
اقتحام جديد للأقصى وإصابة شاب في قلنديا
يوليو 15, 2025
مجاعة غزة تتفاقم: أكثر من 5800 طفل يعانون سوء التغذية !
يوليو 16, 2025قسّام البرغوثي – فك الله أسره*
في عتمةِ اللّيل، صوتُ عواءٍ بعيد، صوتُ صراصير، تفوح رائحة العشب المبلّل بالنّدى لتمتزج برائحة الطّلاء. تنيرُ أضواءُ الدّورية كلّ شيءٍ باللّون البُرتقالي. وسعيد قد انتهى من توزيعِ زجاجاتِ الطّلاء علينا. كلٌّ منّا أخذَ موقعه، يجلسُ سعيد بجانبي بتحفّز كما لو أنه سينقضُّ على شيءٍ ما. تقتربُ الدّوريّة الأولى، تسير بسرعة. ربّما لم يتوقع السّائق أن يتم ضَرب دوريّته من خلفِ تلّةٍ ترابيّة كالّتي نقفُ خلفَها والّتي خلّفتها أعمالُ الحفر قريباً من المَكان. في كلّ مرّة نغيّر المكان الذي نضرِب منه لنتفادى كمائن الجنود.
يعلو صوتُ المحرّكات، تصبح الدوريّة أمامنا، عدّة زجاجاتٍ انطلقت معاً، فتوالت باقي الزّجاجات لتصيبَ أهدافها. فالمسافة كانت تَمنع أن تخطئ أي واحدة هدفها. قطراتُ الطّلاء كانت ترتدّ علينا. أصيبَ الزّجاج الأماميّ أمام عينيّ السائق فتخبّط يمنةً ويسرة، داس على الفرامِل لكنّ سرعةَ الدوريّة أدّت بها إلى الانزلاق في الحفريّة بجانبِ الشّارع، عُمق تلك الحفريّة قرابة المترين. انقلبت الدوريّة على جانبها، سمعنا صراخَ الجُنود، تقافزوا من داخل الدوريّات. لعلع الرّصاص بكثافةٍ فتسلّلنا عبر الحقول بسرعةٍ لنحاولَ أن نضرِب من مكانٍ آخر.
اعتلى الجُنودُ أسطحَ المنازل وصاروا يُطلقونَ النّار على كلّ ما يتحرّك في انتظار أن يُخرجوا تلكَ الدوريّةَ من حُفرتها. كنتُ قد تعبتُ من جولاتِ الكرّ والفرّ، فعُدت إلى المَنزل. أمامَ البابِ كان يَجلسُ عمّي وأسرَتُه وأمّي وأُختي، كما هو حالُ معظمِ البيوتِ الّتي أفزَعَ صوتُ الرّصاصِ سُكّانها. فكّرت بالموشّحِ الّذي سأسمَعُهُ من عمّي وأُمّي، فتواريتُ خلفَ سيّارةَ عمّي، لمحتني زينة، أشارت لي بحركةٍ كَي أختَفي، وما كانَت إشارتُها سريعةً كفاية كي لا يتنبّه عمّي لها. لاحَظَ وجودي، ناداني، ثم رَمَقَ شقيقتي بنظرةٍ مخيفةٍ وبدَأَ يوبّخها على كَذِبها حين ادّعت أنّني لا أزالُ نائِماً. سرتُ إليهِ بخطواتٍ سريعةٍ علّي أُخفّف من إحراجِ زينة فيتحوّل عمّي من توبيخِها إليّ، فلعلّي أُسرّع بنهايةِ موشّحاتهِ المَعهودة:
“إلى مَتى سَتبقى عديمَ المسؤوليّة؟ ومَن غَيرُكَ لأمّك وأُختِك؟ لماذا يجب أن تدمّر نَفسَك؟ لماذا دخلتَ الجامعةَ إذا كنتَ تبحثُ عن الدّمار؟ هذهِ أعمالُ من ليسَ لهُ عمل. إنّك لن تتعلّم ولن تُصبحَ رجُلاً ولن تلتَفِتَ لمصلَحتِكَ يوماً!”.
فكّرتُ بالكذِبِ عليه، لكنّ ملابِسي السّوداءَ المنقّطةَ بالطّلاءِ الأبيضِ حالت دون ذلك. فكلّ شيءٍ بدا واضِحاً. لقد اعتدت على هذه الموشّحاتِ مع أنّ فيها ما يحرقني ويستفزّني، لكنّ عمّي يفهمُ الأمورَ هكذا. سأقدّر الحرصَ الّذي يُبديه وأبتلعُ قسوتَهُ الأبويّة الّتي يَبتغي منها مصلحتي، سأُسايُرهُ مع أنّ المصلَحَةَ الشّخصيّة أصبَحَت آخرَ الأشياءَ الّتي بتّ أُفكّر فيها.
فتحت زينة بابَ الغرفة وأتت تحمِل في يَدِها فِنجانَ قهوةٍ كانَت قد أعدّتهُ لي قَبل أن يَقتَحِمَ الجيشُ القرية. طلبتُ مِنها ألّا تغضَبَ مِن عمّي وأنّه في مكانَةِ والدي، فهيَ أَيضاً كانَت تُشارِكُني ذاتَ الشّعورِ وتَنظُرُ إلَيه ذاتَ النّظرة، فهوَ لَم يُشعِرنا بذلك منذ رَحَلَ والِدي.
***
ألقَينا في وَضَحِ النّهارِ زجاجات حارقة على دوريّةٍ للجيش، طارَدَنا الجُنود. دَخَلنا في ورشَةِ بناء وتَبِعَنا الجُنود، وَجَدنا الممرّ الّذي نَنفُذُ مِنهُ إلى الجِهةِ الأُخرى مُغلقاً. حوصِرنا، بَحَثنا عَن مَنفذ ولَم نجِد. يَنتَصِبُ أمامنا سورٌ عالٍ. طَلَبتُ مِن سَعيد أن يأتي. أَنحَني أمامهُ ويَصعد على كَتِفيّ وقَفَزَ فوقَ الحافّة. يَعلو صَوتُ جِهاز اللاسِلكي مع الجنود، يقتربون منا أكثر. يمد سعيد يده، أقفز قليلاً، أمسك يده الأخرى، يسحبني قليلاً، أصل الحافة، أمسك بها، أصل فوقها، وننطلق ركضاً مُخلّفين وراءنا الجنود.
وَصلنا يومَها ورشةَ بناءٍ أُخرى، شرِبنا الماءَ مِن برميلٍ فيها، وارتَمَينا على كَومةِ رملٍ لَم تَصِلها الشّمسُ فظلّت باردةً التَقَطنا أنفاسنا عليها. ناولني سعيد سيجارةً من علبتهِ، أشعَلتُها وأشعَلتُ لهُ سيجارَتَهُ، فكّرتُ يومَها بالتّغيّرات الّتي طرَأَت على علاقتي بسعيدٍ فبادَرتُهُ بالحَديث:
“أتذكرُ كنّا ألدّ الأعداءِ أيّامَ المَدرسة والآنَ نَذهبُ إلى المَوتِ كَتِفاً على كَتِف“.
أطلقَ تنهيدةً وقال:
“أيّام.. أتذكُرُ حينَ طَعَنتني بالقَلَم؟”. ورفعَ قميصهُ وأراني مكانها.
ورحنا نستذكرُ معاً أيّام الشّجارات بتَفَاصيلها وأشخاصِها، والضّربات الّتي تلقّيتها منه والتي تلقّاها منّي، ومرّت لحظاتُ صمتٍ، عُدنا بَعدها لنغوصَ في خَبايا الذّاكِرة. لم يَكن سَعيد قَد أكمَلَ الثّانويّةَ العامّة، لكنّه قارئٌ نهم. مُثقّفٌ مِن عائلةٍ مُثقّفة. تَناولَ بيدِهِ حفنةً من الرّملِ الرّطِب وراحَ يسرّبُها مِن قبضةِ يَدِه كما السّاعةُ الرّملية وراحَ يَتَحدّث:
“أتعرِف؟ شِجاراتُنا التّافهة أيّامَ المدرَسةِ وشِجاراتُنا اليوم مُتشابِهةٌ جدّاً، أقصِدُ في أهدافِها، على السّيطرة، على المال، الهدفُ من ورائِها كلّها هُوِ المجدُ الشّخصي، المَصلَحة الشّخصيّة، المُعظَمُ يَبحثُ عن ذاتِ الشّيء. فحينَ يبحثُ المرءُ عنِ المَجد الشّخصيّ، سيجدُ أمامَهُ ألدّ الأعداء الّذينَ يبحثونَ عن ذات المجد”.
صَمتَ قليلاً حينَ اعتَقدَ أنّني سأُعقَب، لكنّني لَم أكُن أريد. كنتُ أريدُه أن يستَفيضَ أكثَر. قلتُ:
“نَعم، لا يجبُ أنّ يفكّر المرءُ بذاتِه.. عُذراً، إنّ التّفكيرَ بالذّاتِ يجِب أن يكونَ لهدفٍ واحد: أَن تعرفَ مواطِنَ الضّعف والقوّة في ذاتِك. أن تُدرِكَ قيمةَ وجودِك والقوّةَ الكامِنَةَ فيكَ لتغيّر، أمّا حُبّ الذّات فهو من الأشياءِ الكَثيرةِ الّتي تعزّزت بالوعي المُشوّهِ لَدَينا، قُل إنّها عادةٌ سيئةٌ علينا أن نَتَخلّصَ منها، نَتَخلّصُ مِنها بالوعي والعَمَلِ الدّؤوبِ وبالنّضالِ لمصلَحَةِ المجموع. نتخلّصُ مِنها شيئاً فشيئاً فتُصبِحُ عدوّنا الأساسيّ كما القَهرُ والظّلمُ والاضطهاد”.
طيلةَ طريقِ العودة وأنا أفكّرُ بمنسوبِ الوعيِ لديه، هذا الّذي يُعدّ غَيرَ مُتعلّم، وأُفكّرُ بالمَجدِ الّذي يبتغيهِ عَمّي لي من خلالِ شهادةٍ جامعيّةٍ تُتيحُ لي بعدَ سنواتٍ أن أَتَوظّفَ في مؤسّسةٍ حُكوميّةٍ ما. حين أوشَكنا على الافتِراق، وقَد طالَت لحظاتُ الصّمت، لا أعرف ما الّذي دعاني لِشُكره، رُبّما كي أكسِرَ الصّمت:
“سعيد، أشكُركَ على انتِشالي حينَ تحاصَرنا“.
“أنتَ انحنَيْتَ لأصعَدَ أنا على كَتِفِك، لأنّ الواجبَ أملى علَيْكَ ذلك، وأنا انتَشَلتُكَ لأنّ واجِبي يُملي عليّ ذلك”.
صمتَ قليلاً، انحنى على الأَرض، ثُمّ تَنَاولَ سِلكاً صَغيراً لا أدري لماذا وأَخَذَ يَثنيه وقال برصانَة: “حينَ يقومُ المرءُ بعملٍ ما لأنّ واجِبَه يُملي عليه ذلك، مِن العارِ أَن يَنْتَظِرَ كَلِمة شكرٍ. ربّما تُشكَر، لكن يجب ألّا تَنتَظِره”.
***
كَبِرنا وكَبرت فينا فِكرة النّضال، والمُقاوَمَةُ تَأصّلَت فينا، أَصبَحَ إلقاءُ الحِجارَةِ والزّجاجات الحارِقة روتيناً عاديّاً. كانَ بِمثابَة فشّةِ غُل. يَنضَمّ إلينا كُلّ يومٍ عددٌ مِن الشّبّان. لَم تَعُد إضاءة الزّجاجات الحارِقةِ تَفتِننا حينَ تَصطَدِمُ بالدّوريّات، لكنّها تشفي قَليلاً مِن الحِقدِ المُتراكِم فينا. تُشعِرُنا بالعَجزِ وتُذكّرنا بأنّنا نستَطيعُ أكثَر، وتُذكّر الاحتلالَ بأنّه احتلال، ولَيس ضَيفاً ليليّاً حلّ على القَرية. صِرنا نَبحثُ عَن شيءٍ أَعظَم، عَن عَمَلٍ يُوازي الحِقدَ المُتراكِمَ ممّا تُخلّفُهُ صُوَرُ أشلاء الأطفالِ فينا.
نَتَساءلُ كُلّ يومٍ ماذا يَكون تَأثيرُ الحَجَرِ عَلى دَوريّةٍ مُصَفّحةٍ مُقابِلَ طَنّ مِنَ المُتَفَجّراتِ تُسقَطُهُ طائرةٌ على طِفْلةٍ في الرّابِعَةِ مِن عُمرها؟
ماذا تَنفعُ وقفةٌ تضامُنِيّةٌ مَع غَزّة في حَرَمِ الجامِعة وتَنتَهي في الكافتيريا أَمَامَ صرخاتِ أُمٍ تُحاوِلُ أن تُنقِذَ أطفالَها الّذينَ تَبَعثَرَت أشْلاؤهُم على الطّرُق؟
أُفكّرُ بِحلٍّ نُواجِهُ بِهِ جَرائِمَ الاحتِلالِ الّتي تَزدادُ يَوماً بَعدَ يَوم. عَمَلٌ يُوازي الحِقدَ المُتراكِمَ كالجِبالِ فَوقَ صُدورِنا. هذا العَمَل يحتاجُ لسلاح، نَعَم لسلاح. هذا الحُلمُ الطّفوليّ الّذي كبرتُ وكَبُرَ مَعي، مُنذُ قَرَأتُ مجموعةً قصصيّةً لغسّان كَنفاني عَن الرّجالِ والبَنادِق عَرَفتُ مَعنى البُندقيّة، رأيتُ كثيراً مِن البَنَادِقِ الحديثة، لكنّ قَلبي ظلّ مولعاً بالبَنادِقَ القَديمة الّتي كانَت في إحدى قِصصِ غسّان. العَروسُ الّتي سَلَبت عَقلَ صاحِبِها حينَ أَخَذوها مِنه، فَظَلّ طوال عُمرِهِ يَبحثُ عَن عَروسِه. فَكُنتُ أَحلُمُ بِتلكَ العَروس، لكنّ تِلك البنادق تكادُ أن تكونَ غَيرَ مَوجودة، فلا بَأسَ بالحُصولِ على بُندقيّةٍ أو أيّ بندقية.
فكّرنا مليّاً، كلّ وقتنا نُخطّط للحُصُولِ على سِلاح. كُلّ الخُطط كانَت واردة، أن نسرِق، أن نشتَري المُهم أن نَحصُلَ على سِلاح. بدأنا بِجَمعِ المال. حَرمنا أنفُسَنا من كلّ شيءٍ لا يُعدّ أساسيّاً في الحياة، أي في حياةِ الثّائرِ الّذي أطمَحُ أن أكونَه. حتّى أقساطي الجامعيّة اقتَطَعتُ أكثَرَ مِن نِصفها. هاتِفي بِعتُهُ واقتنيتُ هاتِفاً قِديماً، سعيد كانَ كذلكَ الأمر، قدّمَ راتِبهُ، غيّر نوعَ سجائِرِهِ، والكثيرَ مِن الأشياءِ الّتي صارَت بالنّسبة لَنا ترفاً، ورُغمَ ذلك استدنّا الكَثيرَ مِن المَبالِغِ من أصدقائنا.
أصبَحَ المبلَغُ بَينَ أيدينا وبقِيَ أمامَنا مصدرُ السّلاح. تبادَلنا الأفكارَ حول المَصادِرِ الّتي من المُمكِنِ أن نَشتَري مِنها، أخبَرَني سعيد عن مصدرٍ موثوق سيُقابِلُهُ ليَشتَري مِنهُ بُندقيّةَ كلاشينكوف. وبقيتُ أنتَظِرُ ذلك بفارِغِ الصّبر. نِمتُ يَومَهَا ورأيتُ مناماتٍ مليئةً بالبَنادِق. وكانَت مَعي في الحُلمِ بُندُقيّة أم ون (M1) وكُنتُ أنظُرُ مِن مِنظارِها.
حين استيقَظت، أخبَرَتني زينة عَن اعتِقالِ سعيد وشُبّانَ آخرين. اغتَسلتُ وذَهبتُ إلى بيتِ سعيد كما تَجري العادَةُ حينَ يُعتَقلُ أحد. خرَجَت زينة لِمُساعَدَةِ إحدى صديقاتِها في ترتيبِ المَنزِل بعدَ اعتِقالِ شَقيقِها والدّمار الّذي خَلّفَهُ الجُنود. امتَلأَ بيتُ سعيد بالضّيوفِ والأَقَارِب. علمتُ بضياعِ المال الّذي ادّخرناه. عرفتُ حَيثيّات الاعتِقال.
بعدَ وقتٍ قصير فَتَحت عَمّة سعيد الباب وأخَذَت تُوزّعُ الشّاي مِن صينيّةٍ تَحمِلُها. انتظرتُ الشّايَ بِلهفة، فقد كُنتُ وما زِلتُ مُغرَمَاً بِطعمِه، وصلَت الصينيّة عندي، نَظرتُ للكأسِ الّتي سأتناولها، مَددت يَدي، سَحَبت الصّينيّة مِن أمامي. حدّقتُ بِعمّة سعيد، كانَت نَظَراتُها مُلتهبةً وجاحظة بشكلٍ لَم أَكَن أتخيّل مَعه أنّ حَجمَ عينَيها وَصَلَ إلى هذا الحد، وَضَعَت الصّينيّة جانِباً، وَضَعت يَدَها على خَصرها وبالأُخرى أشارَت عليّ وقالَت:
“هذا هُوَ السّبب وراءَ اعتقالِ سعيد“. وانهالَت عليّ وعلى عائِلتي بِسيْلٍ من الشّتائم. بَحَثتُ في أَعيُن الحاضرينَ عَن كَلِمةٍ ما فَلَم أجِدها، أمسَكَت بِقَميصي وصَرَخَت: “ألا تخجَل مِن نَفسِك؟ انصَرِف من هنا“!
هَربتُ مِن لَعناتِها، وصلتُ للشّارع وصوتُها يَتبَعُني: “ألن نَنتَهي من بلاويكُم؟” انسابَت الدّموعُ الّتي لَم أكُن أعرِفُ إن كانَت على سعيدٍ أم على المالِ والبندقيّة أم على الهُجومِ الشّرسِ الّذي ما توقّعتُهُ وما عرفتُ سَبَبه. المُهمّ أنّي بكيت، بكيتُ مثلَ طفلٍ وغيّرتُ طَريقي الّتي تؤدّي بي إلى البَيت إلى الحُقولِ المُجاوِرة. ثُمّ أخذتُ أبْتعدُ شَيئاً فشَيئاً حتّى ساعاتِ المَساءِ عُدتُ بَعدَ أن غَلَبني الجوع، فمُنذُ ساعاتِ الصّباح الباكِرِ لَم أتذوّق أيّ شيء. فَقَد قَضَيتُ وَقتي جالِساً تَحتَ شجرةِ خَرّوبٍ ضَخمةٍ بكيتُ على جِذعِها بِحرقةٍ كَما بَكيتُ سابِقاً على أشياءٍ ضاعَت مِنّي.
وَجدت عَمّي وأبناءَهُ جالِسينَ أمامَ البَيت، جَلَستُ مَعَهم وكأنّ شَيئاً لم يَكُن. تَظاهرتُ أنّني طَبيعيّ، ورُحتُ أستَمعُ لِقصّةٍ مِن قِصَصِ عَمّي عَن اقتحامِه لوكرٍ مِن تُجّارِ المُخدّرات، ورُغمَ حالَتي والشرود الّذي يتلبّسني مُنذُ الصّباحِ إلّا أنّ طَريقَةَ عَمّي في السّردِ شَدّتني عِدّةَ مرّات، لاحَظَ جَميعُ مَن في البيتِ شُرودي وحُزني. وكان أكثرُ مَن لاحظ زينة، الأقرَبُ إليّ. راحَت تُلحّ عَليّ لأبوحَ لها، لكنّني لَم أبُح، فالشّتائِمُ الّتي انهالَت عليّ وعلى العائِلةِ وطالت الحيّ فيها والمَيّت سَتؤدّي لِكارثة. فعزَمتُ على ألّا أبوحَ لأحد. مع الأيّام، صارَ جميعُ أفراد العائلةِ يلحّونَ عليّ، تَعبتُ مِن ذلك فصرتُ أذهبُ للجبالِ حتّى أتلافى كلّ تلكَ الأسئلة.
***
حلّ الرّبيع، اكتَسَت الجبالُ باللونِ الأَخضَر، في كلّ يومٍ أذهَبُ لِمَنطِقة. إلا أنّ تلكَ الشّجرةَ وإطلالَتَها ظلّت المُحبّبةَ لديّ. ذهبتُ إلى مَنطِقةٍ تُغطّيها أشجارُ اللّوزِ والصّبرِ ورُحتُ أتَذَوّقُ أشجارَ اللوزِ بأطعامِها المُختَلِفة حتّى المُرّ منها. كنتُ قَد نسيتُ المرارَ الّذي خَلّفتهُ فيّ عَمّةُ سعيد. بالصّدفة فقَد رأيتُ حُسام، عَمّ سعيد، في الحَقلِ المُجاوِر، تَذكّرتُ رأساً سعيد. فقَد كانَ عمّهُ ضِمنَ الأسماءِ الّتي طَرَحَها لِنَشتَري مِنهُ سِلاحاً. لكنّهُ حينها استَصعَبَ إمكانيّة حدوث ذلك لأنّه يَخافُ عليهِ ولا يَثِقُ بِه. تَملّكني الفُضولُ واختبأتُ خَلفَ سَربٍ مِن أشجارِ الصّبرِ ورُحتُ أُراقِبُه. ملابِسُهُ مُلطّخةٌ بالوَحلِ، وفي يَدِهِ باقةُ أزهارٍ برّيةٍ ثُمّ بعدَ وَقتٍ قَصيرٍ ذَهبَ نَحوَ القَرية.
تَكرّرت عَمليّاتُ المُراقَبَةِ لَعلّي أعرِفُ إن كانَ يُخبّئ سِلاحاً فأسرِقُه. وأُفكّرُ هَل سَيفقدُ عَقلهُ مِثلَ بَطَلِ قِصّة غسان؟ أقتَرِبُ مِنهُ أكثر. فمُنذُ بَدَأتُ بِمُراقَبتِهِ لَم تَنقَطِع دَندناتُهُ يَوماً، دائماً يُغنّي ألحاناً لَم أعرِفها قَط. لَم تكُن المسافَةُ تُتيحُ لي أن أفهَمَ الكلِمات. بصبرِ صيّادٍ رُحتُ أُراقِبَهُ أسابيعَ عَديدةٍ ولَم أتَمَكّن مِن مَعرِفَةِ مكان السّلاح، ففي أحيانٍ يَأتي وَحيداً وفي أحيانٍ أُخرى يَأتي مَعهُ أطفالٌ ليَقطِفَ لَهُم اللوفَ والميرَمِيّة والحَليّونَ والزّعتر، ويقطِفَ لهُم أزهاراً بَرّية. رُبّما يُعلمهم أسماءَ النّباتاتِ البَريّةِ يُداعِبُهُم ويُغنّي لَهم.
ذاتَ يومٍ في ساعاتِ العَصرِ تَوارى عَن نَظَري خلفَ شُجيراتِ صبرٍ، اقترَبتُ أكثَر، فسَمِعتُ صَوتَ حِجارَةٍ تَتَدحرَج، لَم تَعُد دَندناتُهُ تَدُلّني عَلى مكانِه. بَحثتُ أكثَر، ظنَنتُهُ ابتَعَد. اقتربتُ عِدّةَ خَطوات، وجَدتُهُ أمامي وَجهاً لِوجه، فسألني: “لماذا تُراقِبُني؟” يسمَعُ صوتَ الأطفالِ فيُعدُلُ عن فِكرَةٍ ما اعتَمَلَت في رأسِه، ودونَ أن أُجيبَ بِحرفٍ قال: “إن كرّرتَ مراقَبَتي سَأقتُلُك“.
حينَ عُدت للبَيتِ جاءَت زينة وعادَت تَسألُني بإلحاحٍ مُجدّداً. رَجوتُها ألّا تُلِحّ عَلَي، لكنّها لَم تكُف عَن إلحاحِها، ففي كِلتا الحالَتَيْنِ مُصيبة، إمّا ستَعتَقِدُ أنّي عَميلٌ وإمّا سَتعرِفُ أنّي أبحَثُ عَن بُندُقيّةٍ لأقومَ بعَمَلٍ ما.
آه ما أصعَبَ الأمورَ الّتي يُظلَمُ فيها المَرءُ ولا يَستَطيعُ تبريرَها لأحَد. مع الوقتِ انتَشَرَ ما حدَثَ بِطَريقَةٍ ما تَعاظَمَت سطوتُهُ، تحاشى الكَثيرُ مِنَ الأصدِقاءِ اللقاءَ بي أو الجُلوسَ مَعي. أكثرُ الأصدِقاءِ تَطَرّفاً في السّياسَة يَتَصنّعُ ويُبدي تَحفّظاً إن فُرِضَ عَليهِ أَن يَتَكلّم بوُجودي بِطَريقَةٍ ما. هكذا كانَ الأمر. أصبَحَ مِن السّهلِ عَلَيّ أن أعرِفَ عَدَم رغبَتِهِم بِلقائي أو بالحَديثِ مَعي. شعرتُ بالجَرحِ دُونَ أن يبوحَ بأسبابِه، بل بحُجَجِه الّتي يُغلّفها بألفِ غلافٍ وغلاف لتبدو كشَيءٍ حضاريّ وإنسانيّ.
ومِن وقتِها أدرَكتُ أنّه مِن المُخجِلِ أن أكونَ عِبئاً على أَحَد. فقَدتهُم واحداً تِلوَ الآخر، فقدتُ مُحيطي الاجتِماعيّ، تَعزّزت عُزلَتي، فمُعظَم وَقتي أقضيهِ في الجِبال. وحتّى عُزلَتي أكّدَت شُكوكَهُم. أحببتُ القَريةَ بِجِبالها وصُخورِها، تَعمّقَ حُبّي لها. صِرتُ أروي للشجَرِ والحَجَر، احتوَت الجبالُ كلّ هُمومي، وحينَ أرى عُشبَةً شَقّت الصّخر ونبتت أُدرِكُ قُوّتي. أبكي عِندَ جِذعِ الشّجَرة، شَجرةِ الخرّوب. وفي ساعاتِ الغُروبِ تُحلّقُ طُيورُ الشّحرور، أو السِوّدي بالمُسمّى الشّعبي يتألّقُ في غِنائه وفي تَغريداتِه. تلكَ الطّيورُ الرّائعة، حينَ أراها بِسَوادِها القاتِم وأسمَعُ لَحنَها أُدرِكُ أنّ هُناكَ لحناً جَميلاً سيخرُجُ مِن سَوادِ أيّامي وحلكتها. التَفتُّ للطّبيعةِ وجَمالَها وعُدت للأرضِ الّتي لَم نَعُد نَعتَني بزيتونِها.
عَمّي أصبَحَ يُدرِكُ التّغيّراتِ الّتي أَخَذَت تَعصِفُ بي مُنذُ فَترة. فمُعظَمُ الوقتِ يِحاولُ أن يَستنطِقَني ليعرِفَ ما حلّ بي، يجلِسُ مَعي طويلاً، يَصطَحِبُني في المَشاويرِ الّتي لَم تَعُد تَستَهويني. فحيناً يَظنّ أنّني مُغرَمٌ بفتاةٍ أو زَميلةٍ جامِعِيّةٍ، أو أنّني مُتورّطٌ بِشيءٍ ما، بِمُصيبة، لكنّني أبقى مُنغَلِقاً على نَفسي، أُفكّرُ بِكلِماتِه، بِخبرَتِهِ في الحياة، فأقول:
“أي صوت أبوي فيك يا عمّي، أيّ حِرصٍ تُبديه.. مُنذُ فقدت أبي لَم تُشعِرني بِغيابِه، كُنتَ الأب الّذي يُريدُ لابنِهِ أن يَكونَ أفضَلَ النّاس. تَقسو أحياناً، تَغضَب، لكنّك تعودُ الأبَ الحنون، فتحكي لي قِصصاً عَن كلّ موضوعٍ تَعتَقِدُ أنّه يُؤرقني. عن الحبّ تَروي قِصصاً حينَ تَظُنّ أنّني عاشِق، عن الابتزازِ تَحكي قِصصاً، عَن المُخدّرات عَن الإسقاط حينَ تَشعُرُ أنّي متورّطٌ في مُصيبة. آه كَم أرى فيكَ أبي”.
لا أدري إن كانَ اندِماجي في الطّبيعةِ يُسمّى العُزلة. مضت الأيّامُ وفي كلّ يومٍ أندَمِجُ فيها أكثَرَ فأكثَر.
كُنتُ جالِساً تَحتَ الشّجرةِ، وجدت أمامي فَجأةً سعيد!
(يتبع في العدد القادم)
ــــــــــــــــــــــــــــــ