
تسجيل أعلى رقم في تاريخ التمييز العنصري ضد المسلمين بأميركا!
مايو 17, 2025
السيادة الجماعية أم الهيمنة المقنّعة؟ قراءة في مستقبل الشرق الأوسط
مايو 17, 2025د. علي بن عمر بادحدح
فك الله أسره*
المثل الأعظم الذي سنجعل وقفتنا معه، هو المثل الذي تتقاصر دونه الأمثلة، والشجاعة التي تظهر كل شجاعة دونها بمراحل، شجاعة النبي ﷺ، القدوة العظمى في التضحية لهذا الدين والثبات عليه والدعوة إليه.
لما دارت الدائرة على المسلمين في أُحد بعد نزول الرماة، وبعد أن كانت الجولة لهم، واشتد الاختلاط في صفوف المسلمين، وبدأت المعركة ينفرط عقدها، كان النبي ﷺ في تسعة نفر من أصحابه، وكان من المتبادر إلى أذهان أهل الضعف والخور، أو إلى أذهان أهل السلامة أن من الأصلح له أن ينسحب بهذه الكوكبة حتى يرجع إلى المدينة، حتى يسلم أصحابه أو حتى يسلم هذه الأمة، لكن النبي ﷺ كان مضرب المثل والقدوة. كان علي بن أبي طالب يقول: “كنا إذا احمرت الحدق، وحمي الوطيس؛ نتقي برسول الله ﷺ”. كان دائماً هو المقدَّم ﷺ، فماذا صنع في ذلك الموقف؟
صاح ﷺ: “يا عباد الله! هلموا إليّ أنا رسول الله”. وهو يعلم أن صوته سيُسمع عند المشركين قبل المسلمين، وكان الأمر كما كان، لقد سمع المشركون هذا النداء، وكان يعلم النبي ﷺ أن هذا سيسمع وأن الجموع ستجمع، وأن الجيوش ستتوجه نحوه ﷺ، لكنه أراد أن يبين للأمة أن الثبات في الجيوش بثبات قياداتها، وأن المضي بمضي كرامها، ولذلك نادى هذا النداء العظيم ليقول كما قال بعد ذلك في يوم حنين:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب
فما كان له ﷺ أن يتخلف عند مواضع التقدم، أو أن يتراجع في مواضع الثبات ﷺ.
نادى هذا النداء ثم تجمعت الجيوش من حوله، فكانت صورة رائعة من صور تضحية الصحابة وفدائهم قلّ أن يجود التاريخ بمثلها مطلقاً، لذلك تجمّع أولئك القوم حول النبي ﷺ، حتى شجّ وجهه الكريم، وسال دمه على جبهته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته ﷺ، حتى قال ﷺ في هذا الموقف: “كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم؟”.
درس لنا كيف ضحّى النبي ﷺ وهو أشرف الخلق أجمعين؟ وبذل لأجل هذا الدين، وخاض غمار المعارك حتى سال دمه ولقي الموت؟ ونحن نريدها هينة سهلة، لو كانت هينةً سهلةً لكانت لرسول الله ﷺ، ولو كان الإكرام للصلاح لكان أحق المكرمين هو رسول الله ﷺ، ولو كان النصر يُهدَى لأحد لأُهدي إلى رسول الله ﷺ، ولكنه درس للأمة أنه لا يمكن أن ترفع لها راية، ولا أن تقوم لها قائمة، ولا أن ينتشر دينها، ولا أن تقوى قوتها وتعظم سيادتها إلا بالبذل والتضحية في سبيل الله عز وجل، والثبات على هذا الدين، فلذلك رسم النبي ﷺ هذه الصورة المشرقة الرائعة في الثبات والتضحية في سبيل الله عز وجل حتى كان موئلاً تجمع حوله الصحابة من جديد، وانتهت المعركة نهاية مشرفة، وقد كان من الممكن أن تكون نهايتها أسوأ وأعظم شراً في الهزيمة على المسلمين، ولذلك ضرب النبي ﷺ المثل والقدوة من نفسه.
فإذا كان الرسول ﷺ قد دمي وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما على أحد بعده أن يصيبه في سبيل الله عز وجل ما هو أشد وأعظم وأنكى من هذا.
نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا في رسوله ﷺ أسوة حسنة، وأن يجعلنا ممن يتأسون بأصحابه رضوان الله عليهم!
مَن يأخذ هذا السيف بحقه؟
نادى النبي ﷺ في يوم أحد ورفع سيفه: “من يأخذ هذا السيف بحقه؟” فتنادى له الصحابة رضوان الله عليهم وتسابقوا إليه، فقال النبي ﷺ: “من يأخذ هذا السيف بحقه؟” قالوا: وما حقه يا رسول الله؟! قال: “أن يقاتل مقبلاً غير مدبر”، فتراجع بعضهم لا جبناً وإنما خوفاً أن يقصروا بالوفاء، فتقدم له أبو دجانة وقال: أنا يا رسول الله!
وورد في بعض روايات السيرة أن الزبير تقدم له فمنعه منه النبي ﷺ وأعطاه لـسماك بن خرشة (أبو دجانة) رضي الله عنه، فلما أخذه عصب على رأسه عصابة حمراء فقالت الأنصار: عصب أبو دجانة عصابة الموت! وظل يمشي مشية مختالة، فقال النبي ﷺ: “إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن”. لأنه موطن إعزاز للإسلام والمسلمين، فماذا صنع أبو دجانة رضي الله عنه؟ عندما أخذ السيف وبدأت المعركة صار ينادي:
أنا الذي عاهدني خليلي ** ونحن في السفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول ** أضرب بسيف الله والرسول
ثم فلق به هام المشركين، وشق صفوفهم، وخاض في الموت، وفي حمام الهلاك وهو يجندلهم عن يمينه وشماله، قال: حتى خلصت إلى فارس يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة، فأكرمت سيف رسول الله ﷺ أن تُضرب به امرأة، وكانت هذه هند بنت عتبة رضي الله عنها فقد أسلمت فيما بعد وحسن إسلامها، كانت قد تلثمت وحاربت، وكانت من أشجع المحاربين في تلك المعركة، قال الزبير في بعض روايات السيرة: فرأيت فارساً لا يجد أحداً من المسلمين يزفف -أي: في آخر الرمق- إلا وأجهز عليه، فقلت: لعله يلقاه أبو دجانة، فما زلت أنظر حتى التقيا، ثم رفع أبو دجانة سيفه ولم يُمضِه، فنظرت فإذا هي هند بنت عتبة. وهكذا فعل أبو دجانة رضي الله عنه.
أسد الله حمزة
نأتي إلى موقف آخر لـحمزة أسد رسول الله ﷺ، ذاك الذي كان الموت يتربص به في ميدان المعركة، لكنه مات غيلة وغدراً، كان رضي الله عنه قد فلق الهام، وقطع الرقاب، وشق صفوف المشركين شقاً، ثم لم يصمد له أحد، ولم يستطع أحد أن يواجهه، حتى جاء وحشي رضي الله عنه (وقد أسلم فيما بعد وصار من الصحابة) لم يكن عنده مهمة في هذه المعركة إلا أن يغتال غيلة وغدراً وخسة ودناءة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فظل يكمن في أماكن معينة حتى أصاب منه غرة فأنفذ فيه حربته فقتله لوقته رضي الله عنه وأرضاه.
أنس بن النضر مثال الإقدام والثبات
فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه يقول قبل المعركة، وهو الذي فاتته غزوة بدر، وفاتَه شرف تلك الغزوة العظيمة، يقول: “لئن أشهدني الله عز وجل يوماً كيوم بدر لَيَرَيَنّ ما أصنع”!
قَسَم عظيم يُبرز فيه هذا الصحابي الجليل أنه سيبذل وسيضحي وسيثبت ويقدم لهذا الدين ما تقر به أعين المسلمين، وما يرضى به عنه الله رب العالمين، يقول ذلك لا قولاً رخواً وهو متكئ على أريكته، ولا يقول ذلك وهو في مجلس اللهو واللعب؛ وإنما يقوله مقسماً بالله عز وجل في مواطن الجد والعز.
فلما جاءت المعركة وجاءت هذه الدائرة، مر أنس رضي الله عنه ببعض الأنصار وقد سرت شائعة قتل النبي ﷺ بعد أن تجمع حوله المشركون وحصل ما حصل، فمر أنس ببعض الأنصار وقد قعدوا على هامش المعركة، وسألهم: ما بكم؟ قالوا: أما شعرت أن محمداً ﷺ قد مات؟ فقال كلمات تسجل في صحائف التاريخ، وتخلد في ذاكرة المسلمين، وتنقش في قلوبهم صوراً محفورة لا تنسى من صور الثبات والتضحية، ومعرفة المنهج، ووضوح الرؤية عند الصحابة رضوان الله عليهم، قال: “فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ”!
لئن مات النبي ﷺ فما قيمة الحياة بعده؟ ولئن أهينت المقدسات، وانتهكت الأعراض، واعتدي على الدين فما قيمة الحياة؟ هل يبقى المسلم في هذه الحياة ليأكل وينكح مثل بقية الأنعام والدواب والهوام؟ إن المسلم أجل وأرفع من أن تكون هذه غاياته، إنه صاحب مهمة ورسالة يقدم حياته كلها لأجل رسالته وإعلاء رايتها؛ فإن أصيب في دينه أو في رسالته؛ فإنه لا يمكن أن يرضى بالذل في هذه الحياة، ولا يمكن أن يبقى ساكناً وادعاً، بل ينبغي أن يتحرق قلبه، وتتحرك جوارحه، وينطق لسانه، وتنطلق أقدامه، وتنفق أمواله، ولو اقتضى الأمر أن تبذل مهجته وروحه في سبيل الله عز وجل كما فعل الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ونداء أنس رضي الله عنه ينادي كل المسلمين: “قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ”.
ثم مضى أنس رضي الله عنه إلى ميدان المعركة، مضى إلى الغبار المثار، إلى السيوف التي تبرق في الضحى، إلى الأعناق التي تقطع، والدماء التي تسيل؛ فلقيه في أثناء مسيره سعد بن معاذ فقال له: “إلى أين يا أبا عمرو؟!” فسطر أنس رضي الله عنه أيضاً الجواب بكلمات عظيمة: “واهاً لريح الجنة، والله إني لأجدها دون أُحد”.
قوم أيقنوا بما أخبر الله عز وجل به، واستيقنوا بما أخبر به الرسول ﷺ، وعلموا أن طريق مرضاة الله إنما تكون من طريق إعزاز دين الله عز وجل، ونصر عباد الله، وعدم رضى الذل لدين الله عز وجل.
“واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد”، ثم انطلق رضي الله عنه، قال سعد: “فما استطعت أن أمضي مضيه، ولا أن أفري فريه، فمضى يقتل ويضرب حتى استشهد رضي الله عنه وفي جسمه بضع وثمانون ما بين ضربة سيف أو طعنة رمح أو موضع سهم، حتى ما عرف وجهه، وإنما عرفته أخت له ببنانه أو شامة”.
لم يعرف من شدة ما أصابه من ضرب! قال بعض الصحابة: “فأحصيت ما به من ضربات فلم أجد في ظهره منها ضربة قط”. كان مقبلاً غير مدبر، ولم تأتِه الضربات من ظهره؛ لأنه لم يولّ ولم يهرب، وإنما كان مضحياً ثابتاً.
ولذلك ضرب مثلاً عظيماً من أمثلة التضحية والثبات على دين الله عز وجل..
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وفرق كلمتهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين!
اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم ارزقهم الصبر والثبات واليقين!
ــــــــــــــــــــــ
- مقتبس من: د. علي عمر بادحدح، غزوة أحد درس التضحية والثبات، موقع إلكتروني: الشبكة الإسلامية.




