
نبينا محمد ﷺ.. شهداً على شفتي سيلفا حنا
يونيو 17, 2025
الحج أعظم شاهد على المساواة في الإسلام
يونيو 17, 2025بقلم: جان بروا – كاتب فرنسي
هذه أكبر تعبئة تجتمع في العاصمة وتخرج منها فيالق وفيالق وعلى رأسها محمد. تعبئة لم تشهد مثلها جزيرة العرب من قبل ولم تسمع. ماذا يريد محمد من كل هذه الفيالق؟ لعله يحاول فتح العالم؟ أم أن هناك عدوًا حاشدًا له يريد أن يبادره؟ لا، لم يكن شيء من ذلك. إن حياة محمد قد أنهكها الجهاد الطويل والنضال، وهو الآن متعب يحتاج إلى الدعة والاستجمام قليلًا.
يريد أن يحجّ بالناس، والحج عبادة قديمة في جزيرة العرب من بقايا دين إبراهيم، ولكن دخلتْها الوثنية وغيّرت الكثير من معالمها، إلا أن محمدًا طرح كل ما أدخلته الوثنية وأرجع الحج إلى صفائه الخالص حين فرضه الله في الحنيفية القديمة.
تسعون ألفًا يؤمّون بيت الله ملبِّين نداء الله، أمواج كأمواج البحر، صافية صفاء اللؤلؤ والماس، قد نضرت وجوههم وصفت قلوبهم وطرحوا كل شهوات الدنيا وراء ظهورهم ومضوا في موكب رسول الله، تنفحهم أنوار السماء بعطورها، وتظللهم الملائكة بأجنحتها. تسعون ألفًا ينامون في ذي الـحُلَيفة، ويصبحون الصباح وإذا هم يطرحون كل آثار الناس وما يجعلهم يمتازون، يُحرِمون في لباس واحد، لا يمتاز به أمير عن مأمور ولا يستبين به سيد أو مَسود. الناس في شريعة الله “سواسية كأسنان المشط”، “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.
يتقدم محمد الحجيج ويَسوق الهدي والناس من بين يديه ينادون نداءه، طرحوا أسماء الآلهة القديمة وجعلوها تحت أقدامهم. خلت قلوبهم من تأليه شيء في السماء أو الأرض أو عوالم الفضاء وأجرامه غير الله الخالق لهذه الكائنات الواحد القاهر:
“لبيك اللهم لبيك! لا شريك لك لبيك. الحمد والنعمة والشكر لك لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك”.
كان محمد هو المثل الأعلى لتلك الجماهير والقدوة المحتذاة، يراقبون أعماله وحركاته وكل ما يفعل أو يتكلم به. إنهم يطوفون كما يطوف، ويصلون في مقام إبراهيم كما صلى، ويلثمون الحجر أو يشيرون إليه عند بدء الطواف كما فعل، ويسعون بين الصفا والمروة. ويقفون في عرفات كما وقف، ويستمعون إلى أكبر خطبة عالمية خالدة عرفتها الإنسانية منذ نشأتها إلى اليوم.
وقد مرّ على الإسلام ثلاثة عشر قرنًا والناس يتدافعون في كل عام على طائراتهم وسياراتهم وعلى مراكبهم المختلفة، من أوروبا الوسطى ومن الهند والصين ومن أعماق أفريقيا ومن أقصى بلاد الترك، من كل فج عميق، يؤدون فريضة الحج كما أداها محمد منذ ثلاثة عشر قرنًا. ولئن قادهم محمد في المرة الأولى بنفسه فإنه لا يزال يقودهم بروحه العالية الطهور، وبـمُثله الإنسانية العليا، وبأخلاقه الكريمة، واتساعه النادر.
وإن صوته الجهوري العريض لا يزال يدوي في مسامع الأجيال بنبراته المقدسة وأغراضه السامية ونداءاته الحرّة العالية، يوم وقفتْ به ناقته (القَصْواء) وهو يشير بيده إلى الجماهير معلنًا أنه لا يجتمع إليهم في هذا الموقف بعد هذا العام أبدًا. وهي معجزة من معجزات الوحي. وإنه ينادي الإنسانية جمعاء في هذه الخطبة، لا يخص بها أمة دون أمة، وأول شيء يقيم له وزنًا ومكانةً في الشريعة الإسلامية هو:
- حفظ الدماء والأموال: “وإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة شهركم هذا، في يومكم هذا، في بلدكم هذا”.
والنبي يؤكد لهم أنه يبلغ رسالة ربه إلى الإنسانية جمعاء، وأن هذا البلاغ سيصل إلى كل أذن ما دارت الأرض دورتها في هذا الفضاء: “ألا هل بلّغتُ؟! اللهم فاشهد”.
- ولما كانت الأمانة هي أمثل خصال الإنسانية وأنبلها على الإطلاق، طلب إلى الناس أداءها: “من كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها”.
- والربا، الربا الذي هدم المساواة الاقتصادية بين البشر وجعل الفجوات واسعة بين طبقات الأمة، وأرّث العداوات.. يضعه النبي تحت قدميه ويعلن للناس جميعاً: “وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به هو ربا عمي العباس بن عبد المطلب”.
- كما قضى على ثارات الجاهلية، وجعل حق العقوبة إنما هو للسلطة المركزية للدولة: “وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث”.
- وها هو ذا في موقفه يحكم بالإعدام على تقاليد الجاهلية ومآثرها: “وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية”.
- ثم يقيم لحفظ الأمن قواعد القصاص والعقوبات، فيجعل للقَوَد (أي: قتل العَمْد) دِيَة ولشبهة (ما قتل بالعصا والحجر). وحدّد دية الإنسان عامة مائة بعير، والذين يزيدون عن هذه الدية إنما هم جناة مجرمون يفرّقون بين أفراد الأسرة الإنسانية وهم من أهل الجاهلية.
- وإنه يبدي ثقته بأن الناس بعد معرفة روح العقيدة الإسلامية، لن يعبدوا دون الله أحدًا. وإن الشيطان قد يئِس أن يُعبَد في جزيرة العرب بعد اليوم، ولكنه رضي أن يُطاع في غير ذلك مما يحقّرون من أعمال.
- وحرّم العبث بالنصوص الشرعية، وتحويرها وتبديلها كما كانت الجاهلية تفعل في الأشهر الحرم، فإن شاءت أبقته وإن شاءت قدّمته أو أخرته. وإنه هو ذا يتلو عليهم: ﴿إِنَّمَا ٱلنَّسِیۤءُ زِیَادَةࣱ فِی ٱلۡكُفۡرِۖ یُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُحِلُّونَهُۥ عَامࣰا وَیُحَرِّمُونَهُۥ عَامࣰا لِّیُوَاطِـُٔوا۟ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٧].
- وإنه يعلن حق المرأة على الجماهير في هذا الاجتماع، وأن لهن حقًا كما أن للرجال عليهنّ مثل ذلك. نعم، يجب على المرأة أن تحافظ على عفتها، وأن تكون شريفة، لا يدخل بيت زوجها أحد يكرهه إلا بإذنه. كما حرم العضْل والهجر في المضاجع والضرب المبرح إلا إذا جاءت بفاحشة مبينة. كما أوجب للنساء على الرجال رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف. والمرأة لم تعُد سلعة كما كانت في الجاهلية تُباع وتشترى، بل إنها أُخذت بأمانة الله وعُقد النكاح بكلمة الله.
- وأخيرًا يستوصي بالنساء خيرًا، ويُشهد اللهَ بأنه بلغ ذلك إلى الأمة. وهنا يعلن الأخوّة الإنسانية وحفظ الحقوق، ويخاطب الناس جميعًا بقوله: “أيها الناس إن المؤمنين إخوة، ولا يحل مال أحد لأخيه إلا عن طِيب نفس منه”. ويعلن أن استباحة إراقة الدماء إنما هي من أعمال الكفار: “فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله”.
- وإنه ينسخ كل مفاخرات الناس وعنادهم، ويرجعهم جميعًا إلى الوحدة الحقيقية، وحدة العقيدة بالله ووحدة العنصر: “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى”.
وفي هذا اليوم العظيم نزلت عليه هذه الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3].
ــــــــــــــــــــــــ
* المصدر: جان بروا، محمد نابليون السماء، ترجمة: محمد صالح البنداق، (بيروت: دار الإنصاف، 1947م)، ص116 وما بعدها.