
في ذكرى طوفان الأقصى الثانية:خطيئتان وقع فيهما مجاهدو غزة!
أكتوبر 7, 2025
عشرات المستوطنين يقتحمون الأقصى في عيد العُرش
أكتوبر 7, 2025عماد إبراهيم
مدير مشروع بصيرة الدعوي
يَا أُمَّةَ الحَقِّ إِنَّ الجُرْحَ مُتَّسِعٌ … فَهَلْ تُرَى مِنْ نَزِيفِ الجُرْحِ نَعْتَبِرُ؟!
مَاذَا سِوَى عَوْدَةٍ لِلَّهِ صَادِقَةٍ … عَسَى تُغَيِّرُ هَذِهِ الحَالَ وَالصُّوَرُ!
عَسَى يَعُودُ لَنَا مَاضٍ بِهِ ازْدَهَرَتْ … كُلُّ الدُّنَا وَاهْتَدَى مِنْ نُورِهِ البَشَر
الحمد لله معز أوليائه المؤمنين، وناصر المستضعفين ومعلي راية الدين، وقاهر المتجبرين، والآمر بالجهاد في سبيله إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على من أعلى الله منار الإسلام بسيفه، نبينا وقدوتنا وقائدنا محمد ﷺ إمام المجاهدين وخاتم الأنبياء والمرسلين.
إنّ الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم والذي ينخر في جسدها، يكشف عن حالة من الضعف والهوان أمام أعدائها لم يشهدها هذا الجيل من قبل كالذي يجري الآن في فلسطين الحبيبة، الجريحة، المخذولة –قلب العالم الإسلامي– نشاهد آلة الحرب الهمجية تنهش في جسد الأمة وتنتزع منه جزءًا غاليًا، بينما يقف بقية الجسد متفرّجًا، لا يكاد يتداعى كما يفترض في جسدٍ واحد إذا اشتكى منه عضو، فالأصل أن تسهر له الأعضاء الأخرى وتحمي. لكن المسلمين –للأسف– غفلوا عن هذه الحقيقة، وتراكمت عليهم أسباب الضعف وبلغوا من الوهن ما بلغوا، حتى صاروا يعيشون حالة فريدة من الانكسار التاريخي والحضاري.
لقد مرت بالمسلمين فترات من الترف والاسترخاء أنستهم رسالتهم وواجبهم، وغفلوا عن الدور المنوط بهم في حمل الدعوة وبناء نهضة أمتهم وحراسة الدين الذي هو مصدر قوتهم وعزتهم، فركنوا إلى الدنيا وأخلدوا إلى الفتور، وغفلوا عن السنن الكونية والاجتماعية التي تضبط مسيرة الكون وحركة البشرية. فحق عليهم قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]. قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : “هذا تهديد وإعلام من الله”، بينما وصف شهيد الظلال الأستاذ سيد قطب –رحمه الله– هذا المشهد بقوله: “إنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان، وأحس بكرامته على الله، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم. ويمشي في الأرض بسلطان الله في قلبه، ونور الله في كيانه، ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه.. وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه ويطرد من الكنف”!
إن تاريخ الأمة مليء بالدروس التي تثبت أنّ المسلمين تعرضوا لأزمات مشابهة عبر العصور. ففي أوقات كثيرة تكالب عليهم الأعداء من الشرق والغرب، وغزوا بلادهم، واستباحوا خيراتهم وأعراضهم، بينما أصاب الوهن قلوبهم. وما نراه اليوم ليس إلا حلقة جديدة من تلك السلسلة. فقد أخبرنا رسول الله ﷺ قبل عشرات القرون بما نشهده الآن، حين قال: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”. فقال قائل: أوَمِن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال ﷺ: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن”. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال ﷺ: “حب الدنيا وكراهية الموت”.
نَحْنُ سَاعَدْنَا الأَعَادِي … بِالتَّوَانِي وَالرُّقَادِ
لَوْ رَأَوْا صَفًّا قَوِيًّا … مُسْتَعِدًّا لِلْجِهَادِ
لَأَنَابُوا وَاسْتَجَابُوا … ثُمَّ ثَابُوا لِلرَّشَادِ
غَيْرَ أَنَّ الضَّعْفَ يُغْرِي … كُلَّ عَادٍ بِالتَّمَادِ
وإذا تأملنا في معنى “غثاء السيل” فإن به جملةً من أسباب الضعف والخور، حيث يختصر بدقة الحالة التي نراها اليوم؛ فهو ما تحمله السيول من رغوة هشة لا وزن لها ولا رابط يجمعها. فلا بوصلة لها، ولا اتجاه، ولا وحدة، إنما تسير حيثما اندفعت المياه. وهكذا أصبح حال كثير من المسلمين: كثرة عددية هائلة بلا تأثير فعلي، كتل بشرية بلا مشروع جامع، أمة فقدت فاعليتها الحضارية رغم امتلاكها الكثير من مقومات القوة.
تلوح في الأفق حالة من اليأس والرجاء لا يغفل عنها كل ذي لب، حالة تسيطر على مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. فمن جهة، يتألم المسلمون وهم يتابعون خريطة واقعهم السياسي المتشرذم؛ دولٌ متناحرة، وصراعات داخلية، وتبعية مُهينة للقوى الكبرى. ومن جهة أخرى، لا يزال في القلوب بارقة أمل بأن تعود للأمة عزتها وريادتها كما كانت في عصور سابقة. لكن المؤلم أن هذا الانكسار لم يقف عند حدود السياسة، بل انسحب إلى ميادين الثقافة والعلم والاقتصاد. ويسبق كل ذلك منعطف خطير يتمثل في فقدان للهوية وأزمة أخلاقية طاحنة، فالأمة التي قادت البشرية يومًا، أصبحت اليوم في ذيل القافلة، تعاني من تخلف معرفي، وجمود ثقافي، وأزمة أخلاقية خانقة.، مما يترك في القلب والنفس آثاراً سلبية تدفع الكثير إلى قنوط مزموم، وفتور لا يليق بخير الأمم.
وقد حذر القرآن الكريم من هذه الحالة فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]. فهذه الخيرية مشروطة بالقيام بالواجب، فإذا تخلّت الأمة عن أمر الله، فقدت خيريتها، وصارت عبرة بين الأمم. وقد عبّر أبو الدرداء رضي الله عنه عن هذا المعنى حين بكى يوم فتح قبرص، فقيل له: أتبكي يوم أعز الله فيه الإسلام؟ فقال: “ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هم أمة قاهرة ظاهرة، فلما تركوا أمر الله صاروا إلى ما ترى”. وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فما خشيه أبو الدرداء أصبح واقعاً نعيشه اليوم.
والسؤال الملحّ اليوم: هل أصبحت أمة المليارين فعلًا ” أمة الغثاء؟!” أم أنّ هناك أملًا حقيقيًا في استعادة دورها الريادي؟
الجواب يكمن في حقيقة أشار إليها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “نحن أمة لا ننتصر بالعدة والعتاد، ولكن ننتصر بقلة ذنوبنا وكثرة ذنوب أعدائنا”. فالقوة العسكرية والاقتصادية وحدها رغم أهميتها لا تصنع النصر، وإنما النصر الحقيقي ثمرة الطاعة لله والالتزام بشرعه. وكلما اقتربت الأمة من دينها علت مكانتها، وكلما ابتعدت عنه انكسرت وأصابها الذل والهوان. ولعل في هذا اختصاراً وإجمالاً فريداً لأسباب الريادة والسقوط في آن واحد.
إن إعادة قراءة تاريخ أمتنا بتأنٍ وروية لاستخلاص العبر وإيجاد الدواء لأمراض أمتنا العضال، ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة شرعية لفهم أسباب القوة والضعف. فقد قامت حضارتنا على أسس راسخة من العقيدة والقيم العليا الحاكمة التي أعطت لهذه الأمة خيريتها وريادتها بين الأمم. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران 110]. تلك القيم التي حافظت على هوية المجتمع ووحدته وتماسكه وولائه وانتمائه من العبث. تلك القيم العقدية التي حررت الفكر والروح فامتد الإسلام نتيجة لهذه العقيدة وقيمها ونظامها وتلبيتها للفطرة البشرية وجعلت من المسلمين أمة واحدة وجسداً واحداً، وحققت الاستقرار النفسي للفرد وجعلته مستعداً للتضحية في سبيل الله، وأسهمت بتماسك المجتمع وحققت التكافل الاجتماعي فيه والريادة بين الأمم لتصبح النموذج والقدوة.
وِحْدَةُ الفِكْرِ القَوِيـمِ … وَوِحْدَةُ الهَدَفِ النَّبِيلِ
وَبِنَاءُ جِيلٍ مُؤْمِنٍ … وَهُوَ الصَّوَاعِقُ وَالفَتِيلُ
بِكَتَائِبِ الإِيمَانِ جَنْبَ … المُصْحَفِ الْهَادِي الدَّلِيلِ
وفي خضم أزمتنا الراهنة وفي ظل ما تعيشه أمتنا وما تواجهه من نوازل كبرى، يجب أن ندرك أنّ العلاج لم ولن يكون أبداً بالانبهار بالغرب، ولا بالتبعية العمياء للنظم المادية، وإنما بالعودة إلى الجذور العقدية الصافية لديننا الحنيف، وإحياء المنهج الرباني في حياة الفرد والمجتمع. فإنه لن ينصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، فتعود الحضارة الإسلامية لسابق عهدها في الريادة والقيادة والنهضة الحقيقية لن تقوم إلا إذا عادت الأمة إلى قرآنها وسنة نبيها، واتبعت سيرة سلفها الذين ملأوا الأرض عدلًا ونورًا.
ولقد عبّر شهيد الظلال الأستاذ سيد قطب –رحمه الله– عن هذه الفكرة بعمق في كتابه (المستقبل لهذا الدين) حين قال: “الحضارة هي ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية”.
فالحضارة الإسلامية لم تكن مجرد عمران مادّي أو تقدم صناعي، بل كانت مشروعًا إنسانيًا شاملًا، قدّم للإنسانية نموذجًا متفردًا يجمع بين الإيمان والعلم، بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع.
إن جوهر الحضارة يتمثل في تلك العلاقة المتوازنة التي يقيمها الإنسان مع ربه، ومع بني جنسه، ومع البيئة التي يعيش فيها. وكلما ارتقت هذه العلاقات ارتقى الإنسان حضاريًا، وكلما فسدت انهار. وإذا نظرنا إلى كثير من الدول التي تُصنّف اليوم “متحضرة”، نجد أن تقدمها المادي يقابله إفلاس أخلاقي وقيمي، حتى فقد الإنسان فيها سعادته الداخلية. بينما الحضارة الإسلامية –بفضل منهجها الرباني– هي الوحيدة التي نجحت في الجمع بين الأبعاد الثلاثة، فاستحقت الريادة والرقي والتفرد عن غيرها من الحضارات المنقوصة.. فحضارة الإسلام لم تكن تهتم بالمسلمين فحسب بل كانت رحمة للعالمين يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
لقد مرت بديار الإسلام في تاريخها الطويل أزمات وأزمات، وحلت بها بلايا ونكبات، وفي كل مرة تخرج هذه الأمة من مآزق كبرى أصلب عوداً، وأشدُ إيماناً. إن أمتنا قد تمرض لكنها لا تموت، تتعثر لكنها لا تقعد، نحن أمة لا تيأس.. ولا تلين.. ولا تستكين، والخير فيها باقٍ إلى يوم الدين. وجل ما نحتاجه اليوم، هو لحظة صدق مع الله، فهو طوق النجاة. لحظة تعيد ترتيب الأولويات، وتحيي في القلوب معنى الجهاد والتضحية والفداء. فإذا تحقق ذلك، عاد لنا النصر والعزّة، كما تحقق لأسلافنا الذين صدقوا الله فصدقهم. أما إذا بقينا أسرى حب الدنيا وكراهية الموت، فلن يزيدنا الزمن إلا ضعفًا ووهناً، ولن نجد لنا مكانًا بين الأمم، وستلعننا الأجيال القادمة. ولنعلم علم اليقين، أنه لا عز لنا إلا بالإسلام فمتى ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وإذا ما تركنا الجهاد كتب الله علينا ذلاً لا ينزعه حتى نرجع إليه. فهذا هو السبيل، ولا سبيل سواه.
رَبَّاهُ فَامْنَحْنِي الشَّهَادَةَ مُقْبِلًا … فِي مَوْكِبِ الإِيمَانِ حِينَ يَصُولُ
صَبْرًا لِوَجْهِكَ فِي سَبِيلِكَ مُهْجَتِي … هَذَا السَّبِيلُ فَلَا سِوَاهُ سَبِيلُ
وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِهِنَّ الْخَيْرُ … مَا بَقِيَتْ إِلَى أَلَّا تَكُونَ خُيُولُ
طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعنَانِهَا … يَرْجُو الشَّهَادَةَ سَيْفُهُ مَسْلُولُ
قُلْ لِي بِرَبِّكَ مَا الْحَيَاةُ إِذَا غَدَتْ ذُلًّا يُذِلُّكَ خَائِنٌ وَذَلِيلُ؟!