
نصرة غزة: فريضة شرعية وواقعية
يونيو 16, 2025
نحو منهجي حركي في قراءة السيرة النبوية (4)
يونيو 16, 2025بقلم: الشيخ حسن شباني – سفير الهيئة العالمية لأنصار النبيّ ﷺ كندا
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على النبيّ المصطفى، وبعد:
فبدايةً.. لا أخفي القارئ الكريم أو النّاظر في هذه المقالة أنّني وقعت لساعات طويلة في حيرة من أمري حول اختيار أنسب الألفاظ والعبارات؛ لأصف حجم الغطرسة والاستعلاء والعلوّ الكبير الذي يشهده المعسكر الصهيوني في هذه الأيام!
وذلك أنّني شعرت أنّ جميع الألفاظ التي تدلّ على الفخر والكبرياء الزائد عن الحدّ، والهوَسِ بالعظمة والاستكبار والعجرفة، لا تفي بالغرض في وصف الغطرسة العالمية التي يظهرها المعسكر الصهيوني في التطاول على المستضعفين في فلسطين أو من يناصر قضيتهم على مستوى العالم.
وأقصدُ بالمعسكر الصهيوني في هذه المقالة الكيان الصهيوني وحلفاءه وأدواته في الشرق والغرب، فهي شبكة عالميةٌ لا تخطؤها عينُ الناظر في قضايا السياسة والاقتصاد وقد انضمَّ إلى هذه الشبكة بعض بني جلدتنا ممن يحرصُ حرصاً شديداً على كرسيّ الحكم، ولو على حساب الدّين والمبادئ ودماء الأطفال والنّساء والمستضعفين داخل غزّة وخارجها.
إنّها أزمة عميقةٌ ترجعُ جذورُها إلى اليوم الذّي أطيح فيه بالسلطان عبد الحميد رحمه الله، ومروراً باتفاقيات (سايكس-بيكو)، ووعد (بلفور)، وقرارات الأمم المتحدة التي لا تغني ولا تُسمنُ من جوع، والانقلابات والتقلبات السياسيّة في عالمنا الإسلامي حتى وصلنا إلى هذه المسرحيات البائسة والمشاهد المؤلمة، التي تتشكّلُ من خلال عربدة الكيان الصهيوني واعتداءاته المتكررة على جيرانه العرب من غير رادع ولا مانع يدعوه إلى الكفّ عن ظلمه وجبروته، بالإضافة إلى مجازره وجرائمه في غزّة والتي يعجز اللسان عن وصفها.
وكذلك تتشكّل من خلال رعُونةِ ووقاحةِ الراعي الأوّل للمشروع الصهيوني في العقُود الأخيرة والمتمثل في دولة الولايات المتحدة الأمريكية. فهذه الدولة شريكةٌ في جرائم هذا الكيان وعربدته في المنطقة ولن تمحُوَ عارَ هذه الجرائم أخبارٌ صحفية عن سوء تفاهم عارضٍ وبسيطٍ بين ترامب ونتنياهو حول بعض التفاصيل.
لقد بلغت هذه الأزمة والمهزلة التي تعاني منها الأمّة هذه الأيّام قمّة الانحطاط والسّفالة خلال الجولة الترامبية في الشرق الأوسط، والتي شاهدها العالم بأسره في الأيام القليلة الماضية والتي بلغت فيها غثائية الأمّة أقسى صورها وأكثرها إيلاماً..
قد يقول قائلٌ: ما شاهدناه هو عينُ الواقعية السياسيّة التي ينبغي أن يتحلى بها الحاكم للحفاظِ على مصالح بلاده؟
والجوابُ في قوله تعالى: ﴿فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ﴾ [المائدة: ٥٢]، وهنا يمكنني أن أستثني أصحاب الضرورات من أهل سوريا الذّين استفادوا من هذه الجولة الاستعراضية لسيّد البيت الأبيض وما ذلك إلا بسبب ما يمرّون به من ظروف قاهرة خلفتها السّنوات العجاف للحكم البائد في بلادهم.
ولكنَّ الذّي يؤسف له، أن يتجوّلَ هذا الأرعنُ في عواصم المسلمين مزهوا بصفقاته التجاريّة والتي تجاوزت كلّ التوقعات في الوقت الذّي تدمّرُ فيه غزّة ويقتلُ أهلها بالعشرات أو المئات بأسلحة بلاده وأدوات التكنولوجيا المتطورة التي تُصدّرِها شركاتُ بلاده إلى الكيان الغاصب، ثمّ هو لا يجدُ غضاضةً أو مسحة من حياء ليتكلّم عن غزّة باعتبارها فرصة ثمينة للاستثمارات العقارية بعد تحويلها إلى وجهة سياحية في مستقبل الأيام..
لستُ متأكداً من أن العبارات التي استعملتها في هذا المقال تعبّرُ حقيقة عن درجات المرارة ومستويات الأسى التي يشعرُ بها الصّالحُون والمصلحون من أبناء هذه الأمّة في هذه الأيام، ولعلّ هذا غيضٌ من فيض والله المستعان على واقع الحال.
ولكن قبل أن يتسرّب اليأس إلى النّفوس أو الإحباط إلى قلوب المؤمنين، لابدّ من التذكير بسنن الله في التّعامل مع الأمم والجماعات، وذلك أن غطرسة المتكبرين عادة ما تكُون خاضعة لسنّة الاستدراج، وأنّ فسادَ المفسدين في الأرض لابُدّ أن يصطدم بسنن الله التي لا تتغيّر ولا تتبدّل، فقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا﴾ [الفتح: ٢٣].
فإذا رأيت أيّها القارئ اللَّبيبُ أنّ الله عزّ وجلّ يعطي شخصاً أو جماعةً من الدّنيا ويفتحُ لهم أبواب الإنجازات والعطايا وهم مُقيمون على المعاصي والظلم والفجور.. فاعلم أنّه استدراج.
فقد روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ قال: “إذا رأيتَ الله يعطي العبد من الدّنيا على معاصيه ما يحبُّ فإنّما هو استدراج” ثم تلا: ﴿فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰبَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَاۤ أُوتُوۤا۟ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤].
قد يقول قائلٌ إنّ هذا التّحذير الوارد في هذا الحديث لا علاقة له بالأمم والشعُوب والجماعات، وإنّما يتكلّم الحديث عن سنّة الله في التّعامل مع الأفراد لقوله ﷺ: “إذا رأيت الله يعطي العبد…”، والجوابُ أنّ هذا خطأٌ بيّن لأنّ سياق الآية التي استدلّ بها الحبيبُ ﷺ يدلّ على أنّ هذا الاستدراج سنّة ماضية في التّعامل مع الأمم قبل الأفراد، فقد قال الله عزّ وجلّ في الآيات التي قبلها بقليل: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمَمࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُمۡ یَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: ٤٢].
فسياق هذه الآية يدلّ على أنّ هذه سنة الله في خلقه وأنَّ مراحلَ الاستدراج قد مرّت بها أمم كثيرةٌ، يرسلُ الله إليهم رسائل التحذير على شكل عذابٍ دنيوي لعلّهم يرجعُون، وكما لا يخفى على أهل العلم أنّ الله يرسلُ هذه الرسائل الخطيرة إلى البشر لعلّهم يتضرعون أو يتوبون أو يرجعُون عن غيّهم وكفرهم وفجورهم، فإذا لم تحدث هذه التّوبة نقلهم الله عزّ وجلّ إلى مرحلة أخرى من مراحل الاستدراج.
وقد بيّن الله عز وجلّ هذه الحكمة من إرسال العذاب الأدنى في الآية التالية للآية السّابقة وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوۡلَاۤ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُوا۟ وَلَـٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٤٣].
وهنا أستسمح القارئ الكريم بأنّني سوف أبدأ بطرح بعض التساؤلات من غير أن أطرح إجابات جازمة واضحة المعالم، وأتركُ الأمر للمتوسمين والمعتبرين من القراء ليجيبوا على هذه التساؤلات:
هل تنطبق هذه الآيات على واقعنا الحالي في هذه الأيام وكذلك ما حصل في السّنوات القليلة الماضية؟ وهل كان فيروس كورونا الذي اجتاح العالم في فترة قصيرة بين سنتي 2019 و2021 للميلاد من البأساء والضرّاء التي يأخذُ الله عزّ وجلّ بها الأمم؟
قد يقول بعض النّاس أنّ ذلك الفيروس من صنع البشر ولا علاقة له بالابتلاءات الربّانية، والإجابة على هذا الادّعاء أنّ ذلك ليس مهماً في موازين القضاء والقدر، لأنّه وبكل بساطة لا يخرج شيءٌ في هذا الوجود عن قضاء الله وقدره، وربّنا لطيف لما يشاء يقدّر العقوبات والمصائب على وجوه مختلفة وبأسباب مختلفة كذلك.
إذن من المحتمل أن يكون وباءُ كورونا مرحلة من مراحل الاستدراج التي عاشها النظام العالمي في السنوات القليلة الماضية، ومعلوم أن البشر بعد هذه الكارثة التي حلّت بهم، لم يرجعوا إلى ربّهم ولم يتُوبُوا، بل إنّ النّظام العالمي الذي يسيطر عليه المعسكر الصهيوني يرتكب هذه الأيّام جريمة لا مثيل لها في العصر الحديث في أرض غزة وهذا الفسادُ العظيم والظلم الكبير يراه النّاس ويشاهدونه، مسلمهم وكافرهم، صباح مساء على شاشات القنوات الفضائية وشاشات الهواتف الذكيّة كذلك.
وهنا تنتقل بنا سنّةُ الاستدراج إلى مرحلة أخرى ذكرها الله عزّ وجلّ في الآية التي استدلّ بها الحبيب ﷺ في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المذكور سابقاً، وهذه المرحلة تتمثل في فتح أبواب الإنجازات والعطايا للظالمين والمنافقين، حتى إذا فرحوا فرح بطرٍ وعلّوٍ واستكبارٍ أخذهم الله بغتة فإذا هم مبلسُون؛ كما ورد في قوله تعالى السابق إيراده: ﴿فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰبَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَاۤ أُوتُوۤا۟ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]، والمعنى: أنّه لما تركوا ما أمِرُوا به من الإيمان والعدل والخير -وهذا معنى النسيان في هذه الآية الكريمة- فتحنا عليهم أبواب النعم والخيرات استدراجاً لهم، حتى إذا فرحُوا بهذه النعم والإنجازات فرحَ بطرٍ أخذناهم بعذابنا فجأة فإذا هم يائسون مكتئبون قانطون من كل خير.
فهل فتوحات التكنولوجيا في السنوات الأخيرة من هذا القبيل؟
وهل التكنولوجيا المتقدّمة التي أنتجت طائرات ف- 35، وأنتجت تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تستعمل بيد جيش العدو لقتل الأطفال والنساء وتدمير المساجد والمستشفيات.. فتح من فتوحات الاستدراج؟
والجواب أن من تدبر الآية 44 في سورة الأنعام وحديث عقبة بن نافع رضي الله عنه.. يخلص إلى نتيجة مفادها:
أنه إذا اجتمع أمران فالنتيجة واحدة لا تتغير، فالأمر الأول وجود الظلم والفجور والمعصية، والثاني تيسير الله للعبد أو الجماعة فتوح العطايا والإنجازات بدل العقوبة المباشرة على الذنوب، وعندها تكون النتيجة واحدة: وهي أن الله يأخذهم فجأة وهم في نشوة الاستعلاء والبطر والفرح المذموم!
والسؤال الأخير في هذا المقال: كيف سيكون هذا الأخذ؟ هل ستحل كارثة كبرى على النظام العالمي فيعجز عن حماية الكيان الغاصب وبالتالي يسهل على عبادٍ من عباد الله الدخول إلى المسجد الأقصى كما دخل من سبقهم في المرات السابقة أو المرة السابقة التي أشارت إليها سورة الإسراء؟
والجواب: أن نقول الله أعلم بما سيحدث في مستقبل الأيام، ولكن مما لا شك فيه أن الأيام والليالي حُبلى بما لا يحمدُ الظالمون عقباه!
﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف: ٢١].