
المولد النبوى وذكرى الثورة
سبتمبر 16, 2025
ارتقاء 82 شهيدا في غزة جراء قصف الاحتلال
سبتمبر 16, 2025القائد الشهيد إسماعيل هنية
تقبّله الله
﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡعِلۡمِ قَاۤىِٕمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [آل عمران: ١٨].
الحمد لله رب العالمين، رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، فقلّدهم أمانة الخير ونشر الضياء، وأرشدهم سبل الاقتداء والاهتداء، فيدرؤون عن أمتهم أسباب الشقاء والعناء، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا محمد بن عبد الله النبي الأمي، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
إن الله أرسل نبيه محمداً بشريعة الإسلام الخالدة، بعد أن غرق الناس في تيه الظلام، فعمّ الفساد، وانحصر العدل، وطغى الظلم؛ فتشوفت البشرية جمعاء إلى العدل، والنجاة من الظلم، وتطلعت إلى من يأخذ بيدها إلى الخير والحق والعدل، إلى من ينير لها الدرب، ويمضي بالناس على هداية ورشاد؛ فكان بعْث محمد للأمة هاديًا ومبشرًا بإذن ربه وسراجاً منيراً، انكشفت به غياهب الشرك وأساطير الجاهلية، فتبدل الحال من ظلم إلى عدل، ومن ضلال إلى هداية، فأشرقت الأرض بنور ربها.
ولقد جاءت الشريعة بقيم وأخلاق ومبادئ إنسانية، فمكّنت لأمة حضارية اتخذت من الفضيلة منهجاً وسلوكاً؛ فتدافع الناس في مشارق الأرض ومغاربها للانضواء تحت لواء الإسلام العظيم، ذلك أن الشريعة الغراء جاءت وسطية في أحكامها، ترعى مصالح العباد في العاجل والآجل، فباستقراء أحكامها نجد أن الصلاح من أهم عناوينها، بل هو جوهرها ومشكاتها التي انطلقت منها.
والعلماء الربانيون هم سدنة الأمة، ودرعها الحصين، وعليهم تقع مسؤولية تبصير العباد وتنويرهم؛ فبهم يكون الانعتاق المأمول من ربقة الطاغوت، وبفعلهم تنصهر كل الدعاوى الهدامة التي من شأنها أن تهدد أمن الأمة وأمانها، فهم من يأخذ بيد الأمة نحو رشدها، ذلك أنهم حملوا هذه الشريعة عبر الزمان، وسبروا غورها، واستخرجوا من كنوزها ودررها ما واجهوا به النوازل، ووضعوا الحلول، ليأخذوا بالأمة إلى بر الأمان دوماً؛ فهم ورثة الأنبياء، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
“مَن سلك طريقاً يبتغي به علماً سلك الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَن في السماوات ومَن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر” .
فكلما كان العلماء بعافية انعكس ذلك على الأمة ازدهاراً، واستقراراً وتقدماً، وكلما تراجع دورهم انكفأت الأمة على نفسها تشكو مصابها، وإن ما أصاب الأمة اليوم من تفرق وتبعية إنما مردّه إلى تنكّب العلماء عن القيام بمسؤولياتهم كما ينبغي فتراجعت الهمم، وساد التقليد والجمود والتعصب فانحصر العلم، وتراجع دور العلماء، وابتعدت الأمة عن أسباب عزها ومجدها قليلاً قليلاً؛ حتى ضيعت هذا المجد وأصبحت في ذيل الأمم.
إن الأمة تتحرك اليوم لتستعيد مجدها، وتستأنف دورها الريادي بين الأمم، وتعمل جاهدة على تخطي العقبات والصعاب.
إن منارات هذا الحراك إنما هم علماء الأمة الذين يحملون منهج نبينا محمد ﷺ، بكل ما فيه من النقاء، والوعي، والفهم الدقيق، وسعة الأفق والنظرة العميقة، والوسطية التي توازن بين المصالح والمفاسد، فتشق الدرب للمسلمين، وتضع لهم الحلول وتفتح لهم الآفاق، بعيداً عن الجمود والتحجر والفقه الظاهري الذي يعيق تقدم الأمة، بل يسيء إليها، ويخلق لها إشكالات كثيرة على مستوى الأفراد والجماعات.
إن من أعظم أعلام الأمة الإسلامية اليوم: إمامنا فضيلة الشيخ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي؛ هذا الإمام الرباني الذي يتحمل مسؤولية كبيرة نحو أمته؛ سواء في تبصيرها بأمر دينها، والأخذ بيدها نحو الرشاد، وما فيه صلاحها، وتخفيف الآصار والأغلال عن عاتقها؛ ليتسنى لها المسير نحو مجدها، بعيدًا عن التعنت والتشدد والحَرفية، وضيق الأفق الذي يضيق عليها، ويسيء إليها وإلى آمالها وتطلعاتها.
إن شيخنا القرضاوي -حفظه الله- واحد من العلماء القلائل الذين تصدوا لهموم الأمة قولاً وفعلاً ومنهجاً، فمواقفه حيال القضايا العالقة تصدر عن فكر قويم وحكمة بالغة، باستعادة الأبعاد الاستراتيجية للأمة الإسلامية، ودفعها مجدداً إلى مصاف الأمم المعتبرة سياسياً وفكرياً وحضارياً.
فقد تضافرت جهوده ما بين دعم للمقاومة، وتأييد للشرعية، ومشاركة في تصويب المسارات السياسية والوطنية، فضلاً عن دعوته المستمرة لتوحيد الصف العربي، بعد أن أثبتت المذاهب السياسية الأخرى فشلها في استعادة ما انفك من إسارها، إذ ظلت القضية الفلسطينية إثر ذلك عالقة في فك الطغيان وبراثن الاحتلال.
وإننا في فلسطين لمدينون لفضيلته بواجب التقدير والعرفان لمواقفه الدينية والسياسية والقومية في استعادة القضية الفلسطينية مكانتها، وردها إلى حضن العروبة والإسلام رداً جميلاً، بعد أن أفلتت من إسار الأممية (القومية) إلى المجتمعية، بفعل المخططات العدوانية التي عمدت إلى تطويق القضية الفلسطينية وحصرها من قضية إسلامية عربية عامة إلى قضية فلسطينية خاصة تقع مسؤولية تحريرها على العاتق الفلسطيني وحسب.
وقد جاءت جهوده الدولية مساندة للقضية الفلسطينية في توجيه عناية المجتمع الدولي وتبصيره بمسؤولياته تجاه الفلسطينيين وما آلت إليه أوضاعهم، فكان من الدعاة الأوائل لضرورة التصدي لمخططات الصهاينة في القدس، والتي تهدف إلى طمس المعالم الإسلامية ومقدساتها وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك، ولقد كان للمؤتمرات التي شارك فيها في ربوع المعمورة نصرة للقدس والأقصى بالغ الأثر في دعم صمود أهلنا المقدسيين وتجلية دروب النصر والتحرير.
وما تزال خطبه القوية المؤثرة تهز عرش المحتلين، وتشجع المرابطين والمرابطات في ساحات الأقصى، والشيخ حفظه الله جدير بأن نطلق عليه وصف خطيب المسجد الأقصى المبارك، كما كان للشيخ حفظه الله الأثر البالغ في تسيير قوافل الإنعاش وكسر الحصار عن غزة، فكان عند العهد به في طليعة المبادرين بترؤسه وفد الاتحاد العالمي العلماء المسلمين الذي توجه إلى غزة وشد بوصلة أهداف المجتمع الدولي إلى غزة المحاصرة وما تتعرض إليه من انتهاكات إنسانية.
وفي موازاة ما يقدمه المجاهدون الفلسطينيون في خط المواجهة العسكرية مع المحتل، يقدم الشيخ القرضاوي جهودًا فقهية علمية تثمن ذات الدور وتدفع باتجاهه، وتشكل له شرعية الديمومة والاستمرار.
ونحن هنا في غزة – فلسطين ما زلنا نستحضر الزيارة التاريخية لفضيلته للقطاع، وكيف عبر فيها شعبنا عن حبه وتقديره للشيخ، حيث خرجت الجماهير في استقباله استقبال شعب محب لهذه القامة السامقة، كيف وهو من أهل مصر الحاضنة لغزة تاريخياً وجغرافياً، ويعيد المشهد الأول الذي سجله فضيلته بزيارة القطاع في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ولقد كانت جولته الكريمة لعديد من المؤسسات والمواقع بالغ الأثر في نفوس أهل غزة المحاصرين، ومن أبرز محطات الزيارة أن فضيلته ألقى خطبة الجمعة في المسجد العمري الكبير بغزة، وقد حضرها الآلاف من أبناء القطاع.
لقد وقف الشيخ في شرفة الفندق الذي نزل فيه على ساحل بحر غزة، ونظر شمالاً نحو فلسطين وساحلها عسقلان وهو القريب من حدود القطاع، ونظر إليها نظرة العالم الواثق بنصر الله والعودة إلى فلسطين كلها.
كما حملت زيارته لغزة رسائل موجهة تضرب الرواية الصهيونية وتندد بجرائمها من ناحية، وتقض مضاجع المحاصرين من ناحية أخرى، بينما تبارك خيار المقاومة من ناحية ثالثة، ذلك أنه لا يفتأ يدعم المقاومة وينادي بها، ويدفع باتجاه دعم المقاومة بالسلاح والمال والعتاد ومقومات الجهاد، بل ويحرض العلماء ضد الكيان الصهيوني، ويقاوم التطبيع بكل وسائله، وليس أدل على ذلك من تأصيله لجواز العمليات الاستشهادية، ومشاركته في كل المؤتمرات الداعية إلى إعمار غزة وإنهاء حصارها.
وعليه فإن زيارته لغزة المحاصرة تشكل مستنداً تاريخياً ذا حول وقوة شرعية في إثبات عدالة القضية الفلسطينية، والمطالبة برفع الحصار الظالم عن القطاع، والذي مضى عليه الآن عشر سنوات كاملة.
وعلى صعيد الكل الفلسطيني والجبهة الداخلية، فقد دعا إلى توثيق أواصر اللحمة الداخلية للمجتمع الفلسطيني، ونبذ الفرقة والانقسام والتشظي، فلطالما أشار ونصح وأوصى بضرورة إنجاز المصالحة، وتحقيق الوحدة بلم الشعث الفلسطيني في مواجهة كل المحاولات الهادفة إلى طمس الهوية الفلسطينية وتبديد وجودها.
وقد أكد فضيلته على أن فلسطين ثابت ديني قبل أن تكون ثابتاً وطنياً، إذ أفتى بحرمة التنازل عن شبر من أرضها.
وقد تشرفت بلقاء الشيخ وزيارته مرارًا في بيته العامر في دوحة الخير، وكلما دخلنا عليه وجدنا فيه أباً حنوناً صدوقاً محباً مبشراً بتحرير فلسطين وزوال الظالمين، وما كان لي شرف الصلاة في مسجد عمر بن الخطاب في الدوحة والاستماع إلى خطبته في صلاة الجمعة، وكم كان عظيما حينما قدمني -أدامه الله وحفظه- لأتكلم في الناس بعد الصلاة.
أما عن مؤلفاته فقد جاءت امتداداً أصيلاً لمنهج رباني، وتراث علمي إسلامي مردّه الكتاب والسنة واجتهاد السلف الصالح، بما يتناسب مع المستجدات المعاصرة، ولعل قراءة ناضجة لهذا النتاج العلمي لتشي بهذا التلاقح المحمود بين الأصالة والمعاصرة، لا سيما في معالجته للنوازل الطارئة على الواقع الإسلامي.
إن الجمع بين الفكر والعلم والإصلاح المجتمعي هبة ربانية لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وقد جمعت له سائغة رصينة في سياق حضاري إسلامي متين فقد تبوأت جهوده الفقهية مركزا متقدما في العالمية الفكرية، مما وجه عناية الكثير من المنظمات العلمية ذات الاختصاص إلى ترجمة مؤلفاته واستهدافها بالدراسة والتحليل.
والحق أن فضيلة الدكتور القرضاوي في جميع مؤلفاته قد رسخ في الأذهان بأنه قامة علمية فكرية سامقة، تعمد إلى التأصيل والتجديد، فهو قبل أن يكون فقيهاً هو مفكر حاذق، يقرأ الواقع بعين التدبر والحكمة والبصيرة، ثم يعمد إلى إصدار أحكام تحفظ المد الإسلامي من الجزر والانحسار، فهو بذلك يعكس الصورة الحضارية العالمية للإسلام والمسلمين.
وختاماً، أودّ أن أذكر بكل الفخر بأنني وإخواني الذين شغلنا موقع الحكومة الفلسطينية المنتخبة وعلى مدار السنوات الماضية، قد اطمأنت قلوبنا في إدارة الشأن العام لفتاوى الشيخ في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإدارة العلاقات الدولية، والنفاذ إلى ساحة الواقع المتداخل والمعقد ومركباته.
أسأل الله العلي القدير أن يظل علمه جنة وارفة تتفيأ الأمة ظلالها، وأن يثقل موازينه فيترقى بكل حرف خطّه نصرة لدين الله درجة في الجنة، وأسأله تعالى كما جمعنا في الدنيا على درب المقاومة والتحرير، أن يجمعنا على سرر متقابلين في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ عِلۡمࣰاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [النمل: ١٥].
والله ولي التوفيق.




