حوله على أن الدماء الزكية للشهيد علي حيدر وإخوانه هي دماء مباركة، يحيي الله بها الأجيال، ويجمع بها الحشود، ويوحد بها الجهود، ويمحو الله بها ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
لقد رأيت عشرات الأطفال على مسرح الاحتفالية، أطفال ربما لم يولدوا عند استشهاد علي حيدر ومن معه، ولو كان علي حيدر حياً وبذل جهداً كبيراً لتربية هؤلاء الأطفال وتجميعهم لما استطاع، ولو كان حياً وأرسل دعوة للناس ليجتمعوا من أجل محاضرة يلقيها لما جاءوا بهذا العدد الكبير، ولكن دماءه الزكية جمعتهم، وصدقه وإخلاصه حشدهم، ومعاني الشهادة الآن تفعل فعلها وتعمل عملها في تربية جيل جديد، ينشأ ويتربى على حب فلسطين، وحب المقاومة، وينشد أناشيدها، ويرفع شعاراتها، ويتبنى مقولات قادتها وعظمائها.
وهو ما يذكرنا بما قاله شهيد الإسلام سيد قطب عن اغتيال الإمام حسن البنا: “يمضي حسن البنا إلى جوار ربه، يمضي وقد استكمل البناء أسسه، يمضي فيكون استشهاده على النحو الذي أريد له عملية جديدة من عمليات البناء، عملية تعميق للأساس وتقوية للجدران، وما كان ألف خطبة ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطرات الدم الذكي المهراق.. إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة”.
تأتي هذه الاحتفالية وقد مر ثمانية أشهر على معركة طوفان الأقصى، وما تزال المعركة مستمرة، وما تزال المقاومة وكتائبها تبدع في الجهاد وحصاد أرواح العدو، وإن الملائكة لم تضع أسلحتها، كما لم تضع الحرب أوزارها.
تأتي هذه الاحتفالية في ظل معركة طوفان الأقصى لتؤكد لنا أن المعركة واحدة، وأن العدو واحد، هذا العدو الذي يتفرق جمعه في كل شيء إلا علينا، عدو استراتيجي للأمة، عدو عقدي أيدلوجي بامتياز، وليست المسألة سياسة أو حدود، ولكنها عقيدة ووجود؛ فالعدو واحد وأغراضه واحدة، وهي احتلال الأرض والعرض، وإبعاد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم، وهم يتجمعون على هذا الهدف أو تلك الغايات رغم ما بينهم من اختلاف عقدي وسياسي، وعداء تاريخي، والأمر كما قال الشاعر:
تأتي هذه الاحتفالية لتؤكد لنا أن الجهاد هو شرف هذه الأمة، وأنه ما تركته الأمة إلا كتب الله عليها الذل حتى تراجع دينها، وقد قال النبي ﷺ: “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم“1. فانظر كيف ربط النبي ﷺ الذل بترك الجهاد، بل تأمل كيف أورد الدين مكان الجهاد: “حتى ترجعوا إلى دينكم” فمن ترك الجهاد فقد ترك الدين، وكُتب عليه الذل إلى أن يعود للدين!
تأتي هذه الاحتفالية لترسخ في يقيننا وروعنا أن الحياة بلا شهداء لا معنى لها، وأن الأرض بلا دماء زكية لا تنبت إلا الضعف والخور والهزيمة، هؤلاء الشهداء الذين ينيرون الطريق، ويرفعون الراية، ويكونون وقوداً يحرك الأمة، ويوقظها من نومتها، وينبهها من غفلتها، ويجمعها من تفرقها، كيف لا، والشهداء أحياء عند ربهم: ﴿ وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ * فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَیَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِینَ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ ﴾ [آل عمران: ١٦٩-١٧٠].
وللأستاذ سيد قطب حديث طويل لا يمكن تفويته حول هاتين الآيتين يقدّم لنا فيه خواطره ويبين ظلال هاتين الآيتين بما لا نجده عند غيره من المفسرين؛ حيث يقول: “والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قُتلوا في سبيل الله، وفارقوا هذه الحياة، وبعدوا عن أعين الناس.. أموات.. ونص كذلك في إثبات أنهم “أحياء”.. “عند ربهم”. ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات، وصف ما لهم من خصائص الحياة؛ فهم “يرزقون“.
ومع أننا نحن -في هذه الفانية- لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح.. إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة، وما بينهما من انفصال والتئام، وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها؛ وإننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها، لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى.
فهؤلاء ناس منا، يُقتلون، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها. ولكن لأنهم قُتلوا في سبيل الله وتجردوا له من كل الأعراض والأغراض الجزئية الصغيرة؛ واتصلت أرواحهم بالله، فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قُتلوا كذلك، فإن الله سبحانه يخبرنا في الخبر الصادق، أنهم ليسوا أمواتاً، وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده، وأنهم يُرزقون فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء.
ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى: ﴿ فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِ ﴾؛ فهم يستقبلون رزق الله بالفرح؛ لأنهم يدركون أنه “من فضله” عليهم، فهو دليل رضاه وهم قد قُتلوا في سبيل الله، فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم؛ وهم مستبشرون لهم؛ لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين: ﴿ وَیَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِینَ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ ﴾. ﴿ یَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلࣲ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ﴾. إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم الذين ﴿ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِم ﴾ ولم تنقطع بهم صلاتهم. إنهم “أحياء” كذلك معهم، مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة. موضع استبشارهم لهم: ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم “عند ربهم” ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين، وأنه لا يضيع أجر المؤمنين.
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله؟ وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؛ وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس، عن هذه الرحلة إلى جوار الله، مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة!
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت -متى كان في سبيل الله- وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم، وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها، بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة، كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة. وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة، ومن حياة إلى حياة”. انتهى كلام سيد قطب.
إن أجيالنا يجب أن تعرف من هو علي حيدر، وما هي سفينة مرمرة، وما هي قضية فلسطين، وما هو تاريخها وتحدياتها، وما الواجبات التي تفرضها هذه التحديات على الأمة الإسلامية بكل شرائحها، وبكل فئاتها: أفراداً وأسراً ومجتمعات، سياسيين ومثقفين وكُتاباً ومفكرين؛ حتى نصل إلى هدفنا المنشود، وهو تحرير فلسطين وأسراها وأقصاها، وغزتها وضفتها، ثم تقوم الأجيال برفع راية هذه الأمة، وتمكين مشروعها الحضاري الإنساني الخادم للبشرية على طريق هدايتها ونجاتها في الدنيا والآخرة.
حري بالشهيد علي حيدر وإخوانه الشهداء في سفينة مرمرة، وشهدائنا في طوفان الأقصى، أن نهدي لهم ما قاله الداعية الكبير الأستاذ عصام العطار:
يا شهيداً رفع الله به ** جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علماً ** هاديا للركب رمزاً للفدى
ما نسينا أنت قد علمتنا ** بسمة المؤمن في وجه الردى
رحم الله الشهيد علي حيدر وإخوانه، وجميع شهدائنا الأبرار، وقادتنا الأخيار، وإنا على دربهم سائرون، وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد.
ـــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في سننه (3452) بسنده عن عبد الله بن عمر.