
﴿ضَعُف الطالبُ والمطلوبُ﴾الإعجاز العلمي في خلق الذباب
يوليو 12, 2025
واقع مسلمي الأويغور (2/2)
يوليو 12, 2025الشيخ محمد أحمد العدوي رحمه الله
من علماء الأزهر الشريف*
﴿قَالُوا يَمُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: 22].
إن مهمة نبي الله موسى شاقة، فقد كان استعباد المصريين لبني إسرائيل قد أذلهم، وأفسد عليهم بأسهم، وكان (بنو عناق) الذين يسكنون أمامهم في الأرض المقدسة أولي قوة وأولي بأس شديد، وكانوا كبار الأجسام طوال القامات، وهو المراد من كلمة (جبارين)؛ من قولهم: (نخلة جبارة)، أي: طويلة لا ينال ثمارها بالأيدي، والجبار من أسماء الله تعالى، فيه معنى العظمة والقوة، والعلو على خلقه، وكونه لا يمكن أن يناله أحد بتأثير ما.
فنبي الله موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلـة، أمرهم بدخولها مستعدين لقتال من يقاتلهم من أهلها، وأنهم لما غُلب عليهم من الضعف والذل باضطهاد المصريين لهم أبوا، واعتذروا بضعفهم وقوة أهل تلك البلاد، وحاولوا الرجوع إلى مصر، كما كان بعض العبيد يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم في أمريكا بعد تحريرهم ومنع الاسترقاق بقوة الحكومة، لأنهم ألفوا تلك الخدمة والعبودية، وصارت المعيشة الاستقلالية شاقة عليهم!
وقالوا لموسى: إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها، كأنهم يريدون أن يخرجهم منها بقوة الخوارق؛ لتكون غنيمة باردة لهم، وجهلوا أن هذا يستلزم أن يبقوا على ضعفهم وجبنهم، وأن يعيشوا بالخوارق ما داموا في الدنيا، لا يستعملون قواهم في دفع الشر عن أنفسهم، ولا في جلب الخير لها، وحينئذ يكونون أكثر الخلق بنعم الله، فكيف يؤيدهم بآياته طول الحياة؟
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ فَٱفۡرُقۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ [المائدة: ٢٥].
رحمة الله بالشعوب أنها إذا فسدت لم يكن الفساد عامًا شاملًا، بل تبقى أقلية محتفظة بصلاح فطرتها، معتزة بكرامتها، فالشعب الإسرائيلي على إمعانه في الذل، وإخلاده إلى الجبن لم يخل من رجلين قد أنعم الله عليهما بالطاعة والتوفيق، حتى في حال الخوف من الجبابرة، يقولان للشعب ﴿اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ [المائدة: 23] ويعدانهم بالغلب إذا هم دخلوه، ويأمرون الشعب أن يتوكل على الله إن كان مؤمنًا به، فلا يعمل حسابًا للجبابرة، ولا يخشى بأسًا للأقوياء، بعد بذل الوسع فيما يصل إليه كسبهم من وسائل القوة، وأسباب القهر.
وقد وعدوا الشعب بالغلب لِـما يعلمون من سُنة الله عزّ وجلّ مع الرسل، وعادته مع المصالحين.
وما أحسن قول الرجلين: ﴿إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ [المائدة: 23]؛ لنعرف منه أن الإيمان لا يجامع الجُبن والخوَر، وإنما المؤمن كله شجاعة وإباء، لا يرضى بالضيم، ولا يخضع للذل، والشأن فيه أن يعيش كريمًا أو يموت كريمًا. ولولا شجاعة سلفنا الصالح وسخاؤه بأعز شيء لديه، وهي نفسه التي بين جنبيه، في سبيل إعلاء كلمة الدين؛ لولا ذلك ما انتصر حق على باطل، وما بقي للمؤمنين عز، وللمؤمنين شوكة.
﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَ ٰمِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَ ٰتࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰاۗ وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ﴾ [الحج: ٤٠].
لم تنفع موعظة الرجلين للشعب الإسرائيلي؛ لأن المرض أقوى من الدواء، فلا بد أن يتغلب عليه؛ كما هي سنته تعالى في تنازع القويّ والضعيف، فأكدوا له أنهم لا يدخلون الأرض المقدسة ما دام فيها الجبابرة، لأن دخولها يستلزم القتال وهم ليسوا أهلًا له: ﴿فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤]، إذا كنت قد أخرجتنا من أرض مصر بأمر ربك لنسكن هذه الأرض فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين واستأصلا شأفتهم!
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ﴾ [المائدة: ٢٥]. يبث حزنه وشكواه إلى الله تعالى، ويتنصل عن فسق قومه عن أمره؛ فهو يقول: لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسي وأمر أخي، ولا أثق بغيره أن يطيعك في العسر واليسر، والمنشط والمكره؛ ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ” بقضاء تقضيه بيننا إذ صرنا خصمًا لهم وصاروا خصومًا لنا، أو افصل بيننا وبينهم إذ أخذتهم بالعقاب على فسوقهم، فلا تعاقبنا معهم في الدنيا: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیۡهِمۡۛ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰۛ یَتِیهُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ [المائدة ٢٦].
قضى الله –ولا رادّ لقضائه- أن تكون الأرض المقدسة محرمة على بني إسرائيل تحريمًا فعليًا، لا تكليفيًا شرعيًا، مدة أربعين سنة، يسيرون في برية من الأرض تائهين، متحيرين، لا يدرون أين يتيهون في سيرهم، من التيه، وهو الحيرة يقال: تاه يتيه، ويتوه لغة، ويقال: مفاوز تيهاء، إذا كان سالكوها يتحيرون فيها، عاقبهم الله بحرمانهم من الأرض أربعين سنة، عقابًا عادلًا حتى ييبد ذلك الجيل الذي نشأ على الذل، وتربى على العبودية لغير الله تعالى، ولذلك يختم القصة بقوله: ﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾، يسليه حتى لا يبالغ في الحزن على أمثال هؤلاء الذين فسدت فطرهم، وانحطت مداركهم، ونزلوا عما يليق بالإنسان.
وعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسدها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد، يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد قام بهذا في العصور السالفة الأنبياء، ويقوم به بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات.
ويقول الأستاذ النجار: إن قوله تعالى ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ ليس ظرفًا لقوله: ﴿مُحَرَّمَةٌ﴾؛ فإن تحريم هذه الأرض عليهم تحريم أبدي لا مقيد بأربعين سنة؛ فإن الرجال الصالحين للحرب الذين عاصروا أمر موسى ماتوا في البرية أثناء السنين الأربعين ولم يدخل أحد منهم أرض الموعد فكانت محرمة عليهم بإطلاق، ولذلك يرى الوقف على قوله: ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾.
وأنا أرى ألا ضرورة إلى ذلك، فإن سنة القرآن أن يخاطب الشعب متكافلًا متضامنًا، وكثيرًا ما تكون النعمة للآباء، ولكنه يمتن بها على الأبناء، انظر إلى قوله: ﴿یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ قَدۡ أَنجَیۡنَـٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَ ٰعَدۡنَـٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَیۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ﴾ [طه: ٨٠]، وإنما نجى آباءهم ووعدهم ما وعدهم، ولكنه يخاطبهم بما كان لآبائهم ليريهم أنهم متكافلون مع آبائهم في الخير والشر، والنعمة على الوالد نعمة على الولد.
فإذا كان الله تعالى قد حرم الأرض على بني إسرائيل؛ فإنما يحرمها على الشعب نفسه عقوبة له على الجبن، وإن كان ذلك العقاب في شخص الحاضرين، فالمعنى يستقيم سواء وقفنا على قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ﴾، أو وصلناها بما بعدها.
أما الأرض التي تاهوا فيها فهي أرض سيناء، تاهوا في بريتها من عهد خروجهم إلى أن مات موسى عليه الصلاة والسلام، وعبروا نهر الأردن وملكوا أريحا وما معها من الأرضين.
والسر في ذلك كما أوضحه ابن خلدون أن نفس بني إسرائيل كانت حقيرة؛ لأنهم ألفوا الذل والهوان في ملك المصريين، ومن كان كذلك لا يصلح لقتال ولا استقلال، والعلماء يقررون أن حضانة العلم خمس عشرة سنة، أما حضانة الأخلاق فمدتها أربعون سنة، فإذا كانت أمة تستمسك بالأخلاق؛ فإنها لا تجني الثمرة إلا بعد أربعين سنة، حتى يفنى الجيل الذي نشأ في الاستعباد، وينشأ جيل الحرية.