
الأرض المقدسة محور الصراع (4)نهاية الجهاد وخاتمته
أغسطس 6, 2025
22 شهيداً في قصف الاحتلال على غزة
أغسطس 7, 2025د. أحمد شتيوي
أخصائي طب الأسنان
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فقد قال تعالى: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ﴾ [النور: 22]. صدق الله العظيم.
قارئي الكريم بما أن أمتنا تمر بأيام لن تُنسى من عمر هذه الدنيا فإني أريد أن أتوقف توقفاً واجباً أمام معنى نذكّر به مبتلي هذه الأمة أينما ومتى كانوا، فقد اشتد البلاء وطغى الأعداء وبلغ العجز ما نرى
تخيل أخي المجاهد الصابر وأخي المتألم لصبر إخوته أن همك وبلاءك هذا قد زال، ووجدت نفسك فجأة في جنة من جنان الدنيا وسرت بسكينة وراحة بال فيها وصرت تتمتع بما تراه.. تتأمل رقة الورد وعذوبته، وانسياب الأغصان الباسقة مع الهواء اللطيف يحركها.. وما فوقها من عصافير تغرد، وتأملت في رقة قططها ودلالها الجذاب أو حماستها وهي تطارد الفراشات ذوات الأجنحة الفاتنة الرقيقة رقة بتلات الورود التي تتنقل بينها، ثم نظرت لترى كيف تخفض الحمامة جناحها لفرخها ثم تضمه تحتها، وهذه البهيمة تلعق جلد صغيرها حرصاً ورحمة وأُنساً، كل هذا وأنت تسمع خرير الماء اللطيف الذي يزيد المشهد روحاً وحياة، الآن خذ نفساً عميقاً طويلاً هادئاً.. واذكر ربك.. ثم عُد لواقعك الذي أنت فيه واسأل نفسك: ما المشترك بين واقعك وبين ما تأملت؟
ما تأملته لم يكن خيالاً من ذهنك بل هو استحضار لمشهد حقيقي يحدث في حياتنا في كل لحظة وبين كل نَفس وما يتلوه، برغم كل ما يُمزج بالمشهد من آلام أو أهوال حتى إن كان في لحظة ابتلاء، إن المشترك بين المشهدين أن من يقدرهما هو الله العليم بما يحدث، الحكيم بتدبيره، اللطيف في مشيئته، ولو شك مقهور أو ظن فاجر أن له من أمر الأقدار شيئاً!
دعك من مشهد ربما يصعب تخيله في أوقات عصيبة ولنغمض أعيننا هذه التي ترى كل ما يحيط بنا من كون يُذكّر بسلطان الله تعالى، وقيوميته، لنترك ما يحيط بنا ولنذهب لعالم آخر لا سلطان لأحد فيه على أحد إلا لذي السلطان سبحانه، تذكّر معي تلك الخفقة التي خفقها قلبك يوماً، خفقها برؤية حبيب، أو رؤية ابن لأول مرة أو بعد غياب، ألا تتعجب من هذا الطعم الغريب العجيب، الرقيق الراقي؟ ألسنا ننتقل بهذه الخلجات والخفقات من عالم الدنيا لعالم آخر نحتار في وصف حلاوة طعمه؟ ننتقل بهذه اللذة من بؤس لهناء، ومن يأس لأمل ومن فراغ ولوعة لطمأنينة.. ونعيش كثيراً على انتظار أمثال هذه الخفقات لتمدنا بدفقات جديدة من الحياة ومعانيها، وكثير من سؤالنا لله هو عنها.
وإن رباً يخلق هذا الحسن والجمال ويُهديه لنا لحريٌّ بالحب والوُدّ وطلب الوصال، وقبل كل هذا: حُسن الظن ﴿لَّا یَسۡـَٔمُ ٱلۡإِنسَـٰنُ مِن دُعَاۤءِ ٱلۡخَیۡرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَیَـُٔوسࣱ قَنُوطࣱ﴾ [فُصِّلَتۡ: ٤٩].
إلا أننا كثيراً حين يأتينا هذا الشعور العالي الماتع نكون كصاحب الحاجة وللأسف أرعن! فنحن تخفق الخفقة في قلوبنا فنُتيَّم بالسبب ونغرق في اللذة الآسرة، وننسى مَن أحدث في قلوبنا هذا الجمال! ثم تتكرر لنا الأعطيات والخفقات واللذات فننساها ولا نتعلم منها شيئاً، فيصير حالنا حال الغافل الذي إذا أُذيق رحمة نسي المسبب سبحانه، وإن حُرمها تذكره سبحانه لا ليرضيه بل ليأتي بفعل لا يرضيه ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾ [الإسراء: 83].
إلا أن هناك مَن يسلك طريقاً آخر راقياً.. يرى فيه الأمور بصورة أخرى، فلا يرى بلاءً إلا ويوقن أن في جنباته رحمة الله، يرى البلاء مَكرمة للمبتلى واجتباءً لأنه قد خبر رحمة المسبب وحكمته.. هو متيّم في حبه لذا فهو من الذين يرون ﴿إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرࣰا﴾ [الشرح: 6]، و﴿إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُۚ﴾ [يوسف: 100] في جنب كل بلاء، وهؤلاء هم الذين إذا قُذفوا في البلاء رأوه اجتباء ومكرمة ورفعاً للدرجات العلى، ويعلمون أن الله معهم بأقداره وبرحماته وبتجلياته.
وبما أننا نذكر الابتلاء، فتعالَ نتأمل في تلك التجليات الإلهية علينا في مواضع الابتلاء من توجيه وحرص وحث ورحمة، ولنذكر أصعب اللحظات وأشدّها والتي تتبدد فيها الآمال ويستهان فيها بكل غال!
لنبدأ من حيث نؤتَى، ومن حيث تخور قوانا، من حيث أخبر سبحانه حين قال ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَلَّوۡا۟ مِنكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُوا۟ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمࣱ﴾ [آل عمران: 155]، تأمل معي توجيهه سبحانه.. فكأن تفسير الآية: يا عبادي الذين فروا تعالوا لأعلمكم كيف لا تفروا، وكيف تثبتوا ولا تضعفوا.. يا عبادي عندما تلقون فئة ويشتد البأس لا تهتزوا لذنب أذنبتموه، لا يوقعنّكم الشيطان في هذا الفخ، فخ استصغار الذات واستشعار الضعف فتهون أنفسكم عليكم فتزهد في المعالي!
وتهتز في موقف طالما استحضرتْه ورجتْ أن تثبت فيه! لا تكونوا كما فُعل مع أبويكم ﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ لَا یَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ كَمَاۤ أَخۡرَجَ أَبَوَیۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِیُرِیَهُمَا سَوۡءَ ٰ تِهِمَاۤ﴾ [الأعراف: 27]؛ فإبليس يريد أن يتدنى قدركم في نفوسكم ويذكركم الآن ببعض ذنوبكم لتزل أقدامكم، وليس هذا مكان ولا وقت الوقوع في فخ استذلال الشيطان، بل هو وقت الثبات وتذكُّر سَعة رحمة الله وعظيم جزائه: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا لَقِیتُمۡ فِئَةࣰ فَٱثۡبُتُوا۟ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45]، فأول فعل تفعلونه هاهنا هو الثبات، ثم بعد هذا الثبات يأتي أن تذكروني لأعِينكم، ولا يُلبسن عليكم الشيطان هذا الترتيب!
ثم تجده سبحانه إذا رأى من جنوده رغبة في الصبر والجلَد له تجده يمدّ لهم يد العون، بل إنه سبحانه يوحي لهم بالصبر ابتداء ليتصبروا فيزيدهم صبراً لغاية يريدها منهم وليس الأمر إلا هكذا.. فقد قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ﴾ [سورةة محمد: 7] قال القرطبي: “الْمُرَادُ تَثْبِيتُ الْقُلُوبِ بِالْأَمْنِ، فَيَكُونُ تَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ عِبَارَةً عَنِ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ فِي مَوْطِنِ الْحَرْبِ. وَقَدْ مَضَى فِي “الْأَنْفَالِ” هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ هُنَاكَ: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾”. انتهى كلام القرطبي. فكان النصر هو الانتصار على الشيطان والذات لنيل غنيمة الثبات، ولعل هذا هو سبب تقدم النصر في الترتيب على الثبات في الآية الكريمة.
وإن رباً يبيّن لعباده أي طريق يسلكون لمرضاته، ويظل معهم يصبرهم ويرشدهم في ضعفهم ألّا ييأسوا ويظلوا على الطريق حتى ينالوا ما أحب لهم.. حريٌّ بأن يُحتفَى بقضائه، كما يُحتفَى بالطبيب يصف دواءً فيُشكر عليه.
ولعلك أخي الكريم قد دار بخلدك أن الثبات هذا شأن الأنقياء، فكيف يثبت عاصٍ مذنب في موطن تزلّ فيه الأقدام؟! أليس موضع الثبات هذا موضع شريف لا يُنال بالتمني إنما هو حصاد عمْر في مجاهدة النفس؟ ألم يقل تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ﴾ [العنكبوت: ٦٩]، أليست هذه الحياة بطولها إلا أسئلة في امتحان يقيّم بجميع أسئلتها وأجوبتها؟ وأن المقدمات تؤدي إلى النتائج، وأن “من تمام البدايات كمال النهايات”؟ فكيف يرجو عاصٍ مذنب أن يرتقي لدرجة عالية بموقف؟! هذا ليس بمنطق!
أقول لك أخي إن قاعدتك سليمة منطقية، إلا أن ربك عظيم المغفرة وجعل العبرة بالخواتيم! وتعال مرة أخرى لنرى في القرآن ما يثبت هذا، قال سحرة فرعون: ﴿إِنَّاۤ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِیَغۡفِرَ لَنَا خَطَـٰیَـٰنَا﴾ [طه: 73]، أليس هذا موقف في يوم واحد قبله آلاف الأيام التي عاشوها -كما قالوا بأنفسهم- في غير طاعة بل في معصية؟ ألم يأخذوا قرار الثبات في موطن واحد تحدوا به جبروت عصرهم فقالوا: ﴿لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلَّذِی فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَاۤ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَاۤ﴾ [طه: 72]، ثم -وياللعجب- طلبوا من الله سبحانه المعونة: ﴿رَبَّنَاۤ أَفۡرِغۡ عَلَیۡنَا صَبۡرࣰا وَتَوَفَّنَا مُسۡلِمِینَ﴾ [الأعراف: 126]، وكأنهم من السالكين إلى الله الدارسين لسبل الوصول، الواعين بها العارفين بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه يُطلَب منه العون على البذل له! وهم لم يدرسوا شيئاً إنما هي رحمة ربك بمن عزم على السير له!
لطالما وقفت أمام قصة هؤلاء السحرة متعجباً من عظيم ثباتهم بعد لحظات من الإيمان! وكنت أظن هذا المشهد استثناء وليس قاعدة، استثناءً عظيماً ُيحتفى بذكره! إلا أنه ومع ثبات أهل غزة الذي دفعنا إلى التعمق في القرآن علمت أنها القاعدة: ﴿إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ﴾ وتأمل في “إن” التي تفتح لك المجال في أي وقت! وبعد أن فتحت لك المجال في أي وقت، وفي أي وضع وتحت أي ضغط تجد في قرآن الله تعالى بعد الحث على الصبر والبشارة بعظيم الأجر أنه سبحانه لن يكلفك فوق ما تطيق ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]. فإذا قضى عليك بهذا الحمل فاعلم أنه قد أودع فيك قدرة عليه، إنما يريدك أن تمد قدرتك هذه على خط الزمان فتحولها لصبر! فالصبر ثنائي الأبعاد، ثم توقن بحكمته وصدق وعده فتحوله لثبات ثلاثي الأبعاد إلى أن ينقضي الزمان الذي قضاه عليك.
وفي هذا الزمان الذي قضاه عليك لا تغفل عن لطفه ورحمته، التي لا تفارق المؤمنين ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43] وقيّض لك كائنات نورانية تصلّي عليك بعد أن صلى عليك ﴿هُوَ ٱلَّذِی یُصَلِّی عَلَیۡكُمۡ وَمَلَـٰۤىِٕكَتُهُۥ﴾ لكي يرتقي بك في درجات النور ﴿لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ﴾ [الأحزاب: 43].
وبعد هذه المعينات لا يغلبك شيطان في موضع الثبات، ولا يوهمك بأن الله ابتلاك بما لا تستطيع فتقدم وساوسه على القوانين التي أظهرها الله جليةً في كلامه! أو يشعره الشيطان بدنو مستواه لتخور عزيمته فيخسر الجولة العظيمة أو ينسى أن الله يحبه وأنه يريد أن يرقيه بصبره لدرجة أعلى وأن كل ما فيه إنما هو ألم لحظي في حياة دنيا ما تلبث أن تزول ﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾، وإن طالت لن تطول عن الحد الذي تستطيعه، وأنه زالت فيك سعة ترقيك إلى رضوان الله، يريد الله أن تبلغها، وأن هناك سكينة تتنزل للثابتين ضعافاً كانوا أم أقوياء فيكون ثباتهم معجزة يتعجبون منها ﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 26] وتأمل “على رسوله” أي أنزل سكينته على أكمل إنسان، ليخبرك أن الأمر كله من عنده وحده!
إن لحظات الشدة والضيق التي يكون المرء فيها أمام أسئلة لا يجد لها جواباً:
متى وكيف الخلاص مما أنا فيه؟
وربما يسأل: وماذا فعلت؟ وهل هو عقاب أم تكريم؟ ويظل الإنسان في جنبات الابتلاء كسجين في سجن ضيق بسور عال، ومع مرور الوقت أو عظم الخطب يأتي الشيطان ويبذر في عقلك كل مُشكل، ويسقيه بمياه كثيرة أولها هو ماء استصغار الشأن “الاستذلال” وكفى به موبقاً مزلزلاً للأقدام، ثم يتدرج به فيزيد عليه ماء الغفلة فينسيك أنك أنت وما أو من تعانيه تحت سلطان الله وبين أقداره الحكيمة اللطيفة! ثم يزيدك من مائه الخبيث حتى يصل بك للشك في الموعود، لينفرط عقدك، وهذا البذر والري والتدرج ما هو إلا معركة عنيفة حامية الوطيس يشعل نارها إبليس بحقده الدفين ليحرمك من منزلة عليا تؤهَّل لها بصمودك وبيقينك في ربك، وبإصرارك على الفوز بمعركة اليقين التي يتجلّى فيها ضعف البشر بقوة من مدد الله! واقرأ قوله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَاۤءُ وَٱلضَّرَّاۤءُ وَزُلۡزِلُوا۟ حَتَّىٰ یَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ﴾ [البقرة: 214]، وقوله تعالى: ﴿بَلَىٰۤ إِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَیَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَـٰذَا یُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَـٰفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُسَوِّمِینَ﴾ [آل عِمۡرَانَ: ١٢٥].
فيا من يريد الجنة، انتظر أن يأتيك مَثَلَ الذين خلوا من قبلك، فهو شرط، فإن أهلتك الأقدار لها فاتقِ الله واصبر فإنها منحة لا تعطى للهُمل، اتق الله وأقدم ليمدك الله! وراجع نفسك.. ألم تتمنى أن يجعلك الله في الدرجات العلى، ألم تتمنّ ولو مرة أن تكون صلباً ثابتاً في موقف لله تعالى.. لابد أن هذا مر في نفسك يوماً وتمنيته، إذاً فلمَ لمّا وضعت فيه استعجلت الخلاص دونه!
هل تريد أجراً بلا تعب؟ وهل نسيت ما ينتظرك من أجر، وهل نسيت رحمة الكريم الذي -وإلى الآن- لا يريد أن يعجل بعجلتك فتُحرم الأجر، فهو يريد أن يوصلك لمرادك الذي طلبته منه يوماً، فأنت لم تهُن عليه إنما يرى عندك وسعاُ يريد أن يرفع درجتك به! يريد أن ينصر عزمك على خوارك، فهو يعلم أنك إن فاتتك هذه ربما تألمت لها ألماً عظيماً، وإن احتملتها سعدت سعادة لا تنتهي.. فثبّت قدميك وجدد العهد.. واستعن بربك فإنه يحب أن يُستعان به كما فعل السحرة..
ولا يستزلنك الشيطان فمن منا سيصمد بحوله دون حول الله؟!
ومن منا سيصمد لأنه لم يفرط في جنب الله؟!
إنما هي أعطيات فاطلب من كريم العطاء.. ألم تقرأ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚوَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17] فهي المكرمات من الله الذي قدر كل هذا.. لأنه يريد أن يبلي المؤمنين منه بلاء حسناً.. هذه هي حقيقة الصبر والعمل وإن كان الصبر والعمل جاء من أشرف الأنبياء.. فليس إلا عطاء!
وبعد الصبر يأتي رفع المرتبة لمكانات أعلى وغير متوقعة، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَـٰتࣲ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰاۖ﴾ [البَقَرَة: ١٢٤] فعندما ابتلى الله سبحانه وتعالى إبراهيم ووجده صابراً ذا عزيمة شكَر له ورفعه إلى المرتبة العليا: أن يكون رمزاً دالاً على الله سبحانه، ليس فقط جزاء الصبر الذي يكون بغير حساب بل أن يكون معلماً للناس كيف يصلون! فأي منزلة تلك ستكون في الآخرة، وفي الحديث:
يا رسولَ اللهِ! أوَيضحكُ الربُّ؟ قال: “نعم”. قلتُ: لن نعدِمَ من ربٍّ يضحَكُ خيرًا.
أما أنتم يا أهل غزة فآلامكم التي لا حدود لها ليست إلا تحت تلك الآية السابقة، وهذه التالية:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 42] فهنيئاً لكم، نسأل الله لكم الثبات وألا تزلوا عن هذه المنزلة، فإن ما تكابدونه في جنب ما ينتظركم ليس بشيء، وما يفتح الله بكم لهذه البشرية لا حدّ له، كفاكم أن الإسلام يُذكَر في أقصى الدنيا بثباتكم.