
السودان على خطى سوريا وأفغانستان
فبراير 5, 2025
قَاوِم.. فإن لم تستطع.. فقاوم
فبراير 6, 2025بقلم: الشيخ محمد محمد الأسطل – من علماء غزة
لقد برزت هذه الثمرة في كثيرٍ من الجوانب.
ومن ذلك مثلًا: أنَّ كثيرًا من الناس كان يعتقدون في أنفسهم الصبر، فلما جاءت المعركة بشدائدها صاروا يمارسون السخط تحت عنوان الملل من الصبر، وبعض الناس سخط سخطًا منكرًا، وبعضهم صار يقع في السب والشتم ويعتاد ذلك في نهاره وليله، بل ووصل بعضهم إلى التلفظ بما هو كفرٌ والعياذ بالله.
وفي المقابل؛ فكثيرٌ من الناس استنفروا من أول الحرب، وشرعوا في إغاثة الناس، والعمل على حل مشكلاتهم بما تيسر:
– فهذا يُفرغ بياض نهاره للعمل على سقي الناس وتوفير الماء لهم ما أمكن.
– وذاك يفكر في علاج مشكلة عدم توفر الخبز فيهتدي إلى إنشاء الأفران لكل برجٍ أو لكل عددٍ معين من البيوت أو الخيام.
– وثالثٌ بدأ في تنفيذ فكرة (التكايا) التي تعد الطعام للناس في قدورٍ ضخمة تكفي المئات، حتى إن بعض التكايا كانت تطعم بضعة آلاف في كل يوم.
ورابع وخامسٌ وسادس… وقائمة أهل الفضل طويلة.
وإلى جانب هؤلاء وهؤلاء دخل بعضُ الناس في ظلمات السرقة أو قطع الطريق، أو ابتزاز الناس في الأسعار، وصار من الممكن أن ترى رجلًا يشتغل في المعبر -مثلًا- هو الذي يسرق نسبةً من السلع غصبًا من أصحابها.
وجزءٌ من معاناة الناس راجعٌ إلى تحكم بضعة تجار في أسعار السلع التي تُدخَل، فيقتاتون على معاناة الناس ويجمعون المبالغ الفلكية بما استطاعوا به من تحصيل بعض النفوذ الذي يمكنهم من رقاب الناس على شدةٍ فيهم ولأواء.
لقد صرنا كقمرٍ وجهه مقمرٌ مشرق والوجه الآخر قاتمٌ معتم، والخير وإن كان هو الأصل في الناس وهو الغالب إلا أنَّ الخبثَ كان كثيرًا.
وهذا جارٍ على سنة الله في الابتلاء؛ فالناس في الصبر وادعاء العفة والرجولة والكرم والأمانة والشجاعة والرحمة سواء، فإذا نزل البلاء تباينوا.
فالناس بطبيعتها لا تحب الحروب، ولكن الله يستخرج ما في النفوس عبر ما يشاء من الوسائل، كما قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179].
ولقد فشلٌ كثيرٌ من الناس في الاختبار الذي ما كانت نتائجه ستُرى للناس لو جاء النصر من أول يوم كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: 4].
وحين جاءت تسمية القرح الذي نزل بالمسلمين يوم أحد ذكر الله أربعة مقاصد للحروب فقال سبحانه: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 140-141].
– فلا بد أن يُعلم المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.
– وثمة عبادٌ لله أتقياء أنقياء أخيار أبرار، تليق بهم مرتبة الشهادة فتأتي الحرب فيصطفيهم ربهم شهداء، ويكفي أنهم على أيِّ حالٍ رحلوا أنهم صائرون إلى ربهم الكريم كما قال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 158]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: 198].
– وثالث المقاصد: التمحيص، فيُختبَرُ حالُ الإنسان في فرن البلاء.
– والمقصد الرابع: محق الكافرين، وإذلالهم بأيدي الذين آمنوا.
والمؤمن في المعركة إما أن يكون مجاهدًا وإما أن يكون صابرًا إن لم يتيسر له الانتظام في أيِّ عملٍ من أعباء الجهاد، ولا خيار ثالث للمؤمن، وهذا ثمن الجنة، وهو ما نطقت به الآية التالية لهذه المقاصد إذ قال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142].
فضيلة القارئ الكريم:
اعلم أنَّ لكل جيلٍ محطةً تربويةً يُختبرُ فيها في أفران البلاء، وهذا وإن لم يكن مطردًا إلا أنه غالبٌ أو كثير، ولم يخرج جيل الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك:
– فالجيل الأول الذي أسلم بمكة وكان مادةَ الإسلام الأولى اختُبِرَ في بطحاء مكة وشهد ما شهد من ألوان التعذيب والاضطهاد والاستهداف النفسي من التهكم والسخرية والازدراء.
– والجيل الذي أسلم بالمدينة -وهو الأنصار- كانت محطته التربوية الكبرى يوم أحد، حين حصل ما حصل بسبب المخالفة، والتي جعلت المجتمع ذا حساسيةٍ مرتفعةٍ من أي مخالفة.
ولهذا استثمر القرآن فرصة غليان المشاعر بالحديث في جوف الآيات التي تعقب على أحداث المعركة والتي بدأت بذكر قضايا عسكرية بدءًا من الآية 121 من سورة آل عمران بالحديث عن حرمة الربا، والتحريض على الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس -لا سيما أن المجتمع شهد ما شهد من المعارك الداخلية قبل الهجرة- وامتداح الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا ربهم وجلاله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا، ثم رجع السياق يتناول أمر المعركة وبعض مشاهدها وما فيها من دروسٍ وعبر.
فكأن الله أصلح المجتمع الإسلامي في يومٍ واحد، لتكون محطة أحد بظروفها وتفاصيلها وآثارها أعظم محطة تربوية في تاريخ الأمة الإسلامية، وهذا ما ذكرته بمزيد بيانٍ وبسط في كتاب “سياسة الخطاب” بما يشير إلى الفرق في حالة المسلمين بين ما قبل المعركة وما بعدها.
– والجيل الذي أسلم يوم الفتح ويبلغون ألفين أو ثلاثة اختُبر يوم حنين.
– والجيل الذي أسلم عقب تمكن النبي من ناصية الجزيرة العربية بعد فتح مكة وحسم أكثر مناطق القوة المتبقية، والذي دخل الناس على إثره في دين الله أفواجًا اختُبِرَ في غزوة العسرة غزوة تبوك، وما أدراك ما غزوة تبوك!
ولا شك أنَّ الجيلَ الذي جرَّب أكثر من محطةٍ تربويةٍ يكون أكثر إيمانًا وتماسكًا وإمامةً في الدين، ولهذا لم يسوِّ القرآن بين من أنفق من قبل الفتح وقاتل فكانوا أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا، وكلًّا وعد الله الحسنى.
ومنذ نشأة الكيان الصهيوني فكل جيلٍ من أجيالنا كانت له هزته التربوية وزلزلته وشدة الابتلاء الذي تعرض له.
والجيل الذي قبلنا كانت محطة تمحيصه عقب اتفاقية أوسلو والتي بلغت ذروتها سنة 1996 حين اجتهدت السلطة في ملاحقة كل مقاوم وزجه في السجن وتعذيبه واستئصال فكرة المقاومة للعدو من الساحة الفلسطينية تمامًا عقب الذي جرى من تدجين منظمة التحرير وعقد اتفاقية أوسلو التي جاءت إجهاضًا للانتفاضة الأولى والنَّفَسِ الثوريِّ الذي أحدثته.
أما هذا الجيل فأكثر أبنائه ترعرعوا في ظل إمكان حمل السلاح منذ اندلاع الانتفاضة سنة 2000، ثم ما حصل من انسحاب العدو الصهيوني من غزة سنة 2005، ثم ما حصل من الحكم بعد وصول حركة حماس إلى السلطة، وهو ما مثَّل لكثيرٍ من الناس وجهًا من وجوه المنفعة من مثل الوظائف وتسلم شيءٍ من المناصب.
وأحسب أنَّ هذه المعركة جاءت محطةً تربويةً فاصلة تُظهِرُ من وقف بالثغور الفاضلة ابتغاء ما عند الله أو طلبًا للدنيا والمنفعة وما عند الناس.
ولهذا وجدنا كثيرًا من الموظفين وأصحاب المناصب يلزمون مواقعهم وخنادقهم يجاهدون في سبيل الله، ويجودون بأنفسهم وأهلهم، ووجدنا بعض الانتفاعيين الذين وفرت الحرب لهم وجهًا جديدًا من المصالح الشخصية والتحصل على أكبر قدرٍ من المال.
وذلك أنَّ الحروب في العادة تصنع أجواءً يكثر فيها المنتفعون؛ كالذي يشتغل بتهريب السلع أو ما تيسر من الذخيرة، والذي يشتغل بالحوالات المالية واقتطاع نسبة جنونية استغلالًا لشدة الحاجة، والذي يشتغل بالتأمين للشاحنات إلى غير ذلك مما يمكن تسميته باقتصاد الحروب، وهو ظاهرةٌ قد ينبني عليها آثارٌ خطيرةٌ في بعض الأحوال، وتستحق أن تُفرد بكلامٍ إلا أنَّ المقامَ ليس لها.
والمعركة -أعني طوفان الأقصى- عمَّقت فينا مفهوم سنة الابتلاء على الناحية التربوية، وعمَّ هذا العامَّةَ والخاصة، ولم يسلم النُّخَب العلمية أو الدعوية أو السياسية أو العسكرية من هذه الهزة التربوية تحت وطأة شراسة القصف.
وقد كان من الميسور جدًّا أن يتصورَ الرجلُ في نفسه الثبات والجلد حدَّ الاستماتة على ذلك، وهو الذي كان من قبلُ يذكر نماذج الإمام أحمد وابن تيمية والعز بن عبد السلام في الصلابة زمن المعارك والفتن، ولكن بأس المعركة أوقف الإنسان على مقدار ما عنده من قوةٍ ومقدار ما عنده من ضعف.
ولهذا فإني أتفهمُ الحالةَ النفسيَّةَ لدى بعض الأفراد -وهم قلة- من النخب الذين بلغت بهم الحالة أن يطالبوا القادة بضرورة إيقاف المعركة تحت أي ثمنٍ ولو كان هو التنازل والاستسلام، وذلك تحت عنوان: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وشدائد المعركة كأنها أذهلتهم عن أنَّ الخطاب الذي يُقال قبل المعركة ليس هو الخطاب الذي يُقال والمعركةُ قائمةٌ حاميةُ الوطيس، أمرها لم يعد بيد المقاومة وحدها؛ بل بيد العدو كذلك كما لا يخفى.
وبعد هذه الهزة التربوية والانكشاف أمام الذات صار من كان يعاني شيئًا من الضعف مع توالي أيام المعركة وطولها أكثر استيعابًا وتماسكًا وإيمانًا، وصار من الممكن أن تسمع من يقول: إننا قد جربنا البأس الدولي، ورأينا النظام الدولي -ممثلًا بالولايات المتحدة وكثيرٍ من الدول الأوربية الكبرى- يفتك بنا بكل ما استطاع، ومع عشرات المليارات المقدمة و650 ألفًا من جنود العدو يقاتلون ضدنا إلا أنَّ هذا الشعب بقي مرابطًا ثابتًا، والمجاهدون ما زالوا يؤدون عملياتهم الجهادية ويثخنون في قوات العدو دون أن يختلف أداؤهم، بل ربما شهدت الأشهر الأخيرة زيادةَ بأسٍ في عددٍ من المناطق بفضل الله تعالى.
فماذا بقي في جعبة النظام الدولي أن يفعله أكثر مما فعله بنا؟!
وها هو العدو يعلن عجزه حين يتحول إلى جبهة لبنان بعد أن انسحب من أكثر المناطق في غزة، ورأى أنَّ هدمَ البيوت لا يعني هدم عزائم أصحابها.
والمقصود الذي أريد: أنَّ إحدى أبرز الثمرات التي خرجنا بها بعد الأحداث الضخام هي:
– الانكشاف أمام الذات.
– ومعرفة مقادير القوة ومقادير الضعف، سواء على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع والبلد.
– والدراية بحال العدو، ومعرفة غاية ما يمكن أن يفعله مستندًا إلى القوى العالمية.
– وأنه قد ظهر لنا أنَّ المسلم المتصل بالله يمكن أن يعاند قوى الكفر العالمية ولو اجتمعت، ويمكن أن يتحمل ضراوة المعارك وشراستها ولو اشتدت وعظمت.
– وأن الشاب البسيط الذي ربما كان قبل المعركة يعاني التقصير والسيئات قد وجدناه أسدًا في المعركة، يصبر الأشهر الطويلة في الأنفاق تحت الأرض على ما في المقام فيها من شدةٍ ومرضٍ خاصة للبُعد الطويل عن الشمس، وإذا وصل العدو إلى حيث هو فإنه يخرج أمام جموع الدبابات وتحت أزيز الطائرات يضرب ويثخن بجنود العدو، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
ومن الطريف أننا كنا نردد دائمًا أنَّ العدوَّ لا يحتمل معركةً طويلة، وربما بنينا عقيدتنا القتالية على ذلك، وما أظن قادة المعركة زادوا في تقديرهم لمدة المعركة عن ستة أشهر؛ فهمًا منهم لطبيعة العدو وعقيدته القتالية، لكننا اكتشفنا أننا فعلًا لا نحتمل المعارك الطويلة!
وفي هذا المقام يُذكرُ أسودُ الأفغان ورجال طالبان الذين أظهروا أنموذجًا عملاقًا في معاندة الولايات المتحدة عشرين عامًا حتى أخرجوها ذليلةً من أرضهم كما أخرجوا الاتحاد السوفيتي وبريطانيا من قبل.
ولكن طول المعركة عندنا وكونها من الأمر الذي لا يمكن دفعه قد أخرج ما في الناس من قوةٍ مكتنزةٍ، وظهر منهم الجلد والثبات، حتى صرنا أكثر استعدادًا لتحمل شدائد المعركة وطول مدتها بما لم يكن يخطر لأحدٍ على بالٍ قطعًا.
ولم يقف الأمر عند مجرد التقبل النفسي لطول المعركة والتفاعل مع أحداثها على هذا الأساس؛ بل بدأت الجهود في ترميم القوة وإعادة تفعيل المُقدَّرات، حتى إنَّ الصحف الصهيونية قد نشرت غير مرة أن المجاهدين استطاعوا تنظيم صفوفهم وترتيب العُقَد القتالية وترميم عددٍ من الأنفاق، وهذا كله قد حصل في ظل أجواء المعركة وشدائدها، وحركة الطائرات التي تراقب كل حركةٍ وسكنة، وما كان هذا ليكون -والله- إلا بفضلٍ عظيمٍ كريمٍ من الله رب العالمين.
وعلى هذا؛ فإني أحسب أن جزءًا مهمًّا من الشدة التي عانها الناس أول المعركة كانت لانعدام الاستعداد النفسي للمعركة بسبب السرية الهائلة التي كانت تتطلبها عملية السابع من أكتوبر.
وأما ما يتعلق بالثمرات المادية للمعركة والتي يندرج فيها عودة العافية للناس في أرزاقهم وإصابة شيءٍ من الرخاء فهذا في المعركة مفقودٌ كما لا يخفى.
وفي ظني أنَّ المعركة حين تنتهي سيمتد العناء قليلًا عقبها؛ ليُظهِرَ العدوُّ لنا أن المعارك مُرَّةُ العواقب، ولكن بعد ذلك ستتكون هيبةٌ وهالةٌ لهذا البلد، ويصبح مهاب الجانب، ويخشى العدو أن يستفزه لئلا يعيد الكرة من جديد، ومن ثم سيكون فرجٌ اقتصاديٌّ كريم.
هذا والله أعلم، وهو سبحانه ﴿الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28].