
فِلِسْطِينُهَا الْحُدَاءُ
أكتوبر 8, 2025بقلم: د. إياد محمود – أستاذ مساعد في فيزياء البصريات الكمومية – كاتب وقاص
وهاكم نبذة جد قصيرةٍ عن بعض مَنْ سحرتهم الأخلاقُ النبوية، وأخذت بألبابهم سيرتُه العطرة، وهو غيضٌ من فيضٍ ممن كُتب عنه ﷺ، ولو أردنا أن نحصي هؤلاء الكتاب والمحققين لما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فليس مديحهم له ﷺ اقتصر على كتابٍ أو قصيدةٍ، فقد تناقلت الناس أقوالاً لهم كثيرةً غزيرةً عن انطباعاتهم، وأحاسيسهم، ومعارفهم التي كوَّنوها عن خير البرية مما تشي بالإعجاب الجارف، وتنبئ بالمحبة الصافية أو في أسوأ الأحوال: الحيادية التي لا تفسدها الأحكام السلبية المسبقة إلا لدى البعض ممن عميت بصيرته عن رؤية الحق واستشعارِ العظمة في حياته ﷺ:
- مايكل هارت الذي كتب السفر المعروف : “المائة: ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ” -والذي ترجمه باختصارٍ مخلٍ وبصورةٍ غير أمينة الكاتب المصري أنيس منصور والذي جعل عنوانه: “الخالدون مائة: أعظمهم محمد رسول الله ﷺ”- قال في الفقرة التقديمية للرسول محمد ﷺ:
’’إن اختياري لمحمد ليتصدر قائمة الأشخاص الأكثر تأثيراً في العالم قد يفاجئ بعض القراء وقد يشكك فيه آخرون، لكنه كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً باهراً على المستويين الديني والمدني. من أصولٍ متواضعةٍ، أسس محمد ونشر واحداً من أعظم الأديان في العالم، وأصبح زعيماً سياسياً فعالاً للغاية. واليوم، بعد مرور ثلاثة عشر قرناً على وفاته، لا يزال تأثيره قوياً ومنتشراً.‘‘
- روجيه كاراتينيه (1924-2009) كورسيكي المولد، وهو عالم رياضيات، وفيلسوف علوم، ومؤرخٌ موسوعي، وصاحب عدة كتب، من أهمها: “التاريخ النقدي للفكر الاجتماعي” و”الفلسفة” و”الإسلام هذا المجهول” ألف كتابه الشهير: “محمد رسول الإسلام” وفيه ’’تناول شخصية وعظمة إنجازات الرسول ﷺ في 657 صفحة من القطع المتوسط، معتمداً مقاربةً تاريخيةً ووصفيةً وتحليليةً في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي جعل كتابه يتضمن تفاصيل مدهشةً أعطت لمؤَلَّفِه خصوصيةً غير مسبوقةٍ وقوةً علميةً وبحثيةً كبيرةً.”وفي كتابه هذا أعطى المؤلف صورةً موضوعيةً عن الإسلام بعيداً عن الأحكام المسبقة.
- أما الكاتبة البريطانية “كارن أرمسترونج” –والتي هي راهبةٌ كاثوليكيةٌ درست الأدب الحديث في جامعة اكسفورد– فقد قالت في كتابها “محمد نبي لزماننا”: ’’جسدت حياة النبي … المثالية الإسلامية قديماً وحديثاً، حيث تكشف سيرته ما غمض من تدبير الله لشؤون العالم، وتصور التسليم الكامل لله، والذي يجب على كل إنسانٍ السعي لتحقيقه … وتعلم المسلمون طريق حياة النبي: كيف يتكلم، ويأكل، ويحب، ويغتسل، ويتعبد، وكيف مارس أدق تفاصيل حياته على الأرض، على أمل أن يصلوا مثله إلى التسليم الكامل لله.‘‘
- أما شاعر الألمان الأعظم على مرَّ الزمان يوهان جوته: ’’فقد نظم، وهو في سن الثالثة والعشرين، قصيدةً رائعةً أشاد فيها بالنبي محمد ﷺ، وحينما بلغ السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن “يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي‘‘.
’’في قصيدة المديح الشهيرة المسماة “نشيد محمد” –والتي نظمها الشاعر في ربيع عام 1773– عبَّر الشاب جوته عمّا يكنه من ولاءٍ وحبٍ للنبي ﷺ. تُصور القصيدة النبي بصفته هادياً للبشر، في صورة نهرٍ يبدأ بالتدفق رفيقاً هادئاً، ثم لا يلبث أنْ يجيش بشكلٍ مطردٍ ويتحول في عنفوانه إلى سيلٍ عارمٍ. وهي تُصور اتساعَ هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصب أخيراً في البحر المحيط، رمز الألوهية. والقصيدة جاءت على شكل حوار يدور بين فاطمة ابنة النبي الحبيبة رضي الله عنها وزوجها علي، الصحابي الشجاع كرم الله وجهه:
علي: انظروا إلى السيل العارم القوي،
قد انحدر من الجبل الشامخ العلي،
أبلج متألقاً كأنه الكوكب الدريّ.
***
فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب
ملائكة الخير في مهده بين الصخور والأدغال.
***
علي: وإنه لينهمر من السحاب،
مندفعاً في عنفوان الشباب،
ولا يزال في انحداره على جلاميد الصخر،
يتنزى فائراً، متوثباً نحو السماء
مهللاً تهليل الفرح.
***
فاطمة: جارفاً في طريقه الحصى اﻟﻤﺠزع،
والغثاء الأحوى.
***
علي: وكالقائد المقدام، الجريء الجنان، الثابت الخطى،
يجر في أثره جداول الربى والنجاد.
***
فاطمة: ويبلغ الوادي،
فتتفتح الأزهار تحت أقدامه،
وتحيا المروج من أنفاسه.
***
علي: لا شيء يستوقفه،
لا الوادي الوارف الظليل،
ولا الأزهار تلتف حول قدميه
وتطوق رجليه، وترمقه بلحاظها الوامقة.
بل هو مندفعٌ عجلان صامد إلى الوهاد.
***
فاطمة: وهذه أنهار الوهاد تسعى إليه في سماح ومحبة،
ومستسلمة له مندمجة فيه.
وهذا هو يجري في الوهاد،
فخوراً بعبابه السلسال الفضي.
***
علي: الوهاد والنجاد كلها فخورةٌ به.
***
فاطمة: وأنهار الوهاد، وجداول النجاد تهلل جميعاً من الفرح متصايحةً:
***
علي وفاطمة (في صوتٍ واحدٍ): خذنا معك! خذنا معك!‘‘
- أمَّا “آنَّا ماري شيمل” –مؤمنة آل فرعون كما يحلو لكثيرين من كتاب المقالات أنْ يدعوها– عميدة الاستشراق الألماني للعلوم الإسلامية ومن أشهر المستشرقين الألمان المعاصرين فكتابها “وأنّ محمداً رسول الله: تبجيل النبي في التدين الإسلامي” قد جرَّ عليها نقداً عنيفاً في ألمانيا رغم ما ’’عُرفت به من غزارةٍ في الإنتاج العلمي الأكاديمي في كافة التخصصات، [وعلى الأخص] في حقل العلوم الإسلامية من: تراجم، وفهارس، وسير، وأعلام، وروحانيات، وتـصوف، وأديـان، فـي مسحةٍ فلسفيةٍ وبمنهجٍ رصينٍ.‘‘
- ومردّ هذا النقد تلك الروح المُحِبَّة التي كتبت بها هذا السفر القيم؛ إذْ وقفت في وجه الافتراءات التي وُجهت إلى الإسلام ونبيه، [إذْ] تقول فيه: “محمد هو المميز من جانب الحق؛ وهو حقاً المصطفى، ولهذا السبب أصبحت سنته وطريقته في الحياة القاعدة المشروعة الوحيدة للسلوك لدى المسلمين”.
وفي سفرٍ آخر مشهور تقول: ’’إنَّ شخصية محمد قد أصبحت وسيلة الخبرة الدينية، على الرغم من أنَّ محور الإسلام –على مستوى الظواهر الفكرية– ليس هو الرسول الذي بلَّغ وحي الله من خلال كلمات القرآن، بل إنه القرآن نفسه الذي هو وحيٌ مباشر من الله. إلا أنَّ المسلمين كانوا مع ذلك يشعرون بأنَّ شخصية النبي، كانت ضروريةً للإبقاء على العقيدة في شكلها الشرعي على النحو الذي أشير إليه في الشطر الثاني من لفظ الشهادتين.‘‘
***
وحياته ﷺ لم تقتصر فقط على اهتمام الشعراء الذين وجدوا فيها غايتهم القصوى في المديح والتغني بشمائله العطرة، والدعوة إلى التأسي بصفاته وأخلاقه الكاملة؛ أو كانت حكراً على المحققين الذين أرادوا الوقوف على سر هذا التميز، واستجلاء كنه هذا التفرد العجيب؛ بل كانت حياته –منذ لحظة الميلاد المباركة إلى لحظة اللحاق بالرفيق الأعلى– تحت عينٍ فاحصةٍ دقيقةٍ، ومبضع نَطَاسِيّ بارعٍ حاذقٍ من طرازٍ آخر.
كيف لا؟! وحياته ﷺ قدوةٌ للمؤمنين، فمنها تعلموا أحكام الإيمان والدين تطبيقاً حياً بالغاً من الكمال المبلغ المُرتجى. ألم يأمر ﷺ من شهد لله بالوحدانية، وله بالرسالة الخاتمة أنْ يصلي كما كان عليه أتم الصلاة وأزكى السلام يصلي؟، وكذا الحال في الصيام، والحج وكل الشعائر التعبدية؛ بل كان اتخاذ كل مسلمٍ الرسول قدوته الأكمل –في شؤونه الروحانية والأخلاقية والسلوكية– هو مما حث عليه القرآن الكريم أتباع المصطفى بأنْ يجعلوه غاية الغايات: فيأتون ما كان ﷺ يأتيه، ويَدَعون ما كان يدع من أعمالٍ، وأخلاقٍ، وصفاتٍ. قال ﷻ: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 12]، وقال سبحانه: ﴿مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [الحشر: 7].
لكل هذا، ومن أجل كل هذه المعاني العظيمة، وسعياً إلى تلمس الطريق القويم عبر استلهام حياته ﷺ، وجعلها نبراساً لكل مسلمٍ، وحصناً لكل مؤمنٍ، وروضةً لكل تقي، كان الاهتمام بسيرته ﷺ على قدر حب أتباعه له، وعلى مقدار رغبتهم الجامحة في السير في مساره، والتأسي بأفعاله، والاقتداء بأخلاقه، والتحلي بصفاته. فكانت كتب السيرة النبوية نتاج هذا المسعى الذي سعته الأمة بأكملها لتحقيقه، وقام على هذا العمل الشريف أفذاذٌ من المؤرخين المسلمين ذوي البصر الحاذق، والفهم الدقيق، والتحليل العميق.
ولو أردنا استقصاء كل كتب السيرة التي تناولت حياته الطاهرة ﷺ لأصابنا في ذلك العنت، ولَنالنا في سعينا هذا المشقة البالغة. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أنْ نضرب أمثالاً موجزةً، وأنْ نورد إيراداتٍ يسيرةً، ندلل بها على حسن اعتناء المسلمين بسيرته ﷺ. فهناك سيرة ابن إسحاق “كتاب السير والمغازي” لمحمد بن إسحاق بن يسار، و”السير” لأبي إسحاق الفزاري، و”مغازي الواقدي” لمحمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي، و”السيرة النبوية” لابن هشام. وغيرها الكثير الكثير.
ومن الكتب المعاصرة في السيرة النبوية هناك: “الرحيق المختوم” وهو من تأليف العالم الهندي الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، و”فقه السيرة” للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، و”فقه السيرة” لفضيلة الشيخ محمد الغزالي، و”السيرة النبوية” للداعية الهندي الشيخ أبي الحسن الندوي، و”محمد رسول الله.. منهجٌ ورسالةٌ، بحثٌ وتحقيقٌ” للشيخ محمد الصادق عرجون، ’’وهو موسوعةٌ من أربعةِ أجزاءَ ضخمةٍ، وبها تحقيقاتٌ غايةٌ في الأهمية.‘‘