
حكم تجويع وحصار غزة، والمسؤولية الشرعية على الفاعلين
يوليو 26, 2025
أكثر من 40 ألف رضيع يواجهون الموت البطيء
يوليو 28, 2025أمين معلوف
أديب وصحافي لبناني
“ولست أدري إذا كان هذا مسرح وحش، أو كان منزلي ومسقط رأسي”.
ليست صيحة التفجع هذه -وهي لشاعر من المعرة لا يُدرَى من هو- مجرد صورة بلاغية. ونحن مضطرون -ويا للأسى- إلى التقيد بحرْفية كلماته والتساؤل معه: ما الذي جرى من حوادث هائلة في مدينة المعرة الشامية في أواخر عام ١٠٩٨م؟
لقد كان أهلها يعيشون حتى وصول الفرنج عيشة راضية في حِمى سورها الدائري، وكانت كرومهم وحقول زيتونهم وتينهم تؤمن لهم رخاء متواضعاً. وأما شؤون مدينتهم فقد كان يقوم بها بعض الوجهاء المحليين الطيبين ممن ليس لهم عظيم طموح، بتعيين من رضوان، صاحب حلب ذي السلطان المطلق.
ومفخرة المعرة هي أنها موطن أحد أكبر وجوه الأدب العربي: أبي العلاء المعري، المتوفى عام ١٠٥٧م. ولقد جرؤ هذا الشاعر الضرير الحر التفكير على انتقاد عادات عصره من غير التفات إلى المحظورات. وكان لا بد من الشجاعة للقول:
اثنان أهل الأرض، ذو عقل بلا ** دين، وآخر دَيّن لا عقل له
وسوف يهيمن بعد أربعين سنة من وفاته تعصب وافد من بعيد فيقرر على ما يبدو أن ابن المعرة كان على حق في عدم تدينه وتشاؤمه الأسطوري على السواء:
يحطمنا ريب الزمان كأننا ** زجاج، ولكن لا يُعاد له سَبكُ
فسوف تتحول مدينته بالفعل إلى ركام من الأطلال، وسيكون للارتياب الذي طالما عبر عنه حيال أبناء جلدته أشنع الصور.
في الأشهر الأولى من عام ١٠٩٨م كان أهل المعرة قد تابعوا بقلق معركة أنطاكية التي تدور رحاها على مسيرة ثلاثة أيام في الشمال الشرقي من مدينتهم. وقد قام الفرنج بعد فوزهم بنهب بعض القرى المجاورة من غير أن يتعرضوا للمعرة، ولكن بعض عائلاتها آثرت تركها إلى أماكن أكثر أمناً مثل حلب وحمص وحماة. ولقد اتضح أن مخاوفهم كانت في محلها حين حضر في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر آلاف من المحاربين الفرنج فأحاطوا بالمدينة. وإذا كان قد تيسر لبعض سكانها أن يفروا فإن معظمهم وقعوا في الشرَك. فليس للمعرة جيش وإنما ميليشيا محلية بسيطة انضم إليها بضع مئات من الشبان الذين ليست لهم أية خبرة عسكرية. وقد قاوموا بشجاعة أولئك الفرسان المرهوبي الجانب مدة أسبوعين، وذهبوا في المقاومة إلى حد رشق المحاصِرين بقفائر النحل من أعلى الأسوار. ويقول ابن الأثير:
“ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية، ولقوا منهم الجد في حربهم والاجتهاد في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجاً من خشب يوازي سور المدينة، وخاف قوم من المسلمين وتداخلهم الفشل والهلع وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها. وأخلوا الموضع الذي كان يُحفظونه، فرآهم طائفة أخرى ففعلوا كفعلهم فخلا مكانهم أيضاً من السور. ولم تزل تتبع طائفة منهم التي تليها في النزول حتى خلا السور فصعد الفرنج إليه على السلاليم، فلما علوه تحير المسلمون ودخلوا دورهم”.
المذبحة الدموية
وجاء مساء الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر، وكان الظلام حالكاً فلم يجرؤ الفرنج على التوغل في المدينة. واتصل وجهاء المعرة ببیمند صاحب أنطاكية الجديد الذي كان رأس المهاجمين. ووعد الزعيم الفرنجي الأهالي بالإبقاء على حياتهم إذا توقفوا عن القتال وانسحبوا من بعض الأبنية. واستكانوا بيأس إلى كلامه فاحتشدت العائلات في بيوت المدينة وأقبيتها تنتظر طوال الليل وهي ترتعد.
وعند الفجر وصل الفرنج: إنها المذبحة “فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مئة ألف وسَبوا السبي الكثير”. وبديهي أن أرقام ابن الأثير مزاجية لأن سكان المدينة ربما كانوا عند سقوطها أقل من عشرة آلاف. ولكن الهول يكمن هنا في المصير المستعصي على التصور الذي لقيه الضحايا أكثر مما يكمن في عددهم.
“كان جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين بالغين في القدور ويشكّون الأولاد في سفافيد ويلتهمونهم مشويين”. إن سكان القطاعات المجاورة للمعرة لن يقرأوا هذا الاعتراف الذي سجله المؤرخ الفرنجي (راول دي كين)، ولكنهم سوف يتذكرون ما رأوا وسمعوا حتى آخر يوم من عمرهم، لأن ذكرى هذه الفظاعات التي نشرها الشعراء المحليون وتناقلتها الروايات الشفوية سوف تحفر في الأذهان صورة عن الفرنج من الصعب محوها. وسيكتب ذات يوم المؤرخ أسامة بن منقذ الذي وُلد في مدينة شيزر المجاورة قبل ثلاث سنوات من هذه الأحداث قائلاً: “وإذا خبر الإنسان أمور الإفرنج (…) رأى بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحَمْل”.
إنه حكم لا مواربة فيه، وهو يختصر جداً الانطباع الذي أحدثه الفرنج لدَى وصولهم: مزيج من الخشية والاحتقار له ما يسوّغ صدوره عن أمة عريقة متفوقة جداً بثقافتها، وإن كانت قد فقدت كل روح قتالية. ولن ينسى الأتراك قط تصرفات الغربيين تصرف أكلة لحوم البشر، ولسوف يوصف الفرنج بلا أدنى تحوير عبر أدبهم الملحمي بأنهم يأكلون لحوم البشر.
تُرى أتكون هذه النظرة إلى الفرنج ظالمة وهل التهم المجتاحون الغريبون سكان المدينة الشهيدة بهدف أوحد هو البقاء على قيد الحياة؟ إن زعماءهم سيؤكدون ذلك في السنة التالية في رسالة رسمية إلى الباب: “اجتاحت الجيش مجاعة عظيمة في المعرة وألجأتهم إلى ضرورة جائرة هي التقوت بجثت المسلمين”.
ولكن ذلك يبدو مقولاً على عجل شديد؛ لأن سكان خراج المعرة كانوا يشهدون طوال ذلك الشتاء المشؤوم تصرفات لا يكفي الجوع لتفسيرها؛ فقد كانوا يرون بالفعل عصابات من الفرنج المشحونين بالتعصب، جماعة (الطفور)، ينتشرون في الأرياف وهم يجأرون بأنهم راغبون في قضم لحم المسلمين، ويتحلقون في المساء حول النار لالتهام فرائسهم.
أهم أكلة لحوم بشر بفعل الحاجة؟ أكلة لحوم بشر بفعل التعصب؟ كل ذلك يبدو غير مطابق للحقيقة، ومع ذلك فإن الشواهد عليه دامغة سواء بالوقائع التي تُصورها أو بالجو المرضي الذي تُشيعه. وفي هذا الصدد تظلّ عبارة المؤرخ الإفرنجي (ألبير دكس) الذي شارك بشخصه في معركة المعرة عديمة المثيل في فظاعتها: “لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الأتراك والعرب، بل كانت تأكل الكلاب أيضاً”!
ولن ينتهي عذاب مدينة أبي العلاء إلا في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير ۱۰۹۹ عندما سيسلك الأزقة مئات من الفرنج مسلحين بالمشاعل فيضرمون النار في كل منزل. ولسوف يكون السور عندها قد هُدم حجراً حجراً.
لسوف تُسهم حادثة المعرة في حفر هُوّة بين العرب والفرنج لن تكفي عدة قرون لردمها. ومع ذلك فإن الأهالي الذين شلهم الرعب لن يقاوموا إلا إذا أكرهوا على الصمود. وعندما سيعاود المجتاحون مسيرتهم نحو الجنوب غير تاركين وراءهم سوى أطلال يتصاعد منها الدخان، فإن الأمراء سوف يتراكضون ليرسلوا إليهم موفدين ممثلين بالهدايا مؤكدين لهم حسن نياتهم، عارضين عليهم كل مساعدة يحتاجون إليها.
وأولهم سلطان بن منقذ عم المؤرخ أسامة الذي يحكم إمارة شيزر الصغيرة. فقد بلغ الفرنج أراضيه في اليوم التالي لرحيلهم عن المعرة، وكان على رأسهم صنجيل (Saint-Gilles) أحد زعمائهم الذين غالباً ما يذكرهم المؤرخون العرب. ولقد أرسل إليه الأمير وفداً، وما لبث أن عُقد بينهما اتفاق لا يلتزم سلطان بموجبه بتموين الفرنج وحسب، وإنما يسمح لهم أيضاً بالحضور إلى سوق شيزر لشراء الخيل ويؤمن لهم الأدلّاء لاجتياز سائر بلاد الشام من غير عقبات.
ولم تكن المنطقة لتجهل شيئاً عن تقدم الفرنج، بل إن الناس باتوا يعرفون مسارهم، أليسوا يجاهرون بأن هدفهم الأخير هو بيت المقدس الذي يريدون السيطرة فيه على قبر السيد المسيح؟ وكل الذين هم على طريق المدينة المقدسة يحاولون حماية أنفسهم من الكارثة التي يحملها أولئك. فأفقرهم يحتمي بالغابات المجاورة رغم امتلائها بالوحوش من أسود وذئاب ودببة وضباع. وأما الذين يملكون وسائل المهجرة فقد توجهوا إلى داخل البلاد، والتجأ آخرون إلى أقرب القلاع…
ذبح سبعين ألف مقدسي
وفي فلسطين كانت معظم المدن والقرى قد خلت من أهلها حتى قبل وصول الفرنج. ولم يصادف هؤلاء في أية لحظة مقاومة حقيقية، ومنذ صبيحة السابع من حزيران/يونيه ۱۰۹۹م لمحهم سكان القدس من بعيد فوق التلة بالقرب من مسجد النبي إسماعيل، وكان الناس يسمعون تقريباً هتافاتهم، وعند الأصيل كانوا قد عسكروا تحت أسوار المدينة.
وأخذ افتخار الدولة قائد الحامية المصرية يراقبهم بدَعة من أعلى برج داود. فقد اتخذ منذ عدة أشهر جميع التدابير اللازمة لتحمل حصار طويل الأمد: أصلح جزءاً من السور كان قد تهدم خلال هجوم الأفضل على الأتراك في الصيف الماضي. جمع مؤناً هائلة لتجنب كل أخطار المجاعة بانتظار وصول الوزير الذي وعد بالمجيء قبل نهاية شهر تموز/يوليه لتخليص المدينة. ولمزيد من الحيطة احتذى مثال ياغي سيان فطرد السكان النصارى الكفيلين بالتعاون مع إخوتهم في الدين من الفرنج. حتى إنه سمم في هذه الأيام الأخيرة الينابيع والآبار القائمة في الجوار لمنع العدو من الانتفاع بها.
وهكذا فإن حياة المحاصِرين لن تكون رخيّة تحت شمس حزيران/يونيه، وفي هذا المشهد الجبلي الجاف الذي تتخلله هنا وهناك بعض شجيرات الزيتون.
وهكذا بدا لافتخار أن المعركة ستنشب في ظروف حسنة وإنه ليشعر بالقدرة على الثبات بفضل فرسانه العرب وتبّالته السودانيين المتمترسين بإحكام خلف التحصينات المتينة التي تتسلق التلال وتغوص في الوهاد. والحق أن فرسان الغرب مشهورون بالبسالة، ولكن تصرفهم تحت أسوار القدس مخيّب ومحيّر بعض الشيء في نظر عسكري محنك؛ فقد كان افتخار يتوقع أن يراهم يبنون منذ لحظة وصولهم أبراجاً متنقلة ومختلف وسائل الحصار، ويحفرون الخنادق للاحتماء بها من خرجات الحامية إليهم.
بيد أنهم، بعيداً عن الانشغال بكل هذه التدابير، شرعوا ينظمون حول الأسوار زياحاً يقوده كهنة يدعون ويرفعون عقائرهم بالتراتيل قبل أن ينقضوا كالكلاب المسعورة للهجوم على الأسوار من غير أن يستخدموا أدن سُلم. ولقد أدهشه هذا التعصب المغرق في العماية، مع أن الأفضل كان قد شرح له بإسهاب أن الفرنج راغبون في الاستيلاء على المدينة لأسباب دينية. فهو نفسه مسلم مؤمن، ولكنه إذا كان يحارب في فلسطين فلحماية مصالح مصر، ثم ولماذا الإنكار؟ لرفع رتبته العسكرية بالذات.
وهو يعلم جيداً أن هذه المدينة ليست كغيرها. ولطالما دعاها باسمها الدارج “إيلياء”، ولكن العلماء والفقهاء يدعونها: القدس أو بيت المقدس أو البيت المقدس. وهم يقولون إنها المدينة المقدسة الثالثة بعد مكة والمدينة، إذ إليها أسرى الله بنبيه في ليلة مباركة ليلتقي بموسى وعيسى ابن مريم. ومذاك أصبحت القدس في نظر كل مسلم رمزاً لاستمرار الرسالة السماوية. وكثير من المتعبدين يأتون للخشوع والتأمل داخل المسجد الأقصى تحت القبة الضخمة البراقة التي تهيمن بجلال على بيوت المدينة المرتفعة.
وعلى الرغم من أن السماء بادية هنا في كل زاوية من زوايا الشارع فإن افتخار بالذات يشعر بأن قدمه لاصقتان بالأرض. وهو يرى أن الفنون العسكرية هي هي مهما تكن المدينة، وزيحات الفرنجة الترتيلية تزعجه ولكنها لا تقلقه. ولم يبدأ القلق بمساورته إلا في نهاية الأسبوع الثاني من الحصار عندما انصرف العدو بجد إلى بناء برجين خشبيين ضخمين. وها هما في بداية تموز/يوليه منتصبان متأهبان لنقل مئات المقاتلين إلى أعلى الأسوار. وإن شبحيهما ليرتفعان متوعدَين وسط المعسكر العادي.
وتعليمات افتخار صارمة: إذا قامت أية واحدة من هاتين الاثنتين بأدنى تحرك باتجاه الأسوار فينبغي إمطارها بوابل من السهام. وإذا تمكن بعد ذلك من الاقتراب فينبغي استخدام النار اليونانية، وهي مزيج من النفط والكبريت يُصب في جِرار ويُقذف به مشتعلاً فوق رؤس المحاصِرين. ويُحدث السائل وهو يراق حرائق من العسير إخمادها. ولسوف يتيح هذا السلاح الرهيب لجنود افتخار صد عدة هجمات متلاحقة خلال الأسبوع الثاني من تموز/يوليه على الرغم من أن المحاصرين كانوا قد فرشوا البرجين المتحركين بجلود حديثة السلخ ومضمخة بالخل لوقاية أنفسهم من لهيب النار. وسرت في أثناء ذلك شائعات بوصول الأفضل الوشيك. وإذ خشي المحاصرون أن يقعوا بين نارين فقد ضاعفوا جهودهم. ويقول ابن الأثير:
“ونصبوا (الفرنج) برجين أحدهما من ناحية صهيون وأحرقه المسلمون وقتلوا كل من به. فلما فرغوا من إحراقه أتاهم المستغيث بأن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر، وملكوها من جهة الشمال منه ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان “٤٩٢هـ”.
وانسحب افتخار في ذلك اليوم المهول من تموز/يوليه 1099 م إلى برج داود، وهو حصن مثمن الأضلاع لحمت أسسه بالرصاص ويعدّ أقوى نقطة من نقاط السياج. وكان في وسعه الصمود عدة أيام أخر، ولكنه يعلم أن المعركة قد خسرت. فلقد اجتيح الحي اليهودي والشوارع ملأى بالجثث، والعراك دائر منذ وقت عند أطراف المسجد الجامع. ولن يلبث أن يحاصر هو ورجاله من كل صوب. ومع ذلك فإنه مستمر في القتال. فماذا في مقدوره أن يفعل غير ذلك؟ وعند العصر توقفت عملياً المعارك التي كانت دائرة في قلب المدينة، لم تعد راية الفاطميين البيضاء ترفرف إلا فوق برج داود.
وفجأة توقفت هجمات الفرنج واقترب أحد الرسل. إنه قادم من قبل صنجيل عارضاً على القائد المصري ورجاله أن يدعهم يذهبون سالمين إن هم قبلوا أن يسلموه البرج. وتردد افتخار، فقد سبق للفرنج غير مرة أن نكثوا بعهودهم، وليس ما يؤكد أن صنجيل قرر التصرف بشكل آخر. ومع ذلك فهو موصوف بأنه ستيني أبيض الشعر يحييه جميع الناس بالإجلال. الأمر الذي يضمن عنده الحس باحترام العهد المقطوع، ومعروف على كل حال أنه بحاجة إلى التفاوض مع الحامية لأن برجه الخشبي كان قد دُمر وصُدت جميع هجماته. والحق أنه يسير منذ الصباح تحت الأسوار بينما إخوته الزعماء الفرنجيون الآخرون مشغولون بنهب المدينة والتنازع على بيوتها. وإذ كان افتخار قد وازن بين ما له وما عليه فقد انتهى به الأمر إلى إعلان استعداده للاستسلام شريطة أن يَعِد صنجيل بشرفه بتأمين سلامته وسلامة جميع رجاله.
وسوف يسجل ابن الأثير موقف الفرنج بنزاهة قائلاً: “ووفّى لهم الفرنج وخرجوا ليلاً من عسقلان فأقاموا بها”. قبل أن يضيف: “وركب الناسَ السيفُ ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين (…) وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً”.
وأما ابن القلانسي الذي يتجنب إيراد أرقام يصعب التحقق من صحتها فيقول: “وقُتل خلق كثير، وجُمع اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم (…) وهدموا المشاهد وقبر الخليل عليه السلام”.
المقارنة الفاضحة: دخول الفاروق القدس
ومن بين المشاهد التي خربها الغزاة مسجد عمر الذي شيد تخليداً لذكرى استخلاص ثاني خلفاء النبي عمر بن الخطاب لمدينة القدس من أيدي الروم عام 638م. ولن يألوَ العرب جهداً فيها بعد للتذكير في كثير من الأحيان بهذا الحدث ابتغاء إظهار الفرق بين سلوكهم وسلوك الفرنج..
ففي ذلك اليوم دخل عمر على جمله الأبيض الشهير في حين كان بطريرك المدينة المقدسة الرومي يتقدم للقائه، ولقد بدأ الخليفة حديثه إليه مؤكداً له احترام حياة جميع السكان وممتلكاتهم قبل أن يسأله السماح له بزيارة الأماكن المقدسة المسيحية. وإذ كانا في كنيسة القيامة فقد حضر وقت الصلاة فسأل عمر مضيفه أين يمكنه أن يفرش بساطه للسجود؟ ودعاه البطريرك إلى البقاء في مكانه، ولكن الخليفة أجاب: إذا فعلت فسيستولي المسلمون غداً على هذا المكان قائلين: لقد صلى عمر هنا. وحمل بساطه وسجد خارج الكنيسة. وكانت نظرته ثاقبة، فسوف يشاد في المكان الذي صلّى فيه بالذات المسجد الذي يحمل اسمه. ولا يملك الزعماء الفرنج مع الأسف هذه الأريحية، فقد احتفلوا بانتصارهم بارتكاب مجزرة تعزّ على الوصف ثم خربوا بوحشية المدينة التي يزعمون إجلالها.
وحتى إخوانهم في الدين أنفسهم لم يوفروهم، وكان من أول ما اتخذوه من تدابير أنهم طردوا من كنيسة القيامة جميع الكهنة من الطقس الشرقي -روماً وجيورجيين وأرمنيين وأقباطاً وسرياناً- الذين كانوا يقيمون القداديس معاً تبعاً لمذهب كان جميع الفاتحين قد احترموه حتى ذلك الحين. وإذ ذهل وجهاء الطوائف المسيحية الشرقية أمام هذا القدر من التعصب فقد عزموا على المقاومة، ورفضوا أن يكشفوا للمحتل عن المكان الذي خبأوا فيه الصليب الحقيقي الذي مات عليه المسيح.
والتفاني الديني بصدد هذه الذخيرة مقترن في نظر هؤلاء الناس بالعزة القومية.. أليسوا في الواقع مواطني الناصري؟ ولكن المجتاحين لا يدَعون أي مجال للتأثر. وإذ قبضوا على الكهنة المولجين بحراسة الصليب وأخضعوهم للتعذيب فقد تمكنوا من انتزاع سرهم، والحصول من مسيحيي المدينة المقدسة بالقوة على أغلى ما يملكون من ذخائر.
وفي حين انتهى الغربيون من ذبح بعض الناجين بعد أن نصبوا لهم الكمائن، ومن الاستيلاء على كل ثروات القدس، كان الجيش الذي حشده الأفضل يتقدم ببطء عبر سيناء، ولم يُقدر له الوصول إلى فلسطين إلا بعد عشرين يوماً على المأساة.
ـــــــــــــــــــــــــــ