
الصحة بغزة ترفض أوامر الاحتلال بإخلاء المستشفيات
أغسطس 22, 2025
أثر سيد قطب في الصحوة الإسلامية الحديثة
أغسطس 22, 2025سيد قطب
رحمه الله
﴿وَأَنزَلَ ٱلَّذِینَ ظَـٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مِن صَیَاصِیهِمۡ وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِیقࣰا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِیقࣰا * وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِیَـٰرَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُمۡ وَأَرۡضࣰا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣰا﴾ [الأحزاب: ٢٦-٢٧].
فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين..
إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة. وكان الرسول ﷺ قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطاً عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدواً، ولا يمدوا يداً بأذى.
ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول. وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة. كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله ﷺ فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة. فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه!
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام. ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه. ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود. فطلب إلى رسول الله ﷺ أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه! فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فخرج عندئذ عبد الله بن سلام إليهم، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به. فوقعوا فيه، وقالوا قالة السوء، وحذروا منه أحياء اليهود. وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني والسياسي. فاعتزموا الكيد لمحمد ﷺ كيداً لا هوادة فيه.
ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود!
لقد بدأت في أول الأمر حرباً باردة، بتعبير أيامنا هذه. بدأت حرب دعاية ضد محمد ﷺ وضد الإسلام. واتخذوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله. اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد ﷺ وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة. واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض. بين الأوس والخزرج مرة، وبين الأنصار والمهاجرين مرة. واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين. واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين.. وأخيراً أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين، كالذي حدث في غزوة الأحزاب..
وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. وكان لكل منها شأن مع رسول الله ﷺ ومع المسلمين.
فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر؛ وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله ﷺ خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته، بعدما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم.
وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن إسحاق ما كان من أمرهم قال: وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله ﷺ جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال: “يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم”. قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.
وذكر ابن هشام عن طريق عبد الله بن جعفر قال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدت يهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال: فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على حكمه، فقام عبد الله بن أبيَّ بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله ﷺ فقال: يا محمد أحسن في مواليّ. قال: فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ: “أرسلني”. وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه ظللاً. ثم قال: “ويحك! أرسلني”. قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، أربع مائة حاسر وثلاث مائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله ﷺ: “هم لك”.
وكان عبد الله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه. فقبل رسول الله ﷺ شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح.
وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة.
وأما بنو النضير، فإن رسول الله ﷺ خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم. فلما أتاهم قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله ﷺ إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟
ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة، فألهم رسول الله ﷺ ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعاً إلى المدينة. وأمر بالتهيؤ لحربهم. فتحصنوا منه في الحصون. وأرسل إليهم عبد الله ابن أبي ابن سلول (رأس النفاق) أن: اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم.. إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم. ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم. وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال. وسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. ففعل. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. ومن أشرافهم ممن سار إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب.. هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب.
والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة. وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلباً على المسلمين مع المشركين، بتحريض من زعماء بني النضير، وحيي بن أخطب على رأسهم. وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله ﷺ في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة.
ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من “أن رسول الله ﷺ حين انتهى إليه الخبر، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير رضي الله عنهم فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس. وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس”. (مما يصور ما كان يتوقعه ﷺ من وقع الخبر في النفوس).
“فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. نالوا من رسول الله ﷺ وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد! ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله ﷺ بالتلميح لا بالتصريح. فقال رسول الله ﷺ: الله أكبر. أبشروا يا معشر المسلمين» (تثبيتاً للمسلمين من وقع الخبر السيئ أن يشيع في الصفوف).
ويقول ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء؛ واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم. حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين.. إلخ.
فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب.
فلما أيّد الله تعالى نبيه بنصره. ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيراً؛ وكفى الله المؤمنين القتال.. رجع النبي ﷺ إلى المدينة منصوراً، ووضع الناس السلاح، “فبينما رسول الله ﷺ يغتسل من وعثاء المرابطة، في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدى له جبريل عليه السلام فقال: أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال ﷺ: نعم. قال: ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة. وكانت على أميال من المدينة. وذلك بعد صلاة الظهر. وقال ﷺ: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فسار الناس في الطريق، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد رسول الله ﷺ إلا تعجيل المسير. وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة. فلم يعنف واحداً من الفريقين.
وتبعهم رسول الله ﷺ وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم (صاحب: عبس وتولى أن جاءه الأعمى..) رضي الله عنه وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم نازلهم رسول الله ﷺ وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة. فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله ﷺ فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك. ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله (وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع) أيام الخندق؛ فكواه رسول الله ﷺ في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب؛ وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقنا لها؛ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها؛ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
فاستجاب الله تعالى دعاءه. وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم، طلباً من تلقاء أنفسهم.
فعند ذلك استدعاه رسول الله ﷺ من المدينة ليحكم فيهم. فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه جعل الأوس يلوذون به، يقولون: يا سعد إنهم مواليك، فأحسن عليهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه. وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم!
فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله ﷺ، قال رسول الله: قوموا إلى سيدكم. فقام إليه المسلمون فأنزلوه؛ إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم.
فلما جلس قال له رسول الله ﷺ: إن هؤلاء وأشار إليهم قد نزلوا على حكمك. فاحكم فيهم بما شئت.
فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال ﷺ: نعم.
قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: نعم.
قال: وعلى من ها هنا (وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله ﷺ وهو معرض بوجهه عن رسول الله ﷺ إجلالاً وإكراماً وإعظاماً). فقال رسول الله ﷺ: نعم.
فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله ﷺ: لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة (أي: سماوات).
ثم أمر رسول الله ﷺ بالأخاديد فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم. وكانوا ما بين السبع مائة، والثماني مائة. وسبي من لم ينبت (كناية عن البلوغ) مع النساء والأموال. وفيهم حيي بن أخطب. وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم.
ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود، وضعفت حركة النفاق في المدينة؛ وطأطأ المنافقون رؤوسهم، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون. وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم.