
استشهاد طفل في نابلس ومستوطنون يحرقون مركبات برام الله
أكتوبر 24, 2025علي جاد المولى
كاتب مصري
في صراع الوجود، هناك خَطَآن قاتلان: أن تنتظر حتى يُحدّد عدوك ساحة المعركة، أو أن تُساق إلى ميدان لم تختر زمانه ولا مكانه. لم يقبل النبي ﷺ، وهو يبني دولة الإسلام الأولى في المدينة، أن يكون رهينة هذا الانتظار. خرج بنفسه على رأس جيش إلى الشمال حيث دومة الجندل، في واحدةٍ من أجرأ الغزوات الاستباقية في التاريخ الإسلامي، لتحطيم خطط العدو قبل أن تكتمل وكسر تحالفات الأعداء قبل أن تشتدّ. لم تكن مغامرة عمياء، بل قراءة دقيقة لمعادلات القوة، وخطوة استباقية أربكت العدو قبل أن يشهر سيفه.
واليوم، وعلى أرض غزة المحاصرة، أعادت عملية طوفان الأقصى تذكير الأمة بالحقيقة ذاتها: أنّ المبادرة ليست مجرد تكتيك عسكري عابر، بل هي قانون للبقاء، وسنة نبوية خالدة تتجدد مع كل جيل حين يدرك أنّ الانتظار ليس إلا انتحارًا بطيئًا.
دومة الجندل.. المبادرة التي غيّرت قواعد اللعبة
في السنة الخامسة للهجرة، وصلت الأنباء إلى المدينة: قبائل من الغساسنة الموالين لبيزنطة، مع قبائل عربية أخرى مثل قضاعة، تتجمّع عند دومة الجندل، على مفترق طرق التجارة بين العراق والشام والجزيرة، لتتحكم في القوافل المارة وتفكّر أيضاً في التحالف مع قريش وربما مع الروم. هذا التحالف كان سيجعل المسلمين في مواجهة قوة إقليمية كبرى قبل الأوان. كما أنّ الخطر كان يوشك أن يتحول إلى حصار اقتصادي وعسكري يطوّق دولة الإسلام الناشئة.
لكنّ النبي ﷺ لم ينتظر حتى يكتمل الطوق، بل اتخذ قرارًا جريئًا وخرج بنفسه على رأس ألف مقاتل إلى تلك البقعة التي تبعدُ حوالي خمسمائة ميل (نحو 800 كم) شمال المدينة. كان ذلك قبل غزوة الخندق بأشهر، وفي مرحلة حسّاسة من بناء الدولة.
لم تجرِ معركة كبرى، إذ إن القبائل تفرّقت قبل المواجهة، لكن الأثر النفسي والسياسي كان أعمق من أي دماء تُسفك: لقد سقطت صورة “المسلمين المحاصَرين” وحلّت مكانها صورة القوة القادرة على المبادرة، تمامًا كما ستتكرر هذه الصورة بعد قرون في غزة حين قررت المقاومة نقل الرعب إلى قلب مواقع العدو.
بهذه الخطوة تحوّل المسلمون إلى قوةٍ تملك زمام المبادرة وتفرض معادلات جديدة. وهنا لم تعد دولة الإسلام مشروعًا هشًّا في زاوية من الجزيرة، بل قوةً تمتد إرادتها إلى قلب المسالك التجارية والسياسية. لقد كان انتصارًا استراتيجيًا بلا دماء، لكنه أسّس لمرحلةٍ جديدة من القوة والردع، ومهّد لفتوحاتٍ كبرى لاحقًا.
طوفان الأقصى.. المبادرة التي حوّلت اليأس إلى أمل
لم تكن عملية “طوفان الأقصى” مجرد ردّ فعل على حصار أو عدوان، بل كانت القفزة الاستراتيجية الجريئة من دائرة الدفاع إلى فضاء الهجوم. لقد أدركت المقاومة أنّ منطق الصبر والانتظار، تحت وطأة حصارٍ خانق واستيطانٍ متوحش وتدنيسٍ متكرر للمقدسات، لن يُنتج إلا مزيدًا من التآكل والتراجع، فكان لا بد من كسر هذه المعادلة الجائرة.
هنا، تم استحضار الدرس النبوي من دومة الجندل: لا تنتظر أن يُحكم عليك الخناق، بل اذهب إلى قلب الخطر حيث يتشكل. لقد اختارت المقاومة بوعيٍ كامل أن تتحول من قوة تردّ على العدوان إلى قوة تفرض معادلة جديدة، معادلة الردع بالمبادرة. لم تكن خطوة يأس، بل كانت قرار قوة، إيمانًا بأن زمن التحرير لا يُمنح، بل يُؤخذ بقوة الإرادة وجرأة التحرك.
طوفان الأقصى.. معركة الإرادة قبل أن تكون معركة السلاح
بعد أربعة عشر قرنًا، تكررت السُنّة نفسها في غزة. قوة صغيرة محاصرة لم تنتظر أن يُحكم عليها الخناق، بل باغتت عدوها في قلب مواقعه. في 7 أكتوبر باغتت المقاومة الفلسطينية عدوها بعملية لم يكن هدفها إسقاط الكيان في يومٍ واحد، بل إعادة تعريف الصراع كله. إنها الروح ذاتها التي حملها النبي ﷺ في دومة الجندل: ضرب العدو في الزمان والمكان الذي لا يتوقعه.
يُخطئ من يحصر تقييمه لـ”طوفان الأقصى” في حصيلة القتلى والدماء. هذه نظرة قاصرةٌ تختزل صراعًا عمره 77 عامًا في لحظةٍ واحدة. النصر الحقيقي الذي حققته العملية يتجاوز ذلك إلى أبعادٍ استراتيجيةٍ هزّت كيان العدو من الأعماق. فالنصر لم يكن في كثرة القتلى ولا في اتساع الأرض، بل في تحطيم الأساطير التي قام عليها كيان الاحتلال:
سقوط أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”: لقد محقت العملية أسطورة الأمن الإسرائيلي التي بُنيت لعقود، وفضحت حالة الهشاشة والتفكك الكامنة تحت قشرة القوة الزائفة.
انتهاء الردع الأحادي: فرضت المقاومة نظرية ردعٍ جديدة، فأصبحت تلوي بيد من حديد كلما حاول العدو الاعتداء، لتعيد تعريف معادلة “الردع المتبادل”.
عودة القضية إلى مركز الوعي العالمي: أجبرت العملية العالم بأسره على النظر إلى فلسطين ليس كقضية “لاجئين” أو “مفاوضات”، بل كقضية احتلالٍ عنصريٍّ واستعماريٍّ يجب حله.
انهيار صورة “الديمقراطية المتحضرة”: يكمن النصر في أن “طوفان الأقصى” كشف عورة هذا الكيان للعالم أجمع، وعرّاه من أي شرعية أخلاقية، ودفع به إلى فخّ المجزرة العلنية التي قد تكون سببًا في إدانته دوليًا وسقوطه السياسي والأخلاقي على المدى المتوسط والبعيد. لقد بدأ العد العكسي، والشعوب التي ترى جرائمه الآن لن تنساها أبدًا.
وهذا أعظم من أي مكاسب ميدانية؛ فقد انتقلت المقاومة من موقع الدفاع المستنزف إلى موقع المبادرة الفاعلة، ونجحت في إرباك العدو وإعادة رسم الوعي العالمي. إنها ليست معركة دماء فحسب، بل معركة إرادات، تثبت أنّ الأضعف ظاهرًا قادر على قلب الموازين بقرار واحد جريء.
العدو في الحالتين فوجئ بأنّ الطرف الأضعف في الظاهر يستطيع أن يغيّر المعادلة، وأنّ الانتظار يعني استنزافًا بلا نهاية، بينما المبادرة تعني نقل الرعب إلى قلب الخصم.
من المدرسة النبوية: دروس لا تُشترى إلا بالتضحيات
غزوة دومة الجندل لم تكن مجرّد تحرّك عسكري إلى واحة بعيدة، بل كانت مدرسة كاملة في فنّ البقاء والمبادرة. فيها تعلّم المسلمون أنّ الانتظار ليس سوى استنزاف بطيء، وأنّ من يفرض زمان المعركة ومكانها يملك نصف الطريق إلى النصر. وفيها أيضًا ظهر سرّ المباغتة، فحين يظن العدو أنه مطمئن في حصونه، تكفي خطوة جريئة واحدة لتضاعف أثر القوة، مهما كانت قليلة في العدد والعدة.
لم يكن النصر يومها بعدد القتلى أو الغنائم، بل في صورة العدو المرتبك وهو يتراجع قبل أن تبدأ الحرب أصلًا. تلك الصورة وحدها كانت فتحًا نفسيًا يمهّد لفتوحات أخرى. ثم جاء الدرس الأعمق: أنّ القائد الحق لا يتحرّك في الميدان وحده، بل يبني أمته في الوقت نفسه. فالنبي ﷺ كان يرسّخ الداخل وهو يوسّع الخارج، يصنع الرجال وهم يصنعون التاريخ معه.
وهكذا، فإنّ من يقرأ دومة الجندل اليوم يرى أنّ الرسالة لم تكن محصورة في زمانها؛ إنها درسٌ يتكرّر مع كل مقاومة تُدرك أنّ معركتها أكبر من حدود قريتها أو مدينتها، وأنها جزء من مواجهة أمّة بكاملها. لذلك لم تكن غزة في طوفان الأقصى تقاتل عن نفسها وحدها، بل عن حاضر العرب جميعًا ومستقبل المسلمين.
لقد علّمتنا المدرسة النبوية أنّ الجرأة لا قيمة لها بلا بصيرة، وأنّ التضحية بلا مشروع تبديد، أما إذا التقت البصيرة مع المبادرة والتضحية، فهي تصنع المعجزات.
المبادرة الاستراتيجية: قانون البقاء الذي ترفضه الأُمّة!
وليس هذا المنطق الاستباقي حكرًا على جبهتنا، بل هو قانون استراتيجي تتّبعه الدول حين تشعر بتهديد وجودي. فكوريا الشمالية، على سبيل المثال، والتي ترى في تراجع روسيا تهديدًا لأمنها القومي، بادرت بدعمها عسكريًا في حرب أوكرانيا. إنها محاولة لصدّ عدوان مستقبلي محتمل بكسر شوكة خصمها اليوم. وهذا يؤكد أنّ المبادرة، في الأخير، هي لغة القوة التي تفهمها كل الأمم التي تسعى للبقاء.
فلماذا نرفض نحن أن نتعلم هذه اللغة إلا بعد أن تُسحق أرضنا وتُهدم مقدساتنا؟ لماذا ننتظر حتى تتحقق أحلام نتنياهو بـ”إسرائيل الكبرى” لندرك أنّ المبادرة هي خيارنا الوحيد للنجاة؟
خاتمة: من منطق البقاء إلى منطق الفعل
ليس قدر هذه الأمة أن تعيش بين الركام تبكي جراحها، ولا أن تحصي شهداءها كأرقام في نشرات الأخبار. إنّ دماءها ليست عبثًا، وأشلاء أطفالها ليست خسارةً مجانية؛ بل هي الثمن الذي دُفع على مرّ التاريخ لتتحول الهزائم إلى بدايات، والانكسارات إلى جسور نحو النصر.
من دومة الجندل إلى طوفان الأقصى، تتكرر الحقيقة نفسها: أنّ المبادرة هي سرّ البقاء، وأنّ الاستباق هو لغة الحياة للأمم الحيّة. وما يراه البعض تهوّرًا أو مغامرة، هو في ميزان التاريخ شجاعةٌ صنعت واقعًا جديدًا، وأيقظت أمةً كانت تُساق إلى الاستنزاف.
فليقل المثبطون ما شاؤوا؛ إنهم لم يفهموا سنن النصر، ولم يقرأوا أنّ الأمة لا تُولد من رحم الانتظار، بل من فعلٍ يزلزل، وتضحيةٍ تكتب سطور التاريخ. نحن اليوم لا نعيش منطق البقاء فحسب، بل منطق الفعل: نردّ على الجراح بالمبادرة، وعلى الحصار بالاقتحام، وعلى الموت بالحياة التي تهتف من بين الركام: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾




