
الفرصة الضائعة لمن فاته الحج هذا العام
يونيو 16, 2025
صلى بلا طهارة ولا إسلام
يونيو 16, 2025بقلم: د. عبد العزيز الطريفي – فك الله أسره*
الحج: بفتح الحاء وكسرها؛ وبهذا جاءت القراءة في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت﴾ [آل عمران: ۹۷]، وأكثر القرّاء السبعة على الفتح، وأكثر العرب على الكسر.ومثل ذلك: «الحَجَّة»؛ فعلى الفتح هو: الفَعْلة من الحج؛ أي: مرة واحدة، وعلى الكسر هو: الفِعْلَة؛ أي: الهيئة والحالة، وهي: أعمال المناسك.
والحج معناه في كلام العرب: القصد؛ ومن ذلك قول الشاعر:
وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ** يَحُجُّونَ سِبَّ الزَّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وفرّق بعض أهل العربية بين الفتح والكسر؛ فقال سيبويه: المكسورُ: مصدر، واسم للفعل، والمفتوح: مصدر فقط، وقيل عكس ذلك.
والحَج عُرِّفَ في الشريعة بأنه: زيارة البيت الحرام في زمن مخصوص بأفعال مخصوصة.
والحج ركن من أركان الإسلام؛ كما في الحديث: “بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجَّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا”.
والحج فرضٌ فَرَضَهُ اللهُ على المستطيع القادر؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧].
حكم تارك أركان الإسلام أو بعضها
وهذه الأركان الخمسة أعظم دعائم الإسلام وشرائعه، فمن ترك شيئًا منها، فهو متردد بين الكفر وارتكاب الكبيرة، إلا أن تارك الركن الأول -وهو التوحيد- كافر بالله عزّ وجلّ بلا نزاع. وجمهور أهل العلم على أنه: لا يَكْفُرُ أحد ممن ترك الزكاة أو الصيام أو الحج وهو مُقِرٌّ بوجوبها بل هو مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل ويُبادِر، وهو باق على إسلامه.
ورُوي عن بعض السلف: أَنَّ مَنْ تَرَكَ ركناً من الأركان الخمسة فهو كافر بالله؛ فقد رُوِيَ ذلك عن سعيد بن جبير، ونافع، والحكَم، وإسحاق بن راهويه، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه، وهو قول ابن حبيب من المالكية.
حُكْمُ تارك الصلاة
ومَنْ تَرَكَ الصلاة، فقد أجمَعَ السلف الصالح على كُفْرِهِ؛ والأدلة على ذلك عن النبي ﷺ كثيرة، وكذلك عن الصحابة والتابعين؛ فقد أخرج الإمام مسلم، والتَّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ، وابن ماجه، من حديث أبي الزُّبَيْرِ، عن جابر؛ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: “بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشَّرْكِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ”.
كذلك قد أخرج الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ من حديث الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه؛ أنَّ النبي ﷺ قال: “العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ”.
وقد كان إجماع الصحابة -عليهم رضوان الله- قائماً على كفر تارك الصلاة؛ كما أخرج الإمام الترمذي في سُننه، والمَرْوَزي في (تعظيم قَدْرِ الصلاة)، عن بشر بن المفضّل عن الجُريري، عن عبد الله بن شقيق؛ قال: “كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يَرَوْنَ شيئًا مِنَ الأعمال تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصلاةِ”.
وقد أجمع التابعون على كفر تارك الصلاة؛ فقد أخرَجَ المَرْوَزي في كتابه (تعظيم قدر الصلاة) عن حَمَّاد بن زيد، عن أيوب بن أبي تَمِيمةَ السَّخْتِياني؛ قال: “تَرْكُ الصلاةِ كُفْرٌ، لا يُختَلَفُ فيه”.
وكذلك قد أخرج ابن جرير الطَّبَرِيُّ في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَوَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّا﴾ [مريم: ٥٩] من حديث الأوزاعي، عن موسى بن سليمان، عن القاسم بن مُخَيْمِرَةَ؛ قال في قولِ الله عز وجل: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾: “أضاعوها عن وَقْتِها، وإنْ كان تَرْكًا، كان كُفْرً”.
والخلاف في كفر تارك الصلاةِ إنما وقَعَ بَعْدَهم. وحكى الإجماع على ذلك جماعة، كإسحاق بن راهويه، ومحمد بن نصر المرْوزي، وغيرهما من أهل العلم على خلاف عند بعضهم في تفسير الكفر: فمنهم مَن حَمَلَه على الأكبَرِ ومِنهم مَن حَمَلَه على الأصغَرِ، والأَوَّلُ أَظهَرُ؛ إنْ كان الترك تركاً كلياً. وقد قال الإمام أحمد: “الإجماعُ إجماع الصحابة، ومن سواهم تبع لهم”.
حُكْمُ تَارِكِ الحَجِّ
واستَدَلَّ مَنْ قال بكفر تارك الحَجِّ بما رواه الترمذي، وابن جَرِيرٍ، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في (الشُّعب)، عن هلال أبي هشام، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث، عن عليّ بن أبي طالب له؛ قال: قال رسول الله ﷺ: “مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً، فَلَمْ يَحُجّ، مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]”. وفيه هلال؛ قال الترمذي: مجهول، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحفوظ، وقال البيهقي: تفرّد به هلال.
وله شاهد من حديث أبي أمامة، وقد أخرجه الدارمي، والبيهقي، وأبو نُعَيْمٍ في (الحلية) والرُّويَانِيُّ، عن شَرِيكِ، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله ﷺ: “مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنِ الحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا”. لكنه معلول؛ فمع ضعف رجاله، فقد أخرجه الإمام أحمد في (الإيمان) عن سفيان، وابن أبي شيبة، عن أبي الأحوَصِ سَلّامِ بن سُليم؛ كلاهما عن ليث، به. ولم يذكرا أبا أمامة.
واستُدل -أيضًا- بما رواه ابن جرير الطبري، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن إبراهيم بن مُسْلِم الهَجَرِي، عن ابن عياض، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ”، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرَّتَيْنِ أو ثلاثاً، فقال: “مَنِ السَّائِلُ؟” فقال: فلانٌ، فقال: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْكُمْ مَا أَطَقْتُمُوهُ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ”؛ فأَنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَسۡـَٔلُوا۟ عَنۡ أَشۡیَاۤءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ﴾ [المائدة: ١٠١]، حتى ختم الآية. ولا يَصِح هذا الحديث.
وبما روى البيهقي، وأبو بكر الإسماعيلي الحافظ، وأبو نعيم في (الحلية) من حديث أبي عَمْرٍو الأوزاعي: حدثني إسماعيل بن عُبَيْدِ الله بن أبي المهاجِرِ، حدثني عبد الرحمن بن غَنْمٍ؛ أنه سمعَ عُمَرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه يقولُ: “مَنْ أَطَاقَ الحَج، فَلَمْ يَحُجَّ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا”. وهذا إسناد صحيح إلى عمر؛ صححه ابن كثير وغيره.
وروى سعيد بن منصور في سُننه عن هُشيم عن منصور، عن الحسن البصري؛ قال: قال عُمَرُ بن الخطاب: “لقد هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إلى هذه الأمصارِ، فَيَنْظُرُوا إِلى كُلِّ مَنْ كان عندَهُ جِدَةٌ، فلم يَحُجَّ، فَيَضْرِبُوا عليهمُ الجِزْية، ما هم بمُسْلِمِينَ، ما هم بِمُسْلِمِينَ!”. وفي إسناده إرسال؛ فلا يصح من هذا الوجه.
وروى الواحدي في التفسير؛ من طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن مسعود، رَفَعَهُ: “مَنْ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يُحَجَّ عَنْهُ، لَمْ يُقْبَلْ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَلٌ”. وإسناده ضعيف جداً.
وروى اللالكائي، عن يعقوب الأشعري، عن ليث، عن سعيد بن جُبَيْرٍ؛ قال: “مَنْ تَرَكَ الصلاة متعمداً، فقد كَفَرَ، وَمَنْ أَفطَرَ يومًا مِنْ رمَضَانَ متعمداً، فقد كَفَرَ، ومَنْ تَرَكَ الحج متعمِّدًا، فقد كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَ الزكاة متعمداً، فقد كَفَرَ”. ولا يثبت هذا عن سعيد؛ لضعف إسناده.
ولا يصح في إثبات كفر تارك الحَجِّ حديث مرفوع، وصح ما ذكرنا عن عمر؛ وهو متأوَّل.
فضل الحج
وقد جعل الله عز وجل لهذا الركن العظيمِ مَزِيَّةً عظيمةً؛ حيثُ جَعَلَهُ مِن المباني التي يُبنى عليها الإسلام، وجعَلَهُ مِنْ أعظم مكفرات الذنوب. فقد أخرج الشيخان؛ من حديث منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي؛ أنَّه قال: “مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقُ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”.
وكذلك ما جاء عن النبي ﷺ في الصحيحين وغيرهما؛ من حديث مالك، عن سُميّ، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبي ﷺ أنه قال: “العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا، وَالحَج المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ”.
والمراد بالحج المبرور: الذي لا معصية فيه، وجيء به تام الأركان والواجبات.
وقيل: الذي لا يَعْقُبُهُ معصية. والأول أظهر وأقرب.
وبهذا الخبر احتَجَّ مَن قال بمشروعيَّةِ تَكرار العمرة في السنة الواحدة، ولو كانت العمرة مماثلةً للحج في السنة مرة لسوّى بينهما؛ وهذا قول الجمهور، خلافًا لمالك.
وكذلك ما أخرَجَهُ الإمام مسلم رحمه الله؛ من حديث يزيد بن أبي حَبِيبٍ، عن ابنِ شَمَاسَةَ المَهْرِيِّ، عن عمرو بن العاص، عن النبي ﷺ أنه قال: “الإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَالحَجُّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَالهِجْرَةُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا”.
فقرَن النبي ﷺ الحَجَّ بالهِجْرَةِ والإسلام.
السَّنَةُ التي شُرِعَ فيها الحج
والحج قد شَرَعَهُ اللهُ ﷺ فرضًا في السنة التاسعة -على الصحيح من أقوال أهل العلم- واختَلَفُوا فمنهم من قال: شُرعَ في السنة الخامسة؛ واستَدَلَّ بورود الحج في خبر ضِمَامِ بنِ ثَعْلَبَةَ، وقد ذكَرَ الواقدي أن قدومَ ضِمَامٍ كان سنة خمس. ومنهم من قال: شُرعَ في السنة السادسة، عام الحديبية؛ حيث نزَلَ فيها قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦]؛ وبهذا قال الجمهور، وقالوا: إنَّ المراد بالإتمام ابتداء الفرض؛ وبهذا فسره عَلْقَمَةُ، ومسروق، والنَّخَعِيُّ؛ قالوا: وَأَتِمُوا، يعني: «وأقيموا»؛ كما رواه الطبري، وغيره. ومنهم مَنْ قال: شُرِعَ في الثامنة. ومنهم مَنْ قال: شُرعَ في التاسعة؛ صححه القاضي عياض، والقرطبي، وغيرهما.
ـــــــــــــــــــــ
- عبد العزيز الطريفي، صفة حجة النبي ﷺ، ط: دار المنهاج، ط5، 1436هـ، ص33-41.