
التحولات الجذرية في نهاية الدولة العبرية
أكتوبر 7, 2025
قصف مكثف من الاحتلال لغزة ودعوات لحماية الأطفال
أكتوبر 8, 2025أ.د. جمال بن عمار الأحمر الأنصاري
سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ بالجزائر
لَيسَ فِي قِطاعِ غزَّةَ شَيءٌ مِن مُقَوِّماتِ القِتالِ إذْ لا هِضَابَ وَلا جِبَالَ وَلا مَـجالَ؛ فالـهِرْتِزَالِيُّونَ الزَّائِلُون يُـحاصِرُونَـها مِن الجَوّ والبَـحرِ ومِن غَالبِ البَـرّ، فيَمنَعُونَ عنْها الدَّواءَ والكَهرَباءَ والْـماءَ، لكنَّ هِـمَمَ الرِّجالِ لا تَعرفُ النَّكالَ بَل تَتَحدَّى الْمُحَال!
ذَكَرْتَ لي بفَخرٍ صادِقٍ، يا تَارِيخُ، أنَّ غزَّةَ في الأرْضِ المباركةِ فِلَسطينَ أرْضِ الأنْبِياء. ارتَضَاها هَاشِمٌ جَدُّ النَّبِيِّ ﷺ، وكَانتْ مَهْدَ الشَّافِعِيّ.
بَعدَ احتِلالِ مَثِيلاتِـها بِفِلسْطِينَ، احتلَّها المخَرِّفُونَ بِذِكرِ صُهْيُونَ (1387-1425هـ)، ثم استَبَاحُوهَا اليَومَ يُريدُونَهَا والأَقْصَى أندَلُسًا لا تَعُودُ، كمَا الفِردَوسِ المفقُودِ، وهَيهَاتَ هَيهَاتَ في الأُولى والآخِرَة. ودَلِيلُنا القَاطِعُ، وبُرهَانُنا السَّاطعُ أنَّ طُوفانَ الأَقصَى طَمَّ مِنْها، إذْ لَا حَلَّ إِلّا بِالقِتَالِ؛ ففَضَحَ أدْرَانَ عُلُوِّ اليَهُودِ، وَأَخرَجَ أضْغَانَ كُلِّ عَرَبِي كَنُودٍ، وكَشَفَ الظُّلْمَ في كُلِّ شِبرٍ مِنَ العَالَـم.
فاذكُرْ يَا تارِيخُ في سِجِلِّ العِزَّةِ؛ أنَّ غَزَّةَ كَتَبَتْ سُطُورَكَ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ، والعُلَماءِ، والصُّلَحاءِ، ثُم وَشَّحَتها بِأشْلاءِ الضُّعَفَاءِ مِن الأبْرِيَاء؛ كَالنِّساءِ، والأَطفَالِ الرُّضَّعِ، والشُّيُوخِ الرُّكَّعِ، دِفَاعًا عَنِ الأقْصَى، وشَرَفِ الْمِلَّةِ، ورَايَةِ الدِّينِ، وكَرَامَةِ البَشَرِيَّة.
بِدَايَتُها شَيخٌ اسـمُه أحمَد يَاسِين؛ المؤَسِّسُ الشَّهِيدُ، نَـحسَبُه! قَعِيدٌ لا يَتَحَرَّك إِلَّا رَأسُهُ فَحَرَّك العَالَـم. وفي صَدْرِهِ هِـمَّةٌ قَعْساءُ، عَجِزَ عنها كُلُّ الملُوكِ والرُّؤسَاءِ مِن الْـحُكّامِ الْـجَرَب! كانَ في شَبابهِ رَجُلًا لَيْسَ بِالطَّويلِ الـمُتَمَدِّدِ، ولا الْقَصيرِ الـمُتَرَدِّدِ، وصَارَ كهْلًا قَد ذهَبَ حِبْرُهُ وسِبْرُهُ، وبقِيَ خُبْرُهُ وسَبْرُهُ. مثَلَ مُثولَ منْ يسمَعُ وينظُرُ حُلُولَ قَادةِ العَرَبِ في شَأنِ فِلَسطِينَ، والتَقط ما نثَرُوا إلى أن نُفِضَتِ الأكياسُ، وحَصْحَصَ الْيَاسُ، فَأنْشَا حَـمَاس (1407هـ).
أبْنَاؤُه مِن رُؤُوسِ “حَـركَة المقَاوَمَةِ الإسْلامِيّة”؛ سَعِدُوا مِنْه بالدِّينِ الْمَتِينِ، وَلَمْ يَعْمُوا عَنِ الحَقِّ الْمُبِينِ، نَـحسَبُهم. لم يجِدُوا نَـجْدَةً، وخَابَ كُلُّ حَاكِمٍ خَذُولٍ زَنِيمٍ، وَخَوَّارٍ أَثِيم. فاضطُرَّ أهلُ الإِيمانِ والطّهَارَة لأَنْ يَتَـحالَفوا عَلى عَدوِّهم اليَهوديِّ مَع الشِّيعَة. ومِن حقِّهِم في الشَّرِيعَة؛ أن يتَحَالَفوا مَع أَهلِ الكُفرِ وأَصحَابِ العَقَائدِ الشَّنِيعَة. تَسُوسُهُم قَامَاتٌ وُجُوهُهَا حِسَانٌ، ولَكِن نَقَم مِنْهم عَبِيدُ الأمْريكَانِ، لِكُفْرِهِم بِالطُّغيَان.
وَأئِمَّةُ حَـماسٍ ألّفَتْ شمْلَهُمْ أُلفَةَ الأُخوَّة في اللهِ حَتى ساوَتْ بينهُم في الرُّتَبِ، فَلاحُوا مثلَ كَواكِبِ الجوْزاءِ، وبدَوْا كالجُملَةِ الـمُتناسِبَةِ الأجْزاءِ. هُم عَبَاقِرةُ العُلومِ السِّياسيّة، وأئِمَّةُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّة، تَصْحَبُهُم سَوْدَاوَاتٌ نَوَاطِقُ بِالنَّارِ لتَغْسِلَ العَار!
وأبناءُ حَـماسٍ حَكَمُوا غَزة فِي 1427هـ، فصَارَت لَـهُم بِـها أَنْدِيَةٌ يَنْتَابُها القَوْلُ والفِعْلُ؛ إذ أَفَاضُوا في آدَابِ الأُخُوَّةِ بَينَ أفْرادِ جماعَتِهم لإِحكَامِ مَعَاقِدِهَا الشَّرعيَّةِ. يَتَقَاسُمونَ الأدْوَارَ بِـحِكْمَةٍ بَينَهُم، وَتَحدُوهُم رِسَالَة؛ فلِكُلِّ عَمَلٍ رِجَالٌ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ دَارٍ سُكَّانٌ، ولِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مُنَظِّرُونَ ومُـخَطِّطُونَ وقَادةٌ وسَاسَةٌ وحُكَّامٌ!
ووِفْق شَريعَةِ الله، تَشَاورُوا مع شَعبِهِم فِي العَيشِ المشتَرَك لِيَضْبِطُوا أُمُورَه، وَفي الأُنْسِ لِيَتَهَادَوْا سُرُورَه، وَفي مَنافعِ النُّورِ لِيَتَقَاضَوْا حُبُورَهُ، وَفي فَائِتِ الحَظِّ ليتَلافَوْا غُبُورَهُ!
واستُشهِدَ منْهُمُ الطَّبيبُ الرَّنتِيسِيُّ، وصلاحُ الدِّين دَروزَة، وجَـمَالُ سَلِيمٍ، وجَـمَالُ مَنْصُورٍ. واستُشهِد في طُوفَانِ الأَقصَى أَحمدُ بَـحر، وصَالِـحُ العَارُورِيُّ، وإِسْماعِيلُ هَنِيَّة، ويحْيَى السِّنْوَار، وجمعٌ مِن البَقِيّةِ، نَحسَبُهم.
فهِمَ قادةُ الجنَاحِ العَسْكَرِيِّ “كتائبِ الشَّهيدِ عِزّ الدِّينِ القَسَّام” عام 1411هـ أنَّ تَأجيلَ القِتالِ وبَالٌ ما دامَ الموتُ واحدًا. عنْدَها استَجمَعوا القُوَّة وعَمَدوا إلى خُطَّةِ “اضرِبِ الجيْشَ بِالجيْشِ يحْظَى شَعبُك بِلَذّةِ العَيْش، في الدُّنيا والآخِرَة”.
إنهُم اختَارُوا طَريقَ الخنَادِقِ والبنَادِقِ، فاحْتَفُروا عَميقَ الأنفَاقِ في شَبَكَاتٍ حيَّرتِ خُبرَاءَ العَسكرِيَّةِ في العَالَـم حَتى صَارُوا يُدرِّسُونَـها في كُلِّياتِـهمُ الْـحَربِيَّة. وادَّخَرُوا السِّلاحَ والعَتَادَ والزَّادَ، حتى إذَا جَاءَ اليَوْمُ الأَسْوَدُ والـمَوْتُ الأَحْمَرُ، رَأَيتَ “كَتَائبَ القَسَّامِ” تَضْربُ اليَهُودَ بِكُلِّ نَارِيٍّ فَتَّاك مِنْ دُونِ الـمَسْجِدِ الأَقصَى، وَتُفَخِّخُ خَرَابَ المبَانِي فتُفَجِّرُ جُـمُوعَهُم، وتُردِي هَارِبَـهُم، وتَـمنَعُ عَنْهُم الإخْلَاءَ! عَيبُهُم أَنَّـهُم أَثْبَتُوا لَلْيَهُودِ نَفْعَ مَا أَلْبَسُوهُ مِن حَفَّاظَاتٍ لِلجُنُود!
بِرُوحِي خَارجًا مِن الأَنْفَاقِ، مُتمَوِّهًا بِالرُّكَامِ، ثم يَعْدُو حَافِيًا نَـحْوَ العَدُوِّ، لَـم يَهُدَّهُ الْـجُوعُ وضُمُورُ الضُّلُوعِ، فيَهجُمُ كالَّليثِ الْـهَصُورِ ويركُبُ رأسَ المركَبَة، فَيَفتَحُ عَلى الجنُودِ بَابَـها ويُلْقِي قُنْبُلتَه، ويَعُودُ عَدْوًا، فَتنْفجِر، وتَتْركُهُم أَشلاءً حَوابِسَ الْـخُرْدَة.
واستشهد في مَعركَةِ الطُّوفانِ مُـحمَّدُ الضِّيف، ونَائبُه مَروَان عِيسَى، نَـحسَبُهم. ومِـمَّن ترَكنَا مِئاتٌ بَل آلَافٌ فَالله يَعْرِفُهُم.
إنَّـهم أَضحَوا مَدرَسةً تَقُود فِكرَ المفَكِّرِينَ في العَالَـم؛ إذ سَحَرُوا اليَسَار وأَقعَدُوا اليَمِينَ. وحَرَّكُوا بَوَاقِي الهنُودِ الحمْرِ، وأيقَظُوا حركَةِ حقُوقِ السُّودِ، ونَبَّهوا الأقَلِّياتِ المضْطهَدَةِ، وشَجَّعوا منَاضِلِي الشَّتاتِ الأندلُسِيِّ والمورِيسْكِيِّ في العَالَـم، وأرشَدُوا المدافِعِينَ عَن حُقوقِ المستضْعَفِينَ، وحَالفُوا المحَارِبينَ لعُلُوِّ المستَكبِرِينَ في الأرْضِ بغَيرَ الحقِّ.
واشرَأَبَّتْ إليْهِم أعنَاقُ ذوِي الأفْكارِ السَّدِيدَةِ في الحقُوقِ البَشَرِيّة والعَدلِ الاجتِمَاعِي. وكَسَبُوا قُلُوبَ الشُّعوبِ المحبَّةِ للسِّلْمِ الدَّولِـيِّ. ونظرتْ بِـفِكرِهِم أَنظَارُ مَلايِينِ الناسِ مِن ذَوِي الـمُـعتقَدات العِديدَةِ في أُمَمٍ شَتَّى، بما يُكسِرُ هَيمَنَةَ العِرْقِ الأُسطُورِيِّ المخْتارِ.
وبِالطُّوفانِ عُرِفَتْ أَوْطانُ أهْلِ غزَّة وفِلَسطِينَ، وفُهِمَتْ أَوطَارُهُم، ودُرِستْ أَطْوارُهُم، وكثُرَتْ أنصارُهُم؛ إذْ فَضَحُوا خَطَرَ دَجَاجِلَةِ صُهْيُونَ عَلى البَشَرِيّة في المالِ والمآلِ، وَفي الاقتِصادِ، والسِّياسَةِ، والحرْبِ، والإعْلامِ، والفِكرِ، والعِلمِ، والتعْلِيمِ، والأعرَاقِ.
وغدَا رِجالُ غَزَّةَ أُمَناءَ الأَقْصى بَدَلَ المنَافِقِينَ، وأُعيدَتْ مَكانَةُ الأقْصَى إلى قَلْبِ فَلسْطِينَ بَعدَ مَكْرِ الماكِرِينَ، وأصَبحتْ فِلَسطِينُ عاصِمَةَ أحْرَارِ العَالم.
ومِنهُم أبو عُبيدَة؛ هذَا الذِي في الشَّرْقِ يُذْكَرُ، وفي الغَرْبِ لا يُنْكَرُ؛ وهُوَ مِنْ غزَّةَ الأَبِيَّة، مِنْ نَبْعَةٍ فِيهِمْ زَكِيَّة، نَـحسَبُه. وَدُونَ وجْهِهِ لِثَامٌ، لاَ تُميطُهُ الأَعْلاَمُ. إنَّه ابْنُ حُرَّةٍ؛ يطلُعُ عَلَى النَّاسِ طُلُوعَ الشَّمسِ، وَيغرُبُ عَنهم كَغُرُوبِها، لكِنَّهُ إن غَابَ لمْ يَغِبْ تَذْكارُهُ عَن أخبَارِ العَالَـم. إنَّهُ لَذُو أَنْفٍ وذُو أَنَفٍ، مَع صَدْرٍ لاَ يَبْرَحُهُ القَلْبُ، ولاَ يَسْكُنُهُ الرُّعْبُ. يَفْتَتِحُ الْكَلامَ بِالسَّلامِ، وَتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، ثُم يُفيضُ في حَديثِ الجهادِ والاسْتِشْهادِ بما يَبُثُّ في قُلوبِ جَيشِ اليَهودِ الإِرْعَاد! لا فُضَّ فُوه، ولا عاشَ مَن يَهجُوهُ. مَا يَحْرُمُ السُّكُوتُ إِلاَّ عَلَيْه، وَلا يَحِقُّ النُّطْقُ إِلاَّ لَه. وأَسَأَلُ اللهَ بَقَاءَهُ، وَأَنْ يَرْزُقَنِي لِقَاءَهُ!
يا أَعدَاءَ الجِهَادِ في غَزّة وفِلَسطِين، أعْني المتَستِّرينَ بالسُّنة، والمتتَرِّسِين بالسّلَف وهُم مِنهُم بَراء! يَا أصْحابَ الدَّاءِ الدَّوِيِّ، تَنْتَحلُون زِيَّ العُلَماءِ وأنتُم مُعلِّمونَ مُتقاعِدُون مِن التَّعلِيم الابتِدَائيَّ! يَا أَعْدَاءَ القُرآنِ وَالحديثِ النَّبويّ، أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ تَسْتَهْزِئُونَ؟! إِنَّما مَرَقتُم بافْتِئاتِكُم خَبَثَ الحَديثِ، وأَنْتُمْ خَبَثُ الخَبِيثِ.
يا عَبدَ العَبيدِ، مَالَكَ لاَ أَبَا لَكَ؟ يَا ركَائِبَ العَلمانِـجِيِّين، وزَرَابي الحاكِمِينَ الظَّالِـمينَ، ومَخَابِيثَ الملُوكِ المتَأَمرِكِين، تَرَوْنَ رَأَيَهُمْ وتَأتَـمِرونَ بأمْرهِم إذْ خَصَّصُوكُم لِقِتَالَ المؤمِنِين! فَهاتِ هَاتِ يا أَخا التُرّهاتِ؛ إنَّك لَأحْيَرُ مِن ضَبٍّ، وأذْهَلُ مِن صَبٍّ. يا ضَعيفَ الثّقةِ بأهلِ الْـمِقَةِ، عَدِّ عَمَّا أَخْطَرْتَهُ بالَكَ! ولا حَيَّاكم اللهُ، فمَا كُلُّ واحِدٍ منكُم وَاللهِ إِلاَّ شَيْطَانٌ فِي أَشْطَانٍ!
إنَّ مِن أَهلِ غَزَّة مَن رَأَى حَبيبَهُ أو قَريبَه الشَّهيدَ فِي الـمَنَامِ، كالشَّمْسِ تَحْتَ الغَمامِ، وَالبَدْرِ لَيْلَ التَّمَامِ، يَسِيرُ وَالنُّجُومُ تتَبْعَهُ، ويَسْحَبُ الذَّيْلَ والـمَلائِكَةُ تَرْفَعُهُ!
ومِنهُم الأشْيَبُ الْكَثُّ العُثْنُونِ، يَتْلُوهُ صِغَارٌ فِي أَطْمارٍ، وقد خَلَّفَ أُمَّ مَثْوَاهُ وَزُغْلوُلًا لَه معَها، لا يَدرِي مَتى يَعُودُ ولا أَينَ يؤُوبُ!
ومِنهُم العَجُوزُ الذِي حَنَى الدّهرُ صَعْدَتَهُ، وبلّلَ القَطْرُ بُردَتَهُ لكنَّه يَبِيتُ حَليفَ إفْلاسٍ، ونَجِيَّ وسْواسٍ حَتَّى إِذَا مَا بلَغَ الهزِيعَ الأخِيرَ مِن الَّليلِ، شـمَّـرَ الذّيْلَ، وبَادرَ السّيْلَ حَتَّى لا يَغرقَ الصِّغارُ النَّائمُونَ في الخِيام.
ومِنهُم العَاجزُ الذِي آنَسَ مِنْ أَهلِه الإثْقال فَأرَاد التَّخفِيفَ فظَعَنَ عَنْهُم سِرّاً، وهَلُمّ جَرّاً، فمَا يُعْرَفُ أَحَيٌ هوَ فيُتوَقّعَ، أَم أَودَعَتْه رَاجِـمَاتُ اليَهُودِ اللّحْدَ البَلْقَعَ؟
ومِنهُم مَن سَرَّحْنَ الطَّرْفَ فِي حَيٍّ كَمَيْتٍ، وَبَيْتٍ كلاَ بَيْتٍ، وَقلَّبْنَ الأَكُفَّ عَلَى لَيْتَ، فَفَضَضْنَ عُقَدَ الضُّلُوعِ، وَأَفَضْنَ مَاءَ الدُّمُوعِ، وَتَدَاعَيْنَ بِاسْمِ الجُوعِ. وَقَدْ صَهَرَتِ الهَاجِرَةُ الأَبْدَانَ، وَرَكِبَتِ الجَنَادِبُ الْعِيدَانَ.
ومنْهم الـمُرمِلُ، وقد دَجا جُنْحُ الظّلامِ الـمُسْبل، نِضْوُ سُرًى، خابِطُ ليْلٍ ألْيَلِ، ولَيسَ لَهُ في الأَرْضِ مِنْ مَوْئِلِ، وهْوَ مِنَ الحَيرَةِ في تملْمُل، جَوِيَ الحَشَى عَلى الطَّوَى مُشتَمِلٍ.
ومنهم ذُو مَجاعَةٍ وبوسَى، طارَتِ السِّنَةُ عنْ مآقِيهِ، إذْ أَحسَّ عَضَّةَ الْـجُوعِ التي حالَتْ دُونَ الهُجوعِ، فنهَضَ حينَ سَجَا الدُجَى، عَلى مَا بهِ مِنَ الوَجَى، يتَفَقَّدُ جِرابًا كفُؤادِ أمِّ مُوسَى.
وغزَّةُ اليومَ مَاؤُهَا هَضُومٌ، وَفَقِيرُهَا مَهْضُومٌ كَدَّهُ الجُوعُ، وَغَرِيبٌ نِضْوُهُ طَلِيحٌ، وَعَيْشُهُ تَبْرِيحٌ، وَمِنْ دُونِ فِرَاخِهِ مَهَامِهٌ فِيحٌ ولا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ بَعدَما فَصَلَ عنْهُم بكَبِدٍ مرْضوضَةٍ، ودُموعٍ مَرْفُوضَةٍ.
ثُمَّ إِنَّهم يَا إخْوتِي اعْتَاضُوا بِالنَّوْمِ السَّهَر، وبالإِقامَةِ السَّفَرَ، تَتَرَامى بِـهِم الـمَرَامِي، وتَتَهَادَى بِـهِم الـمَوَامِي، إذْ قَلَعَتْهمْ طَائراتُ اليَهودِ قَلْعَ الصَّمْغَةِ، فَجَعلتْهُم وقَد أَصْبَحَ كلُّ واحدٍ منهُم فَارِغَ الفِناءِ، صَفِرِ الإِنَاءِ، ما لهُ إِلَّا كَآبَةَ الأَسْفارِ. إنهم يُعَانُون الفَقْرَ، وأمَاني الْقَفْرَ، فِراشُهُم الْمَدَرُ، وَوِسَادُهُم الحَجَر، وقَد كَانوا أغْنِياء!
ومما رَأيْناهُ في قَنواتِ التِّلفازِ رَجُلًا فِي طِمْرَيْنِ، فِي يُمْنَاهُ عُكَّازَةٌ، وَعَلى كَتِفَيْهِ كِيسٌ أَسْوَد يَـحوِي جِنَازةٌ، يَصِيحُ صَيْحَاتٍ تكَادُ الأَرْضُ لهَا تَنْفَطِرُ، وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ!
يا مُسلِم، هذَا أخُوك، مَهْزُولٌ كَرِيب، سَاقهُ إليكَ الضُّرُّ، وَالْعَيْشُ الـمُرُّ؛ أَخُو تَرحَالٍ يَومِيّ، جَوَّابُ أَرْضٍ، طَلَع مِنْ مَسكَنهِ طُلُوعَ الشَّارِدِ، وَنَفَر نِفَارَ الْآبِدِ، يَفْرِي الْمَسَالِكَ كُلَّ صَبَاح، وَيقْتَفِرُ الـمَهَالِكَ كُلَّ مسَاء.
إنَّه إِلَيكَ وَافِدُ الِامتِحانِ وَبَريدُهُ، وَفَلُّ الجُوعِ وَطَريدُهُ، وَحُرٌّ قَادَهُ الضُّرُّ، والظُّلمُ الـمُرُّ. وهُو أَخُوكَ في الإِسْلامِ بَلْه النَّسَب الكَبير، يَسْتَعْدِيكَ عَلى الجُوعِ، وَالجْيبِ الـمَرْقُوعِ. وَهُو غَرِيبٌ أُوقِدَتِ النَّارُ عَلى سَفَرِهِ، وَنَبَحَتْ نابِـحاتُ اليَهودِ عَلَى أَثَرِهِ، وَكَنَسَتِ القَاصِفَاتُ بَعْدَهُ العَرَصاتُ.
إنهُ مريضٌ لم يسلَم في مَشْفاهُ مِن القَصفِ الجوِّيِّ؛ خُطفَ الطَّبِيبُ، وقُتِل المسْعِف، ونَفَد الدَّوَاءُ، في هَذا الحِصَار! يَتَصَلَّى نَارَ الصَّبْرِ عَلى العَمَليَّةِ الجِراحِيّةِ دُونَ تَـخدِيرٍ وَيَتَصَلَّبُ، وَيَتَقَلَّى عَلى جَمْرِ مُداهَـمَاتِ القَتلِ كلَّ حِينٍ ويَتَقَلَّبُ، وَلْيَس لَه إِلاَّ الصَّبْرُ أَوِ الْقَبْرُ!
ولَقدْ بَلَوْا مِنَ الـمَصَائِبِ والْـخُطُوب ما لَـمْ يَرَهُ الرَّاؤُونَ، وَلا رَوَاهُ الرَّاوُونَ.
يا مُسلِمُون، هؤُلاءِ إخْوانُكُم، عَلى الرُّغم مِنَ الضُّرِّ، رَابَطوا في دِيارِهِم، فلَزِمُوا أَرْضَهُم، صِيِانَةً لِعَرْضِهم!
إِنهُم مَا هَانُوا حَيْثُ كَانُوا، فَلا يُزْرِيَنَّ بِهمْ عِنْدكُمْ ما تَرَوْنَهُ مِن أَسَمَالِـهِم وأَطْمارِهِم؛ فَلَقَدْ كَانوا وَاللهِ مِنْ أَهْلِ ثَمٍّ وَرَمٍّ، سَعِيدُونَ بما يَـملِكُون، في حَـمدٍ وشُكْر، يَشتَرونَ كُلَّ خَيرٍ في الصَّباحِ ويَبِيعُونَ رَابحِينَ عِندَ الرَّواحِ! كان عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِم، وَعِنْدَ الـمُقِلَّينَ السَّمَاحَةُ والبَذْلُ!
ولقَدْ هَبَّتْ بِهِمْ إِلَيْكُمْ رِيحُ الاِحْتِيَاجِ، وَنَسِيمُ الإِلْفَاجِ، فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ لِأنْقَاضٍ خَارِجةٍ مِن تَحتِ الأَنْقَاضِ، هَدَّتْهُم الحَاجَةُ، وَكَدَّتْهُم الْفَاقَةُ، وتَقَاذَفَتْ بِهِم أوَامِرُ الإخْلاءِ اليَهودِيّة؛ فَهُم شُعثٌ غُبْر.
أما جُبناءُ العُلماءِ الذينَ لمْ يَنطِقوا بحُلوَةٍ ولا مُرّةٍ، ولا فاهُوا فَوْهَةَ ابنِ أمَةٍ ولا حُرّةٍ، فَعَلَى المسلِمِينَ أَنْ يَضرِبُوا عَنهُم صَفْحاً، وقُبْحاً لِصَمْتِهم وشُقْحًا. إنَّـهم زَوَامِلُ الأَسْفَارِ، وأحْلاسُ الصَّغَار، عَبِيدُ الجِرَايَاتِ الشّهرِيَّة بِالدِّرْهَم والدِّينَارِ. مَاذَا عَليهِم لَو كَانُوا أُولُو بَقِيَّة، لا يُهْمِلُون فِقْهَ السَّرِيَّة، يَطرُدُونَ مِن صُدُورِهم قُلُوبَ الرَّعَادِيدَ، ويَسِيرُونَ بِالمسلِمينَ سَيرَ الصَّنادِيد، فَيُصدرُ جَمعُهم فُتْيا أَبْطَالٍ يحْتَذِيها فُقهاءُ القِتَال! أَلَيسَ إِمامُنا أَمَامَنا؟!
وَيلٌ لِفِلسطِينَ ولِلعَرَبِ مِن الْـحُكَّامِ الجرَب! ها قَد اجتَمَعوا في “جامِعةِ الدوَلِ العَرَبية”، أعْدادُ جُيوشِهِم بِالملايِينِ تَرأَسُها النَّياشِين، وأسْلحَتُهم خَطيرَةٌ وَفِيرَة، ذَخَرُوها لِمُدافَعَة العَدُوّ بِزعْمِهِم. مِنهُمُ المطبِّعُون، ومِنهُم المتَّبِعُون، ومِنهُم دُونَ ذَلك. وأجمَعُوا على نُكْرِ العَدوّ ومَكرِهِ، وتَلاوَمُوا عَلى الاغتِرارِ بإفْكِهِ، وتعَاهَدُوا كَذِبًا عَلَى ترْكِهِ، ثمّ إنَّهُم بَعدَها تَفرَّقوا بِوُجوهٍ باسِرَةٍ، وصَفقَةٍ خَاسِرةٍ!
حَقِيقٌ عَلَيَّ أَلَّا أَقُولَ غَيْرَ الحَقّ، وَلا أَشْهَدَ إِلاَّ بِالصِّدْقِ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبِشَاَرةٍ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّة، أنَّ الله تَعَالى سَيُطَهِّرَ الـمَسْجدَ الأقْصَى مِنْ رِجسِ اليَهُودِ، ومِن كُلِّ نَذْلٍ يَنقُضُ عَنِ القُدسِ وفِلَسطينَ العُهُود.
وحيَّا اللهُ أَهْلَ النَّجدَةِ، وأَخُصُّ مِنهُم حَرائرَ الإِحْسَانِ في عِدَّةِ بُلدانٍ مِن بِلادِ الإِسلامِ؛ فإِنَّ الـمَكَارِمَ في هذِه الغُصَّة أَسْفَرَتْ عَنْ أَوْجُهٍ مِنهُنَّ بِيضٍ، وَكَانَ الخَالُ في وَجَنَاتِهَا!
أَلا إنَّ مَنْ بَصَّرَ مَا قَصَّرَ، ومَنْ حذَّرَ كمَنْ بَشَّرَ، ومَنْ أَنذَرَ فقَدْ أَعْذَرَ!
يَا مُسلِمُ، إِنِّي قَدْ أَسْمَعْتُ وَأَبْلَغْتُ، فَإِنْ قَبِلْتَ فَاللهُ حَسْبُكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فاَللهُ حَسِيبُكَ.
وإني مَا ذكرتُ لكَ إلا التّحقيقَ، وكتَبه ابنُ الأحمرِ معذرةً إلى ربِّه، وباللهِ التوْفيقُ.