
ما هانت غزة وما ضعفت ولا استكانت
مارس 12, 2025
مغالطة وسائل الإعلام في تصوير العظماء (1/2)
مارس 12, 2025شهادات العلماء والرُّهبان والمثقفين عبر العصور (1/2)
أ. د جمال بن عمار الأحمر الأنصاري – رئيس لجنة الإفتاء برابطة علماء المغرب العربي
نبوة محمد بن عبد الله ﷺ موضوع أثار اهتمام المفكرين والعلماء من مختلف الخلفيات الدينية والثقافية عبر العصور. ولكن، هل يمكن إثبات نبوته ﷺ بأدلة عقلية وتاريخية واعتقادية؟
هذا المقال يهدف إلى تقديم أدلة متعددة الأوجه وأدلة جزئية تشهد على جوانب من نبوته ﷺ، وتثبت أن محمدًا ﷺ هو رسول من عند الله، بالاستناد إلى الأدلة العقلية، وسيرته الشخصية، وتأثير عمله، بالإضافة إلى أدلة من الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل)، وأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية.
ومن ذلك أدلة أخرى من أقوال المستشرقين، ورجال الكنيسة، واليهود، ورجال البوذية، والهندوسية، والبراهمانية، والجينية، والكونفوشيوسية، والملحدين، والأدباء، والشعراء، والمؤرخين، وعلماء الاجتماع، وعلماء الفلك، والفيزياء، والكيمياء، والطب، والطبيعة عموماً، بالإضافة إلى شهادات النساء العالمات في تخصصات مختلفة، والنساء العابدات في عقائد مختلفة، والنساء المثقفات في مختلف المجالات المعرفية والحياتية.
هذه الشهادات تأتي من أشخاص ذوي جنسيات مختلفة وعصور متباينة، مما يعكس الاعتراف العالمي بحقيقة رسالته؛ فالإيمان بنبوة محمد بن عبد الله ﷺ هو أحد أركان الإيمان الست في الإسلام، وهو قضية محورية في العقيدة الإسلامية.
1- الأدلة العقلية
استحالة أن يكون محمد ﷺ مؤلف القرآن: القرآن الكريم هو معجزة محمد ﷺ الخالدة، وهو كتاب يحتوي على علوم وأحكام وأخبار غيبية لم تكن معروفة في عصره. من المستحيل أن يكون رجل أمي في بيئة بدوية مثل مكة قادرًا على تأليف كتاب بهذا العمق العلمي والأدبي. القرآن تحدى العرب، الذين كانوا فصحاء وبلغاء، أن يأتوا بمثله، فعجزوا. هذا التحدي لا يزال قائمًا حتى اليوم.
التناسق بين العلم والقرآن: القرآن الكريم يحتوي على إشارات علمية لم تكن معروفة في القرن السابع الميلادي، مثل مراحل تطور الجنين في الرحم، ودورة الماء في الطبيعة، وتوسع الكون. هذه الحقائق العلمية اكتُشفت حديثًا، مما يدل على أن القرآن ليس من صنع بشر، بل هو وحي من الله.
المنطق في دعوته: دعوة محمد ﷺ تقوم على توحيد الله وعبادته وحده دون شريك، وهي فكرة منطقية تنسجم مع الفطرة الإنسانية. لو كان محمد ﷺ يهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية، لكان من الأسهل له أن يتبع طريق قومه في عبادة الأصنام بدلًا من تحمل الاضطهاد والمشقة في سبيل دعوته.
2- الأدلة من سيرته الشخصية
الصدق والأمانة: قبل البعثة، عُرف محمد ﷺ بين قومه بـ”الصادق الأمين”. حتى أعداؤه لم يشككوا في صدقه، مما يدل على أن شخصيته كانت تتسم بالنزاهة والاستقامة. هذه السمعة الطيبة تجعل من المستبعد أن يكون قد اختلق دعوى النبوة.
التضحية والفداء: تحمل محمد ﷺ وأصحابه أشد أنواع العذاب والاضطهاد في سبيل دعوته. لو لم يكن مقتنعًا بحقيقة رسالته، لما تحمل كل هذه المصاعب. بل إنه عُرض عليه المال والملك مقابل التخلي عن دعوته، فرفض، وحاله تدل على أنه لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره على أن يترك أمر الإسلام ما تركته!
تواضعه وحكمته: على الرغم من قيادته لأمة كبيرة، ظل محمد ﷺ متواضعًا يعيش حياة بسيطة فيها صلاة وصيام وذكر وعبادة وجهاد. وكان يقضي وقته في خدمة الناس وتعليمهم، ولم يسعَ إلى التملك أو الترف. هذا السلوك يتناقض مع طموحات الشخصيات السياسية أو الدينية الكاذبة.
3- الأدلة من تأثير عمله
تحول العرب من قبائل متفرقة إلى أمة موحدة: قبْل الإسلام، كانت الجزيرة العربية تعيش في حالة من التفرق والصراعات القبلية. جاء محمد ﷺ بدعوة التوحيد، فوحّد العرب تحت راية الإسلام، وأسس دولة قائمة على العدل والمساواة. هذا التحول التاريخي لا يمكن تفسيره إلا بوجود قوة إلهية وراءه.
انتشار الإسلام في العالم: في غضون عقود قليلة من الزمان، انتشر الإسلام من الجزيرة العربية إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا. هذا الانتشار السريع لم يكن نتيجة للقوة العسكرية فقط، بل كان بسبب قوة الرسالة التي حملها محمد ﷺ، والتي أثرت في قلوب الناس وعقولهم، ولم ينحسر الإسلام عن الأراضي التي دخلها إلى حد الساعة.
تأثيره في الحضارة الإنسانية: أسس محمد ﷺ نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا وقضائيًا كان أساسًا للحضارة الإسلامية، التي قدمت للعالم إسهامات كبيرة في العلوم والفلسفة والفنون. هذا التأثير الحضاري يدل على أن رسالته كانت ذات طابع عالمي وإلهي.
4- الأدلة من (التوراة والإنجيل)
البشارة بمحمد ﷺ في التوراة: جاء في (سفر التثنية، الإصحاح 18: 18-22)، أن الله قال لموسى: “سأُقيمُ لهُم نبـيًّا مِنْ بَينِ إخوتِهِم مِثلَكَ وأُلقي كلامي في فمِهِ، فيَنقُلُ إليهِم جميعَ ما أُكَلِّمُهُ بهِ. وكُلُّ مَنْ لا يسمَعُ كلامي الّذي يتكلَّمُ بهِ باسْمي أحاسِبُهُ علَيهِ».
قال في تفسيرها (أ. حلمي القمص يعقوب) في (كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها -العهد القديم من الكتاب المقدس-) ما يأتي:
“(مثلَك): أي مثل موسى وهي لا تنطبق إلاَّ على النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولا تنطبق على عيسى عليه السلام بأي حال من الأحوال للأسباب الآتية:
“أ – لقول سفر التثنية “ولم يَقُم بَعدُ نَبيٌّ في إسرائيلَ مثلَ موسى” (تثنية 34: 10)، وعيسى عليه السلام من بني إسرائيل، وترجمتها في التوراة السامرية “ولا يَقومُ أيضًا في إسرائيلَ كمُوسى” فهي إذًا لا تنطبق على موسى أو أي نبي آخر من نسله…
“ب – محمد ﷺ كان نبيًا، رسولًا، صاحب شريعة، قاضيًا، محاربًا، زوجًا، أبًا، مات ميتة طبيعية، ولم يُهن، أو يُبصق في وجهه، دُفن ولم يُبعث بعد ثلاثة أيام، ولم ينزل إلى الجحيم، ولم يتحمل خطايا البشر، وكل هذا لا ينطبق على عيسى بأي حال من الأحوال».
وهكذا، فإن هذه النبوءة -بشهادة بعضهم- تشير إلى محمد ﷺ، الذي جاء من نسل إسماعيل، وهو أخو إسحاق، جد بني إسرائيل.
البشارة بمحمد ﷺ في الإنجيل: جاء في (إنجيل يوحنا، الإصحاح 14: 16)، أن المسيح قال: “وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ». كلمة “معزّي” في اليونانية الأصلية هي “باراكليتوس”، والتي يمكن أن تُترجم أيضًا إلى “أحمد”، وهو اسم من أسماء محمد ﷺ.
صفات النبي الموعود: التوراة (العهد القديم) تصف النبي الموعود بأنه سيكون مثل موسى (تثنية 18: 18)، وسيأتي من بلاد فاران (تثنية 33: 2)، وهي منطقة قريبة من مكة. هذه الصفات تنطبق على محمد ﷺ، الذي جاء بشريعة تشبه شريعة موسى، وكانت بداية دعوته في مكة.
وهذه البشارات المتوالية من المسيح بهذا النبي المنتظر، ينفرد بها إنجيل يوحنا؛ إذ جاء فيه أن المسيح عليه السلام وعظ تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم يقول: “متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنكم معي في الابتداء. قد كلَّمتُكم بهذا لكي لا تعثُروا، سيُخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يَقتلكم أنه يقدم خدمة لله. قد ملأَ الحزنُ قلوبَكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خيرٌ لكم أن أنطلِق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتِيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة؛ أما على خطية: فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر: فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة: فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روحُ الحق، فهو يرشدُكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجِّدني؛ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم». (يوحنا 15/26 – 16/14).
وللمقال بقية في العدد القادم إن شاء الله..