
141 مستوطنا يقتحمون الأقصى والاحتلال مستمر في هدم المنازل
يوليو 29, 2025
المجاعة تتصاعد، والاحتلال يكثف استهداف طالبي المساعدات
يوليو 30, 2025كارين أرمسترونج*
استمر ذلك التمزق المهلك للمملكة إلى نهاية المطاف المريرة؛ فقد استهلكت المسيحيين الخلافات الداخلية على السلطة، وحاول الفرنجة أن يحبطوا مسبقاً خطة نور الدين لفتح مصر الفاطمية، لكنهم فشلوا حينما وقعت المملكة في يد القائد الكردي أسد الدين شيركوه. وفي عام ١١٧٠م خَلَفه ابن أخيه يوسف بن أيوب وزيراً وألغى الخلافة الفاطمية.
وكان يوسف، الذي يُعرف في الغرب والشرق باسم صلاح الدين، يكرس للجهاد بكل جوارحه، وكان أيضاً مقتنعاً أنه مقدر له هو -لا لنور الدين- تحرير القدس، ولهذا دخل في صراع مع سيده. وحينما تُوُفي نور الدين عام ١٧٧٤م إثر أزمة قلبية، قاتل صلاح الدين ابنه من أجل قيادة الإمبراطورية. وكسب مؤازرة المسلمين بفضل شخصيته الكاريزمية وورعه الواضح وتعاطفه.
وفي خلال عشر سنوات أصبح قائداً معترفاً به لمعظم المدن الإسلامية في المنطقة. وإزاء ذلك وجد الصليبيون أنفسهم محاصرين بإمبراطورية إسلامية موحدة بقيادة سلطان ذي شخصية كاريزمية وورِع، كرّس نفسه للقضاء على مملكتهم.
غير أن الفرنجة، وحتى في مواجهة ذلك الخطر البيّن استمروا في التنازع فيما بينهم. وفي الوقت الذي غدت فيه القيادة القوية ضرورة ملحة، أصيب مَلِكهم الصغير (بلدوين الرابع) بالجذام، ومن ثم آزر بارونات المملكة الوصي على العرش (ريمون)، كونت طرابلس، والذي كان يعلم أن أملهم الوحيد ينحصر في استرضاء صلاح الدين ومحاولة إرساء علاقة طيبة مع جيرانهم المسلمين، لكن ذلك وجد معارضة من القادمين الجدد الذين تجمعوا حول العائلة المالكة واتبعوا سياسات استفزازية مقصودة.
وكان أشهر هؤلاء الصقور هو (رينالد دي شاتيون)1 الذي خرق كل هدنة عقدها (ريمون) مع صلاح الدين بمهاجمته قوافل المسلمين. كما حاول في مناسبتين الهجوم على مكة والمدينة وكان الهجوم فاشلاً. وكانت كراهية الإسلام واجباً مقدساً، وهو أمر مثّل لرينالد مفهوم الوطنية الحقة الوحيد.
كما أن المملكة أيضاً كانت تعوزها القيادة الروحانية. فقد كان هرقل البطريرك القادم الجديد منحلاً، وكان يزهو علناً بخليلته. وبعد وفاة الملك المجذوم عام 1185م خلفه ابنه الصغير (بلدوين الخامس)، وأصبحت المملكة على شفا حرب أهلية بينما كان صلاح الدين يعد لغزو البلاد.
وخرق (رينالد) هدنة أخرى كان (ريمون) قد رتّب لها من أجل التقاط الأنفاس. ولم يصبح لدى البارونات خيار سوى القبول بصهر الملك المجذوم (جي لوزينيان) ملكاً لهم، وكان قادماً جديداً ضعيفاً غير مؤثر. إلا أنهم كانوا ما زالوا منقسمين على أنفسهم انقساماً مريراً.
معركة حِطّين
وبينما كان الجيش كله يستعد لمحاربة صلاح الدين في الجليل في شهر يوليو من عام ١١٨٧م كانت النزاعات والمجادلات مازالت مستمرة. وتمكن حزب الصقور من التأثير على الملك كي يهاجم المسلمين رغم أن (ريمون) ظل يحثهم على حكمة التريّث، فقد كان وقت الحصاد قد حان ولم يكن بمقدور صلاح الدين استمرار الإبقاء على جيشه في أرض أجنبية. غير أن (جي) لم ينصت إلى تلك المشورة الحكيمة وأعطى أوامره للجيش بالسير والهجوم. وكانت النتيجة نصراً إسلامياً ساحقاً في موقعة حِطّين قرب طبرية، وضاعت مملكة المسيحيين في أورشليم.
وبعد حطين سار صلاح الدين وجيشه في أنحاء فلسطين حيث استسلمت المدن واحدة تلو الأخرى. والتجأ من بقي على قيد الحياة من الصليبيين إلى (صور)، رغم أن بعضهم اتجه إلى أورشليم لمحاولة إنقاذ المدينة المقدسة.
وفي النهاية عسكر جيش المسلمين على جبل الزيتون، ونظر صلاح الدين من أعلى الأماكن المقدسة المنتهكة في الحرم، وعلى الصليب أعلى قبة الصخرة. ثم ألقى خطبة على جنوده ذكرهم فيها بـ”فضائل القدس”، فهي مدينة المعبد والأنبياء، وأيضاً هي مدينة الإسراء والمعراج، ومكان حساب الآخرة. واعتبر أن واجبه هو الثأر لمذبحة عام ١٠٩٩م، وكان مصمماً على ألا تأخذه رحمة بالسكان.
أما المسيحيون داخل المدينة، فقد تملكهم الخوف ولم يكن بينهم أي فارس بإمكانه تنظيم دفاع فعال. وبعد ذلك، وصل إلى المدينة (البارون باليان الإبليني) ذو الشخصية المتميزة. وكأنما كان ذلك استجابة لدعاء خاص. وكان قد دخل القدس بإذن من صلاح الدين ليصحب زوجته وعائلته إلى (صور) بعد أن أقسم أن يقضي ليلة واحدة في المدينة. غير أنه حينما رأى مأساة الصليبيين المحاصرين عاد إلى السلطان وطلب منه أن يحله من قسمه واحترم صلاح الدين (باليان) ووافقه وأرسل معه مرافقاً ليصطحب عائلته وكل ممتلكاته إلى الساحل . وبذل (باليان) طاقته بما أوتي من موارد ضعيفة غير أن مهمته كانت يائسة.
ففي السادس والعشرين من عام ۱۱۸۷م، بدأ صلاح الدين هجومه على البوابة الغربية للمدينة، كما بدأ مهندسوه في تلغيم السور الشمالي بالقرب من بوابة القديس (استفانوس). وبعد أيام ثلاثة كان جزء كبير من الحائط قد سقط في الخندق المائي ومعه (صليب جودفري)، غير أنه كان على المسلمين مواجهة الحائط الدفاعي الداخلي. ثم قرر (باليان) السعي لحل سلمي.
ولم يُبدِ صلاح الدين أي رحمة في بادئ الأمر. فقد أبلغ (باليان) أن المسلمين سيعاملونهم بمثل ما تعامل به الصليبيون مع السكان حينما استولوا على القدس. وهنا قام (باليان) بعمل التماس يائس مفاده أن المسيحيين إذا فقدوا الأمل لن يكن لديهم ما يخشون عليه وسيقتلون نساءهم وأطفالهم ويحرقون بيوتهم وممتلكاتهم ويهدمون قبة الصخرة والمسجد الأقصى قبل أن يلتقوا بجيش صلاح الدين، وسيقتل كل فرد منهم فرداً من المسلمين قبل أن يُقتلوا. واستشار صلاح الدين علماءه ثم وافق على الاستيلاء على القدس استيلاء سلمياً. غير أنه قال بعدم جواز إقامة الصليبيين في المدينة وإلا أُخذوا أسرى، ولكي لا يحدث ذلك، فإن عليهم دفع فدية ضئيلة جداً نظير عتقهم.
دخول المسلمين القدس: لم يُقتل صليبي واحد
وفي الثاني من أكتوبر عام ۱۱۸۷ وبينما المسلمون يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج، دخلت قوات صلاح الدين القدس. ولم يقتل مسيحى واحد. فقد تمكن البارونات من دفع نقود الدية بسهولة، غير أن الفقراء لم يتمكنوا من ذلك وأصبحوا أسرى حرب. ثم أُطلق سراح أعداد كبيرة منهم.
وكان صلاح الدين قد ذرف الدمع وهو يرى بؤس الأسر التي تفرقت باسترقاق أفرادها. كما أصاب الأسى العادل شقيق صلاح الدين لدرجة أنه طلب لنفسه ألف أسير وأعتقهم على الفور. وروعت رؤية الأغنياء من المسيحيين وهم يفرون بثرواتهم دون محاولة منهم لفداء مواطنيهم جميع المسلمين. وحينما رأى المؤرخ المسلم عماد الدين (البطريرك هرقل) يترك المدينة بينما تئن مركباته تحت وطأة ثقل كنوزه، ترجى صلاح الدين أن تُصادَر أملاكه لفداء الأسر الباقية. لكن صلاح الدين رفض ذلك لقناعته أن العهود والمواثيق يجب تنفيذها حرفياً. كما قال إن المسيحيين في جميع أنحاء العالم سيتذكرون ما أفاض عليهم المسلمون من رحمة.
وقد كان مصيباً في ذلك إذ وعى المسيحيون في الغرب بقدر من عدم الارتياح أن ذلك الحاكم المسلم قد سلك مسلكاً يتوافق مع المبادئ المسيحية بخلاف مسلك محاربيهم الصليبيين لدى فتحهم أورشليم. وهكذا خرجوا بأساطير جعلت من (صلاح الدين) “مسيحياً شرفياً”، حتى أن بعض تلك الأساطير قالت بأنه كان قد تم تعميد صلاح الدين في السر.
العودة إلى الوطن
وهكذا انتهت تقريباً تجربة الصليبيين في القدس. وحاول المسلمون بعد ذلك إعادة النظام القديم للتعايش والاندماج في المدينة، غير أن الاضطراب العنيف الذي تسبب فيه الحكم الصليبي دمر العلاقة بين الإسلام والغرب المسيحي على مستوى أساسي. فقد كانت تلك هي خبرة المسلمين الأولى بالعالم الغربي، وهي خبرة لم تُنسى حتى يومنا هذا. وأثرت معاناة المسلمين على يد الصليبيين على نظرتهم للمدينة المقدسة. وأصبح هناك توجهات دفاعية في تعلق المسلمين بالقدس، ولذا، فقد قُرر للمدينة أن تصبح إسلامية بأسلوب أكثر عدوانية من أي وقت سابق.
حينما غادر الفرنجة القدس أخذ المسلمون يتجولون في أنحائها وقد بهرتهم فخامة قدس الصليبيين. غير أن شعورهم، ولأسباب عديدة، كان شعور العودة إلى الوطن. وتم اعتلاء (صلاح الدين) العرش في البيمارستان (المستشفى)، أي في قلب القدس الصليبية، وهناك جلس ليتلقى تهاني أمرائه والصوفيين والعلماء. وكما يخبرنا عماد الدين، كان وجه صلاح الدين متوهجاً من الفرحة ورتل المقرئون القرآن، وألقى الشعراء مدائحهم، بينما كان الآخرون يبكون فرحاً وهم شبه عاجزين عن الكلام.
غير أن المسلمين كانوا يعلمون أن الجهاد من أجل القدس لم ينتهِ بفتح المدينة. وهنا يجب لفت الانتباه إلى أن لفظ «الجهاد» لا يعني مجرد الحرب المقدسة، فمعناه الأول هو “النضال”، ويستعمل اللفظ في القرآن الكريم بهذا المعنى بصفة أساسية، وأيضاً هناك حديث نبوي شهير يقول: “لقد عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” أي إلى النضال الأهم والأكثر قسوة وهو جهاد النفس.
وقد سلك صلاح الدين مسلكه في الجهاد وفقاً للمنهج القرآني، فكان يمنح الصليبيين هدنة كلما طلبوا ذلك، كما عامل الأسرى في معظم الأحيان معاملة عادلة رحيمة، وتصرف أيضاً من منطلق إنساني ساعة الانتصار.
وفي الواقع، فإن بعض المؤرخين المسلمين يعتقدون أنه كان رحيماً إلى درجة الخطأ، وذلك بسماحة للمسيحيين الصليبيين بالتجمع في (صور). مما ساعدهم على الإبقاء على مرتكز لهم في فلسطين، وتسبب ذلك في أن يستمر الصراع لأكثر من مائة عام. وقد فشلت حملة صليبية ثالثة بقيادة (ريتشارد الأول) ملك إنجلترا و(فيليب الثاني) ملك فرنسا في غزو القدس، لكنها نجحت في إرساء الفرنجة قواعد لهم في دولة شريطية ساحلية تمتد من يافا حتى بيروت. ورغم أن عاصمتهم كانت عكا، فقد ثابر ملوكها بدافع التوق الكئيب على تلقيب أنفسهم بملوك القدس. وبذلك لم يندثر حلم الصليبيين طالما بقي لهم وجود في فلسطين، وإزاء هذا كان على المسلمين التزام اليقظة والأساليب الدفاعية .
تطهير الحرم القدسي
غير أنه في عام ۱۱۸۷م كانت آمال المسلمين عظيمة. وكان (صلاح الدين) يعلم أن عليه أن يبدأ جهاداً من نوع مختلف من أجل جعل القدس مدينة إسلامية حقة. وكانت مهمته الأولى تطهير الحرم. فبدأ بإزالة المراحيض وأثاث “فرسان الداوية” والإعداد لأداء صلاة الجمعة. وتم أيضاً البناء بالقوالب حول المحراب الذي يحدد الاتجاه نحو مكة وبقي الكشف عنه. كما أزيلت الحوائط الداخلية التي أقامها الفرسان وتم تغطية الأرض بالسجاد وإحضار المنبر الذي كان نور الدين قد أمر بصنعه في دمشق ووضع في مكانه. وأزيلت الصور والتماثيل من على القبة وظهرت النقوش القرآنية، كما أزيل التغليف الرخامي للقبة.
وطبقاً للمؤرخين المسلمين، ومثل ما فعله (عمر بن الخطاب) من قبل، فقد عمل (صلاح الدين) مع رجاله طوال اليوم في غسل فناءات وأرصفة الحرم بماء الورد، كما قام بتوزيع الصدقات على الفقراء. وفي يوم الجمعة الموافق الرابع من شعبان امتلأ المسجد الأقصى بالمصلين لأول مرة منذ عام ۱۰٩٩م. وحينما اعتلى قاضي القدس (محيى الدين) المنبر بكى الناس انفعالاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- كارين أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة وعقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، (القاهرة: دار سطور، 1998م)، ص479 وما بعدها.
1 المعروف عند العرب بأرناط. (المترجمان).