
قصة اليهود مع نبينا محمد ﷺ
أغسطس 22, 2025
الاحتلال يرتكب مجزرة دامية بحق نازحي خان يونس
أغسطس 24, 2025يوجين روجان-مؤرخ أمريكي
من السهل أن ننسى كم كان توجه الشرق الأوسط علمانيًا عام 1981 في ضوء بروز الإسلام حاليًا في الحياة العربية في بقع كثيرة من العالم العربي، ففي جميع دول الخليج العربي –باستثناء الأكثر تحفظًا منها– كانت الأزياء الغربية هي المفضلة على الملابس التقليدية؛ وكان كثير من الناس يشربون الخمر جهارًا متجاهلين تحريم الإسلام لها؛ واختلاط الرجال والنساء بحرية في الأماكن العامة وأماكن العمل، مع حصول المزيد والمزيد من النساء على تعليم عالٍ وانخراطهنّ في الحياة المهنية. ومن وجهة نظر البعض كانت حريات العصر الحديث بمنزلة درجة راقية في التقدم العربي؛ في حين راقب آخرون هذه التطورات بقلق وانزعاج وخوف من أن يؤدي إيقاع التغيير السريع بالعالم العربي إلى هجر ثقافته وقيمه الخاصة.
وللمناقشات الدائرة الآن حول الإسلام والحداثة جذور عميقة في العالم العربي؛ فقد أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 لمكافحة الآثار الغربية وتآكل القيم الإسلامية. وعلى مرّ العقود واجهت الجماعة قمعًا متزايدًا، وحظرها النظام الملكي المصري في ديسمبر/كانون الأول 1948، ثم حظرها نظام جمال عبد الناصر عام 1954. وأثناء الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين دُفعت السياسة الإسلامية للاختباء وانتهاج السرية في جميع أنحاء العالم العربي، وضعفت القيم الإسلامية على يد الدول العلمانية التي استمدت قدوتها إما من الاشتراكية السوفييتية وإما من ديمقراطية السوق الحرة الغربية. غير أن القمع لم يزِد الإخوان المسلمين إلا عزمًا على محاربة العلمانية وتعزيز رؤيتهم الخاصة للقيم الإسلامية.
برز اتجاه راديكالي جديد من جماعة الإخوان المسلمين في الستينيات، بقيادة مفكر مصري بارز ومؤثر يُدعى سيد قطب، واتضح مع الوقت أن قطب هو أحد أكثر الإصلاحيين الإسلاميين تأثيرًا في القرن العشرين.
وُلد سيد قطب في قرية في صعيد مصر عام 1906. ثم انتقل إلى القاهرة في العشرينات للدراسة في كلية دار العلوم. وبعد التخرج عمل في وزارة التعليم مدرسًا ومفتشًا؛ كما كان نشطًا في الأوساط الأدبية في الثلاثينيات والأربعينيات كاتبًا وناقدًا.
تلقى قطب عام 1948 منحة دراسية حكومية للدراسة في الولايات المتحدة مدة عامين، وحصل على درجة الماجستير في التربية من كلية المعلمين جامعة نورثن كولورادو، وقضى فترات من دراسته في واشنطن العاصمة وستانفورد بولاية كاليفورنيا، ومع أنه قطع الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها فقد خرج من أمريكا دون شعور العشق المألوف لهذا البلد من الطلاب الأجانب. وفي عام 1951 نشر قطب تأملاته بعنوان “أمريكا من الداخل” في مجلة إسلامية. شجب قطب المادية وغياب القيم الروحية في الولايات المتحدة، وفزع لرؤية ما اعتبره انحلالًا أخلاقيًا وتنافساً هائجاً بلا جماح.
وقد صُدم بشدة عندما وجد تلك الرذائل داخل الكنائس الأمريكية ذاتها. كتب يقول: “لمعظم الكنائس نادٍ يتألف من الجنسين، ويجتهد راعي كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة أن هناك تنافساً كبيراً بين الكنائس المختلفة المذاهب”. ورأى قطب أن هذا السلوك –محاولة جمع الحشود– أكثر ملاءمة لمدير مسرح منه لزعيم روحي.
روى قطب في مقاله كيف أنه حضر في إحدى الليالي قداسًا تبعته رقصة؛ وفزع عندما رأى المدى الذي وصل إليه القس لجعل قاعة الكنيسة تبدو –على حد قوله– “أكثر رومانتيكية وغرامًا”. بل إن القس اختار أغنية شهوانية لتهيئ الجو. ويعبر وصف قطب للأغنية –الذي قال فيه إنها “أغنية أمريكية مشهورة اسمها «ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج» – عن الهوة السحيقة التي فصلته عن الثقافة الشعبية الأمريكية. يقول قطب: “الأغنية تتضمن حوارًا بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما، وقد احتجزها الفتى في داره، وهي تدعوه أن يطلق سراحها لتعود إلى دارها فقد أمسى الوقت وأمها تنتظر… وكلما تذرعت إليه بحجة أجابها بتلك اللازمة: ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج!”. ومن الواضح بالطبع أن قطب رأى الأغنية مقيتة، ولكن أكثر ما صدمه هو أن رجل الدين هو من اختار هذا اللحن غير المناسب ليرقص عليه رعايا كنيسته. وليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن الدور الاجتماعي للمساجد الإسلامية: التي يُفصل فيها بين الجنسين وتسود فيها قواعد الاحتشام واللياقة في الملبس والسلوك.
عاد سيد قطب إلى مصر مصممًا على تحرير أبناء وطنه من إعجابهم المؤيد للقيم الحديثة التي تجسدها أمريكا. ويحتج قطب بقوله: “أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا وعظمة «الإنسان» الذي يُنشئ هذه الحضارة، وأخشى أن تمضي عجلة الحياة، ويُطوَى سجل الزمن وأمريكا لم تضِف شيئًا –أو لم تضف إلا اليسير الزهيد– إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم التي تميز بين الإنسان والشيء، ثم بين الإنسان والحيوان”. لم يكن قطب بذلك راغبًا في تغيير أمريكا؛ وإنما أراد حماية مصر –والعالم الإسلامي عمومًا– من الانحلال الأخلاقي الذي رآه في أمريكا.
وبعد وقت قصير من عودته من الولايات المتحدة انضم سيد قطب للإخوان المسلمين عام 1952. وبسبب خبرته في مجال النشر عُين رئيسًا لمكتب النشر الخاص بالجماعة. واكتسب المفكر الإسلامي المتحمس قاعدة عريضة من القراء من خلال مقالاته التحريضية المثيرة. وبعد قيام ثورة عام 1952 في مصر تمتع قطب بعلاقات طيبة مع الضباط الأحرار. ويقال إن عبد الناصر دعا قطب لصياغة دستور الحزب الجديد؛ (هيئة التحرير). والمرجح أن عبد الناصر لم يفعل ذلك بدافع إعجابه بالمصلح الإسلامي بقدر ما كان محاولة محسوبة للاستفادة من دعم قطب للحزب الرسمي الجديد الذي كان من المفترض أن تذوب فيه جميع الأحزاب السياسية الأخرى.. بما فيها جماعة الإخوان المسلمين.
غير أن مودة النظام الجديد تجاه الإخوان المسلمين لم تدُم طويلًا؛ إذ اعتُقل سيد قطب أثناء الحملة الشاملة التي شنّها النظام على الجماعة بعد أن حاول أحد أفرادها اغتيال عبد الناصر في أكتوبر/تشرين الأول 1954. وقال قطب –ككثيرين غيره من أعضاء جماعة الإخوان– إنه تعرض لتعذيب واستجواب رهيبَين أثناء فترة اعتقاله، وحُكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا مع الأشغال الشاقة بتهمة ممارسة نشاط هدام. استمر قطب في إلهام إخوانه من أصحاب التوجهات الإسلامية من داخل السجن؛ إذ اقتصر حبسه معظم الوقت –بسبب صحته المعتلة– على جناح مستشفى السجن. وهناك كتب بعض أكثر الأعمال تأثيرًا في القرن العشرين عن الإسلام والسياسة، ومن بينها تفسير ضخم للقرآن الكريم، ودعوة واضحة لإقامة مجتمع إسلامي حقيقي في كتاب بعنوان (معالم في الطريق).
يمثل كتاب (معالم في الطريق) ذروة آراء سيد قطب حول إفلاس المادية الغربية واستبداد القومية العربية العلمانية. واحتج قطب بأن النظم الاجتماعية والسياسية التي تُعرّف العصر الحديث هي من صنع الإنسان، وأنها فشلت لهذا السبب بالتحديد. وبدلاً من أن تبدأ هذه النظم عصرًا جديدًا من العلم والمعرفة أدت إلى الجهل بالهدى الرباني أو “الجاهلية”. وتتمتع تلك الكلمة –”الجاهلية”– بصدى خاص في الإسلام؛ لأنها تشير إلى عصور الظلام التي سبقت ظهور الإسلام.
وقال قطب إن جاهلية القرن العشرين تأخذ صورة “ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة”. ويعني هذا ضمنيًا أن التطورات الهائلة في العلوم والتكنولوجيا في القرن العشرين لم تؤد بالإنسانية إلى عصر حديث؛ وإنما أدى هجر البشرية لرسالة الله الخالدة إلى تراجع المجتمع الإنساني إلى القرن السابع الميلادي.
وآمن قطب أن هذا ينطبق على الغرب غير المسلم تمامًا كما ينطبق على العالم العربي الإسلامي. وزعم أن نتيجة ذلك هي الطغيان؛ فالأنظمة العربية لم تجلب لمواطنيها الحرية وحقوق الإنسان، وإنما جلبت لهم القمع والتعذيب؛ وهو ما أدركه قطب من واقع تجربة شخصية مؤلمة.
آمن قطب بأن الإسلام –باعتباره المنهج الأمثل للنظام الذي وضعه الله للبشرية– هو السبيل الوحيد لحرية الإنسان، وهو نظرية تحرير حقيقية؛ وبناء عليه فإن القوانين الوحيدة الصالحة والمشروعة هي التي وضعها الله على النحو المنصوص عليه في الشريعة الإسلامية. وآمن كذلك بالحاجة إلى طليعة إسلامية “لكي يؤدي الإسلام دوره في قيادة البشرية”. على أن تستخدم تلك الطليعة “الدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات” وتستخدم “القوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبّدهم لغير ربهم الجليل”. على حد قوله. كتب قطب كتابه هذا إرشادًا للطليعة التي ستقود عملية إحياء القيم الإسلامية، والتي من خلالها سيحقق المسلمون مرة أخرى الحرية الشخصية وريادة العالم.
تكمن قوة رسالة قطب في بساطتها ووضوحها وصراحتها. لقد حدّد المشكلة –الجاهلية– وقدم حلًا إسلاميًا واضحًا راسخًا في القيم التي يعتنقها بشدة كثير من المسلمين العرب. رأى قطب أن انتقاداته تنطبق على القوى الإمبريالية وعلى الحكومات العربية الاستبدادية بنفس القدر. وكانت استجابته هي رسالة أمل قائمة على افتراض علو وتفوق المسلمين. إذ قال: “وتبتدل الأحوال ويقف المسلم الموقوف المغلوب المجرد من القوة المادية؛ فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى. وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمناً. ويستيقن أنها فترة وتمضي. وأن للإيمان كرّة لا مفر منها. وهبْها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأسًا. إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد. وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة، وغالبه يغادرها إلى النار”.
وبالرغم من مقت قطب الشديد للقوى الإمبريالية الغربية فقد كان هدفه الأول دائمًا هو الأنظمة المستبدة في العالم العربي، خاصة حكومة عبد الناصر. ففي تفسيره لآيات القرآن التي تتحدث عن أصحاب الأخدود.. رسَم قطب صورة رمزية مستترة للصراع بين الإخوان المسلمين والضباط الأحرار. في القصة القرآنية حُكم على طائفة من المؤمنين بالموت بسبب إيمانهم، وأُحرقوا أحياء على يد طغاة اجتمعوا يشهدون موت ضحاياهم المؤمنين الصالحين. يقول الله في القرآن الكريم: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ…﴾ (سورة البروج: الآيات 1-6). ويقول قطب في تعليقه على الآيات إن المستبدين –وهم “جبلات جاحدة شريرة لئيمة” على حد تعبيره- قعدوا يشهدون عذاب وآلام الشهداء بتلذذ سادي مقيت.
يقول قطب: “وكلما ألقي فتى أو فتاة، صبية أو عجوز، طفل أو شيخ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء”. وتلك مشاهد تصويرية غائبة في القصة القرآنية، ولكنها ربما كانت مستوحاة من تجارب قطب الشخصية وتجارب أصحابه من جماعة الإخوان المسلمين على أيدي جلاديهم في السجن. وختم قطب تعليقه قائلاً إن المعركة “في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام”. وكانت رسالة قطب واضحة: الحكومة المصرية لا تتفق مع رؤيته للدولة الإسلامية، ولا سبيل لوجود الاثنتين معاً.
أُطلق سراح سيد قطب من السجن عام 1964؛ وهو نفس العام الذي نَشر فيه كتاب (معالم في الطريق)، وسارع قطب إلى إعادة الاتصال برفاقه من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة وقد تعزز موقفه بفضل كتاباته في السجن. غير أن قطب كان لا بد أن يعرف أن الشرطة السرية لنظام عبد الناصر تتابع كل حركاته؛ فقد اكتسب الكاتب الإسلامي صيتًا ذائعًا وشهرة عريضة في أنحاء العالم الإسلامي بفضل أفكاره الراديكالية مما جعله يشكل خطراً على الدولة المصرية في الداخل والخارج.
وواجه أتباع قطب نفس المراقبة والمخاطر التي واجهها هو نفسه. كانت زينب الغزالي (1917-2005) إحدى تلميذات قطب الأكثر تأثيراً؛ وهي رائدة الحركة النسائية الإسلامية. أسست زينب الغزالي –وهي بعدُ في العشرينات من عمرها– جمعية السيدات المسلمات. وجذبت أنشطتها اهتمام حسن البنا –مؤسس جماعة الإخوان المسلمين– الذي حاول إقناعها بالانضمام والتعاون مع فروع الأخوات المسلمات التي أسسها مؤخراً. وبرغم أن الحركتين النسائيتين اتخذتا مسارين منفصلين فقد أصبحت زينب الغزالي إحدى التابعات المخلصات لحسن البنا.
في الخمسينيات التقت زينب الغزالي شقيقات المفكر السجين سيد قطب، وأعطينها مسودات فصول من كتاب (معالم في الطريق) قبل نشر الكتاب. وكرست زينب نفسها لتكون إحدى أفراد الطليعة التي تَصورها سيد قطب في بيانه –مسترشدة بما قرأته– لإعداد المجتمع المصري لاعتناق الشريعة الإسلامية. وتمامًا كما قضى النبي محمد ثلاث عشرة سنة في مكة قبل الهجرة إلى المدينة المنورة لتأسيس أول مجتمع إسلامي، حدد أتباع سيد قطب ثلاث عشرة سنة لتحويل المجتمع المصري ككل إلى مجتمع إسلامي مثالي.
كتبت زينب الغزالي تقول: “كان فيما قررناه.. أنه بعد مضي ثلاثة عشر عامًا من التربية الإسلامية للشباب والشيوخ والنساء والفتيات، نقوم بمسح شامل في الدولة، فإذا وجدنا أن الحصاد من أتباع الدعوة الإسلامية المعتقدين بأن الإسلام دين ودولة، والمقتنعين بقيام الحكم الإسلامي قد بلغ ٧٥% من أفراد الأمة.. نادينا بقيام الدولة الإسلامية”.
وإذا أظهرت نتائج المسح مستوى أقل من التأييد، فإن زينب وزملاءها سيعملون مدة ثلاثة عشر عامًا أخرى في محاولة لتحويل المجتمع المصري. كان الهدف على المدى البعيد طموحًا، ويصل إلى حد الإطاحة بنظام الضباط الأحرار واستبدال دولة إسلامية حقيقية به. وعزم عبد الناصر وحكومته على إزالة التهديد الإسلامي قبل أن يحظى بأي قبول أو يحقق أي تقدم.
أطلقت السلطات المصرية سراح سيد قطب من السجن نهاية عام 1964 بعد أن أمضى فيه عقدًا من الزمن، واحتفلت زينب الغزالي وأنصار قطب الآخرون بإطلاق سراحه، والتقوا به كثيرًا تحت رقابة الشرطة المصرية اليقظة. واعتقد كثيرون أن إطلاق سراح قطب لم يحدث إلا ليقود السلطات إلى الإسلاميين الذين يشاركونه نفس الآراء والأفكار. وفي أغسطس/آب 1965 -أي بعد ثمانية أشهر فحسب من الحرية- أعيد اعتقال قطب. ومعه زينب الغزالي وجميع شركائهما. ووُجهت لهم تهمة التآمر لاغتيال الرئيس جمال عبد الناصر والإطاحة بالحكومة المصرية. ومع أن هدفهم بعيد الأجل كان بالفعل استبدال نظام إسلامي بالحكومة المصرية، فقد أصر المتهمون على أنهم أبرياء من أي مؤامرة على حياة الرئيس.
قضت زينب الغزالي السنوات الست التالية في السجن، وكتبت في وقت لاحقاً قصة محنتها وعذابها، واصفة فظاعات التعذيب التي تعرض لها الإسلاميون -رجالاً ونساءً على حد سواء- على يد الدولة الناصرية. عوملت زينب بالعنف منذ أول أيامها في السجن، وتقول: “شاهدت في صمت –وأنا لا أكاد أصدق ما تراه عيني ولا أتقبل هذه الوحشية– أفراداً من الإخوان المسلمين معلقين على الأعواد والسياط تلهب أجسادهم العارية، وبعضهم سلطت عليه الكلاب الضالة لتمزق جسده بعد التعذيب. وبعضهم يقف ووجهه إلى الحائط في انتظار دوره من التعذيب والتنكيل”.
ولم تنجُ زينب الغزالي من هذه الفظائع؛ فقد تعرضت للجلد والضرب وهجمات الكلاب والحرمان من النوم وتهديدات متكررة بالقتل. كل ذلك في محاولة عابثة للحصول على اعتراف يدين سيد قطب وغيره من قادة الإخوان المسلمين بالتورط في المؤامرة المزعومة. وعندما انضمت سيدتان اعتقلتا حديثًا لمشاركة زينب الغزالي زنزانتها –بعد أن عانت التعذيب ثمانية عشر يوماً– لم تستطع أن تعبر لهما عن الفظائع التي تعرضت لها، واكتفت بأن قرأت عليهما آيات أصحاب الأخدود. وعند سماع الآيات بدأت إحداهما تبكي في صمت؛ وسألت الأخرى غير مصدقة: “أيمكن أن يحدث هذا مع النساء؟”
بدأت محاكمة سيد قطب وأتباعه في أبريل/نيسان 1966. وإجمالًا اتُّهم ثلاثة وأربعون من الإسلاميين –من بينهم سيد قطب وزينب الغزالي– رسميًا بالتآمر ضد الدولة المصرية. واستخدم ممثلو الادعاء كتابات قطب كدليل إدانة، واتهموهم بالتشجيع على الإطاحة بالحكومة المصرية باستخدام العنف. وفي أغسطس/آب 1966 أدين سيد قطب واثنان من المتهمين الآخرين، وحكم عليهما بالإعدام، وحُكم على زينب الغزالي بالسجن خمساً وعشرين سنة مع الأشغال الشاقة.
بإعدام سيد قطب لم تحوله السلطات المصرية إلى شهيد للقضية الإسلامية فحسب، وإنما أكدت للكثيرين أيضًا صدق كتاباته وآرائه، التي أصبح تأثيرها بعد موته أكبر وأوسع مما كان عليه أثناء حياته. أُعيد طبع وتوزيع تفسير سيد قطب للقرآن وكتاب (معالم في الطريق) –الذي يعد دستوره الخاص للعمل السياسي– في جميع أنحاء العالم الإسلامي، واشتعل حماس جيل جديد –نضج وشب عن الطوق في الستينيات والسبعينيات- بفضل رسالة سيد قطب حول الصحوة الإسلامية والعدالة. وكرّس أفراد هذا الجيل أنفسهم لتحقيق رؤية قطب بكل الوسائل الممكنة، سلمية كانت أو عنيفة.