
غارات دامية ونسف متواصل للمباني بغزة
سبتمبر 15, 2025إبراهيم السكران
فك الله أسره*
الحمد لله وبعد.. فليس حديثنا اليوم عن عالم أو داعية، ولا عن منكرات سلوكية، ولا عن قضايا معيشية، لا، ليس ذلك كله..
إنه رسول الله ﷺ!
فداه نفسي وأبي وأمي وولدي صلى الله عليه وبارك وسلم سلاماً كثيراً إلى يوم الدين.
إنه رسول الله ﷺ الذي سأل عنه ملك النصارى هرقل، ثم قال وهو في أبهة ملكه: “قد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه”1.
إنه رسول الله ﷺ الذي جعله الله مِنة علينا، يمتن بها الله سبحانه علينا، يتمدح ربنا سبحانه بأنه أرسل لنا محمد بن عبد الله ﷺ حيث يقول الله: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ بَعَثَ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ﴾ [آل عمران: ١٦٤]؛ بل إن الله في كتابه وصف الشمس بأنها سراج كقوله: ﴿وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجࣰا﴾ [نوح: ١٦]، وفي القرآن نفسه وصف الله محمداً ﷺ بأنه سراج منير؛ لشروق شمس رسالته على البشرية؛ كما قال الله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الفرقان: ٦١].
قال الإمام ابن رجب: “سمى الله محمداً ﷺ سراجاً منيراً؛ لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأتم وأعظم وأنفع”2.
وميّزه الله سبحانه بالسيادة في الدنيا والآخرة، وجعله (الأول) في مقامات كثيرة بين الناس جميعاً، فهو سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع3.
وكل الرسالات والنبوات قبله كانت مبنية على الخصوصية القومية، إلا رسول الله ﷺ شرفه الله بعالمية الرسالة للبشرية كلها، “وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة”4.
بل حتى لغته ﷺ وطريقة تركيبه للألفاظ والمعاني، شرفه الله بأن تفرد بأسلوب خاص، وهو أسلوب جوامع الكلم؛ كما قال النبي ﷺ: “بُعثت بجوامع الكلم”5. وقال: “فُضلت على الأنبياء بست: أُعطيت جوامع الكلم…”6.
بل إن الله جل وعلا اختار لنبيه أشرف مكان، وأشرف زمان، وأشرف نسب؛ فجمع له الشرف من أطرافه مكاناً وزماناً ونسباً. فقال ﷺ: “بُعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً”7. وقال ﷺ: “إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”8.
بل إن النبي إذا استفتح باب الجنة يسأله الملك الموكل بخزانة الجنة: من أنت؟ فإذا أخبره النبي باسمه قال الملك: “بك أُمرت، لا أفتح لأحد قبلك”9.
سيرة النبي ﷺ ومعجزاته
ولا يُعرف رجل في البشرية كلها من أولهم إلى آخرهم نُقلت أخباره وسيره وأيامه حدثاً حدثاً مثل رسول الله ﷺ، حتى أنهم نقلوا الخوارق التي وقعت يوم مولده، ومرضعاته، وحواضنه وأول بعثته وأسماءه وهجرته وأولاده وزوجاته، وأعمامه وعماته، وسراريه ومواليه وخدمه وكتابه، ومؤذنيه، وأمراءه، وحرسه، وشعراءه وحُداته، وكتبه التي أرسلها إلى الملوك، بل حتى مَن يضرب الأعناق بين يديه، وطريقة عبادته في وضوئه وصلاته وصيامه وحجه، ومعاملاته وقروضه ورهنه وطعامه ولباسه، وشمائله، بل حتى أسماء الدواب التي ركبها، وغير ذلك كثير، وكل ذلك مكتوب في السير والشمائل والمغازي ودلائل النبوة.
ومن هذه الكتب: زاد المعاد وهو أعذبها، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية وهو أوعبها، والشفا للقاضي عياض، والعجالة السنية للمناوي شرح ألفية السيرة للعراقي وهو أكثفها، وفصول مهمة في الجواب الصحيح لابن تيمية، وغيرها.
وقد قال الإمام ابن تيمية: “كان الذين رأوا محمداً ﷺ ونقلوا ما عاينوه من معجزاته، وأفعاله، وشريعته، وما سمعوه من القرآن، وحديثه.. ألوفاً مؤلفة”10.
وأما معجزات النبي ﷺ وعجائب حياته فهي كثيرة جداً، وقد تنافس أهل العلم في جمعها، فكان اللاحق منهم يستقرئ أموراً ويضيفها على السابق، وهذا شأن العلوم، وإن كان المستشرقون وشراحهم العرب يجعلون هذه المزية إشكالاً، ومن ذلك قول ابن تيمية رحمه الله: “ومعجزاته تزيد على ألف معجزة؛ مثل انشقاق القمر والقرآن المعجز، وأخبار أهل الكتاب قبله، وبشارة الأنبياء به، ومثل أخبار الكهان والهواتف به، ومثل قصة الفيل التي جعلها الله آية عام مولده، وما جرى عام مولده من العجائب الدالة على نبوته، ومثل امتلاء السماء ورميها بالشهب التي تُرجم بها الشياطين بخلاف ما كانت العادة عليه قبل مبعثه وبعد مبعثه، ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم الله عز وجل من غير أن يعلّمه إياها بشر، فأخبرهم بالماضي مثل قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح وهود وشعيب وصالح وغيرهم، وبالمستقبلات.
وكان قومه يعلمون أنه لم يتعلم من أهل الكتاب ولا غيرهم، ولم يكن بمكة أحد من علماء أهل الكتاب ممن يتعلم هو منه، بل ولا كان يجتمع بأحد منهم يعرف اللسان العربي، ولا كان هو يحسن لساناً غير العربي، ولا كان يكتب كتاباً ولا يقرأ كتاباً مكتوباً، ولا سافر قبل نبوته إلا سفرتين: سفرة وهو صغير مع عمه أبي طالب لم يفارقه، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب ولا غيرهم، وسفرة أخرى وهو كبير مع ركب من قريش لم يفارقهم، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب، وأخبر مَن كان معه بأخبار أهل الكتاب بنبوته مثل: إخبار بحيرا الراهب بنبوته، وما ظهر منه مما دلهم على نبوته ولهذا تزوجت به خديجة قبل نبوته لما أخبرت به من أحواله مثل نبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومثل تكثير الطعام القليل حتى أكل منه الخلق العظيم، وتكثير الماء القليل حتى شرب منه الخلق الكثير، وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر، ولكن المقصود هنا التنبيه بأن محمداً ﷺ له معجزات كثيرة”11.
وفضائله وشرفه وهيبته في النفوس لها مقام طويل، والحديث عنها واعتقادها وتحقق النفوس بمعانيها من أرفع مقامات الإيمان، فكلما تحقق القلب بتشريف وهيبة وحب رسول الله ﷺ.. صعد في مدارات الإيمان.
حب النبي ﷺ لنا
فهل هذا كل شيء؟
لا، ولكن ثمة أمر يصل بالعجب إلى منتهاه، وهو كمال شفقة رسول الله بنا، وشدة حب رسول الله لنا معشر أمته، وحرصه علينا، وإلحاحه في سؤال الله كل خير ومصلحة لأمته.
أخذ النبي ﷺ مرةً يقرأ قول الله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ﴾ [إبراهيم: 36]. وقول الله: ﴿إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ﴾ [المائدة: ١١٨]؛ فتذكر أمته فرفع يديه وقال: “اللهم أمتي أمتي”. وبكى، فقال الله عز وجل: “يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك”. فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله فأخبره رسول الله ﷺ بما قال، وهو أعلم، فقال الله: “يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك”12.
انظر إلى علم الله سبحانه بأن ما أهم محمداً ﷺ حتى بكى هو شفقته وحبه الخير لنا معشر أمته، حتى أن الله وعده -ووعْده الحق- أن يرضيه في أمته، نسأل الله من فضله!
والله سبحانه قد أعطى الأنبياء دعوات يجيبها لهم، فكل نبي استعملها فاستجيب له، إلا محمد ﷺ، أتدري ماذا فعل رسول الله بهذا الخصيصة في الدعوة المجابة؟ ادخرها رسول الله ﷺ لنا نحن معشر أمته: “لكل نبي دعوة، فأريد إن شاء الله أن أختبي دعوتي، شفاعةً لأمتي يوم القيامة”13. وقال: “لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة”14.
ولذلك إذا ضاق الناس بالمحشر يوم القيامة، وفزعوا للأنبياء فاعتذروا، أتوا محمداً ﷺ، فانظر كيفية شفقة النبي ﷺ بأمته:
“فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً، لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سَلْ تُعطَه واشفع تُشفّع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب”15.
فبالله عليك هل تعرف شفقة بالأمة أكثر من هذه؟ الناس في المحشر، في أكثر اللحظات ضنكاً، يفكرون في أنفسهم، والنبي يقول: “أمتي أمتي”.
إنه مهتم بأمرنا نحن معشر أمته!
وكان النبي بأبي هو وأمي ﷺ يخبرنا ببعض أدعيته لنا معشر أمته، ومن ذلك شفقته بنا من الكوارث الكبرى، كما يقول ﷺ: “وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم”16.
والناس يوم النحر يفكرون بأضحياتهم، وأضاحي أقاربهم، وأما رسول الله ﷺ فإنه مهموم بشأن أمته: “بسم الله، والله أكبر ، هذا عني، وعمن لم يضحِ من أمتي”17.
وفي تشريعات كثيرة كان النبي ﷺ يبين أن المانع له منها هو خوف المشقة على أمته، كقوله عن الجهاد: “ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية”18. وقوله عن تأخير وقت العشاء: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا”19. وقوله عن السواك: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة”20. وغيرها من الأحاديث التي كان النبي ﷺ يبيّن أن الحامل له على ترك الأمر بها هو خوف المشقة على الأمة.
ولما سُئل ابن عباس رضي الله عنهما عن سبب تخفيف النبي ﷺ جداً في علة الجمع قال: “أراد أن لا يحرج أمته”21.
ولما كثر الصحابة في صلاة التراويح تركها النبي ﷺ وقال لأصحابه: “إنه لم يخفَ عليّ مكانكم، لكني خشيت أن تُفرض عليكم، فتعجزوا عنها”22.
واستمر النبي ﷺ يراجع ربه لتخفيف الصلاة المفروضة علينا من خمسمائة إلى خمس صلوات في الحديث المشهور المعروف في قصة الإسراء والمعراج في الصحاح، وهذه الشواهد السابقة في كمال شفقة النبي ﷺ بنا معشر أمته؛ هي التي عبر عنها القرآن ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة : ١٢٨].
ولذلك كان أهل العلم يتنافسون في العبارات الإيمانية التعظيمية لرسول الله ﷺ، حتى قال الشافعي في رسالته المشهورة: “فلم تمس بنا نعمة، ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظاً في دين ودنيا، أو دُفع بها عنا مكروه فيهما، وفي واحد منهما.. إلا ومحمد ﷺ سببها”23.
وقال ابن تيمية: “كل خير في الوجود، إما عام وإما خاص؛ فمنشؤه من جهة الرسول… والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة”24.
هذا هو النبي الأعظم، فداه نفسي ﷺ!