
في غمرات الطوفان (11)
سبتمبر 5, 2025
الاحتلال يصعّد نسف الأبراج ويهدد بتهجير غزة
سبتمبر 6, 2025أدباء العالم يثنون على النبي ﷺ (1/3)
تعددت مظاهر رفعة ذكر النبي محمد ﷺ بتعدد المشاعر الإنسانية، وبقدر تشعب الأفكار البشرية، وبعدد من وصله خبر بعثته عليه السلام. وما ذلك إلا مظهرٌ من مظاهر إعجاز بعثته، ودليلٌ ساطعٌ على صدق نبوته. فما كان لبشرٍ من قبله ولن يكون لأحدٍ من بعده مثل هذا الصيت الذي سارت به الركبان مالئةً الأسماع والأفئدة بشمائله العطرة. ووضع اليد على بعضٍ من هذه المظاهر لهو مما يَعجز عن الإحاطة به من كان له في ميدان النظر صولاتٌ وجولاتٌ، فكيف يكون الحال إذن في ما لا حصر له، ولا قدرة على الإحاطة به؟!
وليس الأمر تشدقاً أو تفيقهاً أو شقشقة لسانٍ أو ادعاءً فارغاً؛ بل يقوم على صدق هذه الدعوى ما لا قدرة للمرء على إيراده ذكراً، فضلاً عن سبر أغواره شرحاً أو الإحاطة به علماً. فأينما يممت الوجه تجد عالماً متبحراً أو بحاثةً متدبراً أو مؤرخاً متمكناً إلا وقد كانت سيرته ﷺ جزءاً مما تبحر فيه أو تدبره أو أرَّخ له، سواء أكان دافعه لذلك حسن نية أم سوء طوية. فالأول أبهرته الشمائل المحمدية فانطلق يسبح بحمدها، ناشراً عبيرها العبق في كل ميدان، وباثاً إعجابه الذي لا حد له فيما يكتبه من كتب ومقالات يستودعها دقائق مشاعره المرهفة تجاه هذا الذي غيرت بعثته الكون إلى غير ذي رجعة. أما الثاني فما رجع من محاولاته البلهاء لتسقّط ما كان يتوهمه من نقائص تشوب الثوب الطاهر إلا بخُفي حنين والكثير من هذه الطائفة سحرته السيرة النبوية العطرة: فملأت قلبه حباً بعد بغض.
وإنَّ العجز عن الإحاطة لا يمنع من تلمس طريقنا في الدروب الوارفة الظلال في الخمائل الندية لسيرة خير البرية، لنقف على بعض مظاهر تلك العظمة السامقة، والرفعة الشاهقة، لعلنا في هذا السعي نجد ما ينقع الغلة، ويبل الصدى؛ فإنْ تعذر الجَرْعُ ما فاتنا الرَّشْفُ.
لم يكن مدح الرسول ﷺ حكراً على منْ شاهده أو وقفاً على منْ صاحبه. صحيحٌ أنَّ هؤلاء كانوا الأقدر على الوصف، والأبلغ في البيان لأنهم عايشوه عن قربٍ: فَنَفَحَتْهُم منه النسمات العطرة، وتفيؤوا منه الظلال الندية، فغمرتهم الأنوار البهية، وأشرقت في نفوسهم الهبات النبوية السنية. لكنَّ الشوق الجامح، والحنين الجارف يفعلان في النفس البشرية فعل من شاهد، وعايش.
فكان هناك في كل زمانٍ من امتلأت نفسه بحب خير البشر، فتفتق عن هذا الحب عبقريةٌ شعريةٌ ما بلغت كمالها، ولا أينعت ثمارها إلا في مدح خير الرسل. فكانت البردة ومعارضاتها على مر العصور ترجمان حبَّ جارفٍ، وعنوان شوقٍ غامر. ووقتنا الحالي لم يخل من هذه المنحة الربانية التي جادت على كل أهل عصر ومِصر فها هي مسابقة “كتارا لشاعر الرسول ﷺ” تروم ما رامته قرائح الشعراء على مدى الأعصر الدارسة من أنْ تُجَمِّلَ شعرها بخير البشر. ويا ليت شعري! ما أشد فرح من أحرز قَصَبَ السَّبْقِ في هذا المضمار: لا الدنيا تسعه، ولا الإطراء المعهود يُرضيه، وأنّى لشيءٍ من تقريظ الناس له أن يبهجه إلا قولٌ واحدٌ يبلغ منه أبلغ أثرٍ وهو أنْ يُدعى على رؤوس الخلائق بشاعر الرسول.
وممن أسعده القدر فتدثر ببردته الشريفة في هذه المسابقة الشاعرة “بدرية البدري” والتي فازت بهذه الجائزة في نسختها الخامسة عن فئة الشعر الفصيح. هتف قلبها قبل أن ينطق لسانها قائلاً: ’’لا يمكن لأيِّ كلمةٍ أن تصف ما أشعر به من فخرٍ واعتزازٍ ورضا.‘‘ كيف لا؟! وقد نالت من الشرف غايته، وظفرتْ من العزِّ أعظمه. وها هي تُعبِّر عن خلجات نفسها بقولها: ’’الكتابة للنبي محمد ﷺ شرفٌ عظيمٌ بحد ذاته، فما بالك بفوز القصيدة بجائزة لها قيمتها في الساحة العربية والعالمية كجائزة كتارا لشاعر الرسول؟! وأنْ أحمل لقب شاعرة الرسول كأول (شاعرة) ولن أقول امرأة؛ فما انتصر هنا هو الشعر وحده، وحب النبي محمد ﷺ.‘‘
وقصيدتها الفائزة “قنديلٌ من الغار” تقول:
اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ، لا ** يصدَّك الذنبُ عن وحيٍ بكَ ارتحلا
واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ من دافِقِ العشقِ، إنْ ناداكَ وانهملا
هناكَ تنمو على الأشواكِ نرجِسَةٌ تؤرجِحُ العطرَ في أوراقِها أَمَلا
وتستكينُ إلى الأقلامِ قافيةٌ لولا “مُحمَّدُ” ما أهدت لها الجُمَلا
ناداني الصوتُ، لكن لم أجدْ بَشَرًا آنستُ نورًا تراءى ظِلُّه جَبَلا
أصغيتُ، كان هديلُ الوُرْقِ مِئذَنَةً اركضْ بقلبِكَ تلقَ الأرضَ مُغتَسلا
وكانَ وجهُك ما ألفيتُ في قلقي فاخْضرَّ حرفٌ على غُصنِ الجوى ذَبُلا
يقودني الحبُّ كالأعمى؛ فيا بصَري خارت عصاي وجئتُ الخوفَ مُنتعِلا
يعدو بي الدربُ والأشواقُ راحِلتي والغارُ أيقظَ جفنَ الليلِ وابتهلا
خلفي تلفّتَ بعضيْ إذ رأيتُ فتىً ساقيه أطلَقَ والريحُ استوتْ سُبُلا
أتى تسيلُ ذنوبُ الأرضِ من دمِهِ ما ضَلَّ مسراهُ، لكِنْ بالرؤى شُغِلا
تكونُ قِنديلَهُ في ليلِ وحدتِه يرجوكَ، أو قِبلَةً تهدي النُهى مُقَلا
أرضًا يحطُّ عليها كلّما وَهَنا هوى جناحاهُ، أو عن هَدْيِهِ عَدَلا
تحنو على ضعفِهِ إنْ جاءَ يحمِلُهُ قد انحنى ظهرُهُ من هوْلِ ما حَمَلا
نصفان إنّي، ولا نصفٌ يُؤازِرُني والخوفُ جفنٌ على بعضِ الرجا انْسدلا
عارٍ من الرفقِ هذا الكونُ ينقُصُهُ حنينُ جِذعٍ رأى نجماً لَهُ أَفَلا
كفٌّ تحطُّ على الأرواحِ حانيةً لتهدأَ الحربُ والثأرُ الذي اشتعلا
لا نورَ يوقِظُ هذا العصرَ من خَدَرٍ والكهفُ لمّا أوى، أحصاهُمُ مِلَلا
بعضُ اليقينِ الذي في “اللهِ ثالِثُنا” لو زارنا أورقتْ أرواحُنا رُسُلا
وطافَ بالبيدِ غيمٌ يستريحُ ضُحىً من لفحةِ الشمس، لمّا أسرَفَتْ قُبَلا
عُدْ بي إليكَ رسولَ اللهِ أتعبني قلبٌ تُقلِّبُه الأهواءُ ما وَصَلا
وكُلّما قلتُ لي فيما ملكْتُ يدٌ ألفيتُ كفّيَ صِفرًا، تحرُثُ المَللا
عُد بي من الحزنِ، في عينيّ عاصِفَةٌ تذرُّ رملَ الأسى والسُّهدِ مُكتَحَلا
تعبْتُ من مَصْعَدِ الأرواحِ أُبْصِرُها تنسلُّ من خَنْدَقٍ من طُهرِها أَكَلا
من دمعةِ الجوعِ والأطفالُ حِصَّتُها والأمهاتُ حُداءٌ يوقِدُ الشُّعَلا
يا رحمةً أُرسِلَتْ للعالَمينَ ويا وحيًا من اللهِ بالإحسانِ قد نَزَلا
أتيتُ من هامشِ المعنى أحثُّ فَمي علّي أراني، أنا من كُلَّهُ جَهِلا
لا أملِكُ الحرفَ لكنّي أراكَ بِهِ فأُبصرُ النورَ طيفاً مرَّ بي وَعَلا
وفاضَ نهرًا على شُطآن قافيتي أحيا رميمَ حروفٍ أُقْبِرَتْ أَزَلا
خلعتُ كُلَّ جِراحيْ وانتبذتُ بها سطراً عليّاً، كمن في نقصِهِ اكتملا
وليس بمستغربٍ أنَّ الشاعرات زاحمن بالمناكب الشعراء في درب مديحه ﷺ، فحبه سطعت أنواره على كل الأفئدة، وما فؤاد الرجل بأشدَّ شوقاً إليه ﷺ من قلب المرأة، وفي هذا فليتنافس المتنافسون. وكلّ له من حبه ﷺ أوفر نصيب بقدر صدق إقباله على شرعه، وأخذه بناصية نفسه إلى رحاب الأنوار العلية في حضرة خير البرية.
***
ولكنّ المستغرب أنْ تجد شعراء نصارى في حقبٍ زمنيةٍ متطاولةٍ قد تغنوا بمدحه ﷺ؛ بل وبالغوا في إظهار الوله بشخصه الكريم. وقد رصد الفصل الأخير المعنون بـ”في عالم الجمال” من كتاب “محمد مشتهى الأمم” للكاتب محمد القوصي (صادر في 2010) أكثر من 14 شاعراً نصرانياً مدحوا رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام.
فها هو الشاعر ذاع الصيت “إلياس فرحات” يقول في مدحه ﷺ :
يا رسولَ الله
غَمَرَ الأَرْضَ بِأَنْوَارِ النُّبُـوَّةْ كَوْكَبٌ لَمْ تُدْرِكِ الشَّمْسُ عُلُـوَّهْ
لَمْ يَكُدْ يَلْمَعُ حَتَّى أَصْبَحَتْ تَرْقُبُ الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا دُنُـوَّهْ
بَيْنَمَا الكَوْنُ ظَلاَمٌ دَامِـسٌ فُتِحَتْ فِي مَكَّةَ لِلنُّورِ كُـوَّةْ
وَطَمَى الإِسْلاَمُ بَحْراً زَاخِراً بِـأَوَاذِيِّ الْمَعَالِـي وَالفُتُـوَّةْ
مَنْ رَأَى الأَعْرَابَ فِي وَثْبَتِهِمْ عَرَفَ البَحْرَ وَلَمْ يَجْهَلْ طُمُـوَّهْ
إنَّ فِي الإِسْلاَمِ لِلْعُرْبِ عُلاً إنَّ فِي الإِسْلاَمِ لِلنَّاسِ أُخُـوَّةْ
فَادْرُسِ الإِسْلاَمَ يَا جَاهِلَـهُ تَلْقَ بَطْشَ اللهِ فِيهِ وَحُنُـوَّهْ
يَا رَسُـولَ اللهِ إِنَّـا أُمَّـةٌ زَجَّهَا التَّضْلِيلُ فِي أَعْمَقِ هُـوَّةْ
ذَلِكَ الجَهْلُ الذِي حَارَبْتَـهُ لَمْ يَزَلْ يُظْهِرُ لِلشَّرْقِ عُتُـوَّهْ
قُلْ لأَتْبَاعِكَ صَلُّوا وَادْرُسُوا إِنَّمَا الدِّينُ هُدَىً وِالْعِلْمُ قُـوَّةْ
وليس الشعراء هم وحدهم من جذبتهم الأنوار المحمدية أو أثارت فضولهم الشمائل الكريمة؛ بل كان للأدباء والمحققين نصيبٌ وافرٌ من الجهود المبذولة لسبر أغوار شخصيته ﷺ سعياً للوقوف على سرِّ العظمة التي كانها ابن عبد الله بن عبد المطلب.
ومما يلفت إليه النظر، ويثير في النفس العَجَب أن يكون من تصدى للكتابة عنه ﷺ من الأدباء والمحققين هم من تبوؤا الذرى السامقة كلٌ في مجاله. وكأنَّه يحرم على سيرته ﷺ أن تكون نهباً للأوباش ممن هم عالةٌ على الأدب والأدباء أو ممن ليس لهم في التحقيق قدمٌ راسخةٌ أو باعٌ طويلٌ.
فهذا هو أعظم أدباء روسيا، ومن خالدي الفن الروائي العالمي، وصاحب الملاحم القصصية العالمية: “الحرب والسلم” و”آنَّا كارينين” قد أخذت بلبه كلمات المصطفى الخالدة والتي عدَّها الكاتب المرموق حِكَماً يجدر أنْ تُجمع بين دفتي كتاب له مع الناس حكايات لا تعدوا عليها يد الزمان فتُبهت أو تُنسى فضائلها.
فكان له كتاب: “حكم النبي محمد” والتي حاول فيها تولستوي أن يقدم لقرائه الروس ولبقية الناس بعضاً من منتخبات أحاديثه ﷺ مما اعتبرها الكاتب من الحكمة الصافية التي تهدي إلى الأخلاق الحسنة، وتزكي في النفس البشرية معاني المروءة الخالية عن كل درن. ’’هذه تعاليمُ صاحب الشريعة الإسلامية، وهي عبارةٌ عن حِكَمٍ عاليةٍ ومواعظَ ساميةٍ تقود الإنسان إلى سواء السبيل …‘‘ مقولةٌ تنبئ عمَّا كان يجول في خاطر هذا الأديب الأريب حينما نظر في أقواله ﷺ: فالمرء يكتب بمداد روحه، وعصارة فكره.
وليس الأمر حكراً على أديب روسيا الأعظم، فهذا شاعر فرنسا الأكبر على مر العصور: فيكتور هوغو، يضع الإسلام ضمن منظورٍ عالمي. وهنا يقرر أنَّ محمداً ﷺ هو إضافةٌ لمن سبقه من الأنبياء وعلى الأخص نبي الله عيسى عليه السلام؛ إذْ تجده يقول في قصيدته “الأرز”:
’’هذا عُمَرُ شيخ الإسلام والقانون الجديد ** الذي أضافه محمد إلى ما جاء به عيسى…‘‘
في حين أنَّ قصيدته المعنونة: “السنة التاسعة من الهجرة” كان موضوعها وفاته ﷺ .
وللحديث بقية إن شاء الله