
بيان تعزية ومناشدة من الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ بشأن زلزال أفغانستان
سبتمبر 3, 2025
ماذا كان يمكن أن يفعل الفلسطينيون غير 7 أكتوبر؟
سبتمبر 3, 2025عبقرية القرضاوي
د. محمد الصغير
رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
في يوم الاثنين 30 صفر 1444هـ الموافق 26 سبتمبر 2022م تُوفي فضيلة الإمام يوسف القرضاوي، عن عمر ناهز 96 عامًا، ودفن في الدوحة عاصمة قطر التي هاجر إليها عام 1961م، ومن بركات الهجرة ما تيسر لنا من نعمة القرب من الشيخ، والتعرف على ملامح العبقرية في شخصيته بالنظر إليها من جوانبها المختلفة، وليس الجانب العلمي والمعرفي فقط، وعلاقة الشيخ مع قطر حكاماً وشعباً تُعد من النماذج الفريدة في التاريخ المعاصر، وجديرة بالكتابة المستقلة عنها.
تعددت جوانب العبقرية عند الشيخ يوسف القرضاوي، في الوقت الذي يصنف فيه الشخص في عداد العباقرة إذا ظهرت عليه مخايل العبقرية في مجال واحد، ويندر أن يجتمع في إنسان أكثر من جانب من جوانب العبقرية، فهناك عبقرية القيادة والسياسة، وعبقرية الفنون والآداب، وعبقرية المهن والمهارات، إلى غير ذلك من وديان العبقرية المختلفة، وهنا تكمن اختلاف عبقرية الشيخ القرضاوي عن غيره، حيث حصّل قصْب السبق في مجالات متعددة.
ولو قارنّا بين القرضاوي وبين طبقة العباقرة من شيوخه الذين عاش وفياً للتلمذة عليهم، ستجد الفرق جلياً واضحاً؛ فمنهم من كانت عبقريته تربوية دعوية، أو فقهية أصولية، أو بلاغية أدبية، وقد استجمع الشيخ القرضاوي كل ذلك وزيادة؛ فقد كانت له عبقرية إعلامية، وقدرة على إنشاء المؤسسات العالمية ورعاية المشاريع الكبرى، مع القلم السيال في الكتابة والتأليف حيث بلغت موسوعة القرضاوي أكثر من مائة مجلد، ومجموع ما كتبه بخط يده في هذه المؤلفات بلغ قرابة 45 ألف صحيفة، مع الحفاظ على الواجبات الاجتماعية والصلات الممتدة.
ولا يشغله ذلك عن متابعة الشأن العام والاهتمام بقضايا المسلمين، وجدد الشيخ القرضاوي صورة أفراد من العلماء هم من كتبوا تاريخ زمانهم ووجهوا بوصلته، وكانوا عنواناً لعصورهم ورموزاً في باقي العصور، كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي في زمنه، وشيخ الإسلام ابن تيمية في عصره، وعندما يكتب تاريخ حقبتنا المنصفون، وتختفي عداوات المستبدين والشانئين لن يزاحم القرضاوي أحد من علماء عصره، وسيبقى بينه وبينهم رتوة.
ومما يضاف إلى جوانب العبقرية في شخصيته، أن جمع بين الغزالي وابن تيمية في جبة واحدة، وتمذهب بالحنفية والشافعية في آن واحد، وكان إذا سُئل عن مذهبه قال “حنفشعي” ثم أصبح له اجتهاده الخاص فيما تطلبه عصره وزمانه.
مع مثابرة الشيخ القرضاوي وحسن استثماره للوقت، كان مفتوحاً عليه منفوحاً ببركة العمر، وكأن الساعات تطول له وتتسع لينجز فيها ما يريد، حتى حوّل الأشياء إلى أضدادها كما فعل في رحلات السفر، حيث كان رحمه الله كثير الأسفار فجاب القارات كلها داعياً ومبشراً، حتى لُقب بالفقيه الطائر، ومعلوم أن السفر يقطع العمل وينافي الاستقرار، وتتغير فيه العادات والأحوال، حتى أن الشارع الحكيم رخص في ترك الصيام المفروض وقصر الصلاة الرباعية، ومع ذلك فقد جعل الشيخ القرضاوي رحلات السفر أوقات إنجاز لما تراكم من العمل.
كانت عادة الشيخ يوسف القرضاوي استقبال الضيوف قبل صلاة الظهر، وبعد الصلاة يُعرض عليه الإيجاز الصحفي من أعضاء مكتبه، ثم يطلب من أحد الضيوف موعظة وتذكرة، أو بيان حال المسلمين في البلد التي وفد منها، وفي آخر الزيارات سألته عن العلم الذي فاته وندم عليه؟
فقال: “تعلُّم اللغة الإنجليزية لأنها الأكثر انتشاراً، ولا ينبغي للداعية أن يحصر دعوته في لغة واحدة”.
أما عند سؤاله عن الأمنيات فقال: “أن تُترجم كتبي إلى اللغة الأُردية”، فقلنا له كان حديثنا عن الإنجليزية! فقال: “إنني هنا أبحث عن الأجر والثواب، وأكثر من ثلث المسلمين يتكلمون الأُردية”.
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
تكرر هذا المثل بلسان الحال والمقال كثيراً مع طوفان الأقصى المبارك، حيث كان فضيلة الشيخ القرضاوي المرجعية العلمية والتربوية للمجاهدين في فلسطين، وكان القائد خالد مشعل يقول في مجلسه رداً على ما يبديه الشيخ من حفاوة وإكرام، وإحاطة الجميع بالتفقد والاهتمام: “سنشعر بمرارة اليتم بعد شيخنا أبي محمد”.
ورأيت الشيخ يَطرب لمناداته بكنيته المجردة، على عادة أهل الشام الكبير !
إذا ذُكرت أعمال القرضاوي ومؤلفاته، ذُكر عمدتها وأشهرها: كتاب “فقه الزكاة”، الذي عكف عليه الشيخ تسع سنوات، وهناك ما أنجزه من كتبه في أسابيع، لكن من بركات الطوفان الممتد أنه أظهر للواجهة سِفر الشيخ العظيم: “فقه الجهاد”، وهو في مجلدين كبيرين، أصّل فيه القواعد وردّ الشبه والزوائد، وقدم زاداً وملاذاً للمجاهدين الصادقين، الذين تتناوشهم سهام المغرضين المفرطين “المدخلية”، وحراب الغلاة الضالين “الدواعش”.
وكان رحمه الله على منهجه في الوسطية والاعتدال، وكنا كلما اشتدت الحرب وحمي الوطيس، وجدناه رافعاً اللواء وحاملاً الراية، ولا يخلو زمن من قائم لله بحجة، ويوجد من إخوانه وطلابه من يجتهدون -مجتمعين- لسد الثغرة الواسعة وملء الفراغ الكبير، لكن هذا الطراز من الأئمة الموسوعيين إذا أفل نجم الواحد منهم لا يبزغ في سماء أخرى، إلا مع جيل جديد، إذا حانت مرحلة التجديد.
وختاماً..
كان التواضع عند الشيخ القرضاوي عادة وسجيّة، طبعاً وليس تكلفاً، وكل مَن اقترب منه رأى من ذلك عجباً، وعنده في ذلك ما يرويه، ومن بصمات الشيخ التي عمّت الآفاق، برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة، والذي توقف في سنوات الشيخ الأخيرة، لكن إدارة القناة رأت عودته يومياً في رمضان، فوجهت في حلقتي رسالة شكر وعرفان لشيخنا صاحب السنة ورمز البرنامج، وأرسلتها له وفاء وامتناناً، وهاتفته بعدها قائلاً: هل رأيتم المقطع يا مولانا الشيخ؟ فقال: “مقطع إيه… أنا شوفت الحلقة كلها”!
وعملاً بسُنة طلاب العلم في نقل علوم مشايخهم وتبليغها للناس فقد وفقني الله تعالى لاختصار كتاب “فقه الزكاة”، ثم ترجمته للغة التركية، ونعمل الآن على ترجمته إلى الإنجليزية والأوردية، كما أنني بدأت في اختصار كتاب “فقه الجهاد” وفاءً للشيخ المؤلف، ومؤازرةً لرجال الطوفان المبارك، رحم الله شيخنا الإمام الجليل، ونصر إخواننا المجاهدين والمرابطين!