
الاحتلال يستهدف خيام النازحين ومراكز المساعدات
أغسطس 2, 2025
الافتتاحية
أغسطس 2, 2025محمد إلهامي (رئيس التحرير)الأمانة العامة للهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
سيد قطب.. رجل عاش القرآن بروح عالية وفكر محلق، ثم سكب معانيه بقلم أديب مشرق..
ثم قدم روحه ثمناً لكلماته، فكساها ألق الشهادة ورفعها لمرتبة السيادة.. فسيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله..
(1)
لست أعرف رجلاً وُضِع له القبول في الأرض بين المسلمين على اختلاف بلادهم واتجاهاتهم كما هو الحال في الشهيد القرآني سيد قطب رحمه الله، فإن المسلمين وأهل العلم يُعَظِّمونه في بلادٍ ما أشد التباين بينها في فهم أهلها للإسلام وفي أخذهم به!
وأسوق على ذلك أقرب الأمثلة؛ فإن سيدًا كان مُعَظَّمًا في مصر والجزيرة العربية وفارس وأفغانستان وتركيا، وما أعجب هذا وما أغربه! فكيف يجتمع في تعظيمه أهل البيئة السلفية مع أهل البيئة الشيعية مع الأحناف الصوفية الأشاعرة والماتريدية؟!
لقد ترجم كتبه إلى الفارسية رأس الشيعة: علي خامنئي، وأرسل يتشفع فيه رأس السلفية: عبد العزيز بن باز، وكانت تطبع كتبه في البلديْن العدوّين المختلفين في كل شيء: السعودية وإيران!!
وفي تركيا، حدثني الشيخ نور الدين يلدز، وهو ممن ترجم كتب سيد قطب إلى التركية أن الناس في تركيا، وفي الزمن العلماني الذي كاد الدين يذبل فيها، قد انثالوا على بيته وحرصوا على مصافحته ولمس يده لما عاد من عمرة عرفوا أنه فيها التقى الشيخ محمد قطب، شقيق الشهيد سيد قطب!!
وإذا تركنا المتعصبين والمهاويس في كل اتجاه حركي، فلقد التقت على توقير سيد وتعظيمه الاتجاهات الحركية في بلدانها المتباعدة: الإخوان المسلمون والسلفيون والجماعة الإسلامية في الهند وباكستان وجماعة الدعوة والتبليغ، وكثير من المتصوفين!
ولدي انطباعٌ من طول القراءة للرجل وعنه، أتحوط الآن في تسجيله مستعملاً ألفاظ الاستدراك، فأقول: كاد يكون الموقف من سيد قطب علامة ودليلاً على موقع الرجل: هل هو في معركة الإسلام والأمة أم هو خارجها؟!
وأن يكون خارجها فليس يعني ضرورة أنه عدوٌ أو مفسد، فقد يكون كذلك، وقد يكون جاهلاً أو مغفلاً أو ساهياً لاهياً عن معركة الإسلام في هذا العصر. وذلك أني أفتش في رأسي فلا أكاد أعثر على رجل مهموم حقاً بمعركة الدين والأمة في هذا العصر إلا وكان له موقف يُعظِّم فيه سيد قطب ويحبه، مهما كانت عنده من ملاحظات جزئية وتفصيلية!
وأما رؤوس العداء لسيد قطب، أولئك الذين اتخذوه غرضاً وهدفاً، فما من شك في أنهم من أعداء هذه الأمة الصرحاء، سواءٌ أكانوا عالمين بهذا قاصدين له، أو كانوا من الغباء والغفلة والجهل بحيث استعملهم أعداء الأمة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
إن من يقرأ في تراث الشهيد القرآني لا يداخله شكٌّ في أن هذا العقل الكبير وهذا القلب الغيور وهذا القلم الأصيل قد استفرغ وسعه في بيان محاسن الإسلام ونقض أباطيل الكفر والجاهلية، وأنه سعى ما وسعه السعي وانتهت به طاقة ذي القلم في أن يثير قلوب الناس ويستحث عقولهم ويوجِّه أبصارهم إلى هذا الحل الإسلامي الرباني، الحل الوحيد الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعالج ما في حياتهم من المشكلات والمعضلات والعثرات.
فما يقرأ ذلك الكلامَ قارئ مخلص للإسلام إلا ويتسرب إليه حب الشهيد، ثم ما يطلع أحد على سيرته وحياته إلا ويُعَظِّمه، فلك أن تعرف أنه كان رأس الوقوف في وجه الطاغية الجبار الذي خدع الملايين حتى محضوه حباً خالصاً وشغفاً جنونياً بفعل سحر الإعلام وطغيانه! أقصد: جمال عبد الناصر، الذي تهيأت له من الظروف ما لم يتهيأ مثلها لغيره حتى صار زعيم العرب قاطبة في عصره، وكان له من الطغيان وضروب التوحش والتعذيب ما لم يكن للعرب عهد به في سائر تاريخهم. فالذي كان يعيش في زمانه إن كان عبقرياً ذكياً قوي النظر فأفلت من طغيان سحره، فما كان أندر أن يكون روحاً صلبة أبية صخرية فولاذية تتجرأ فتقتحم مخاوف بطشه وتنكيله. ولذلك اختبأ أكثر الناس، ولم يُعرف في مفكري مصر ومثقفيها -على كثرتهم- من تجرأ على الوقوف في وجه عبد الناصر إبان سطوته وجبروته، اللهم إلا سيد قطب!
ولقد قيَّض الله للشهيد من يحفظ إرثه حتى انتشر وطغا وذاع في العالمين، ولقد رأيت من كان يحفظ “في ظلال القرآن” وهو أربعة آلاف صفحة من الصفحات الكبيرة التي ضُيِّق فيها الكلام وحُشِر، (وقد طُبع بأخرة في ستة آلاف صفحة)، وما ذلك إلا لأن الحملة كانت عاتية على كتب الشهيد وتراثه، حتى قدَّر بعض الحريصين أنه لا بد من حفظه في الصدور!
(2)
مما يثير الألم في النفس أن يكون العدو الغريب أحسن فهماً وتقييماً لرجال الإسلام من أولئك المحسوبين المنسوبين للإسلام والدين..
يذكر الشيخ فايز الكندري، الأسير المحرر من سجن جوانتانامو الأمريكي، أنه قد “صرح لي أحد المحققين بكل وضوح أن أخطر شخصية على الغرب خلال القرن الماضي هو سيد قطب”.
وتلك شهادة خطيرة، وعظيمة أيضاً في حق الرجل، بل وهي مرتبة يتمناها المسلم، فأن تكون أخطر شخصية على الغرب إنما يعني -بالتعبير القرآني- أن تكون أكثر الذين يطأون موطئاً يغيظ الكفار!
وليس هذا خافياً، ولا هو بالأمر الذي يُقال في الدهاليز والأروقة فحسب، بل قد ذكر نفس هذا المعنى ثعلب السياسة الأمريكية الأشهر، هنري كيسنجر، ذلك المؤرخ والمفكر والسياسي الداهية الذي تولى مقعد مستشار الأمن القومي وظل مُعَظَّمًا فيهم إلى أن مات بعد أن جاوز المائة عام!
كيسنجر في كتابه “النظام العالمي”، يرى أن الشهيد سيد قطب قدَّم الإجابة المفصلة عن الأسئلة التي لم يُجب عنها حسن البنا، وأن إجابة سيد قطب هذه هي “الطبعة الأعمق والأكثر نفوذًا لهذه النظرة” الإسلامية الثورية. وقرر كيسنجر أن كتاب معالم في الطريق إنما “هو بيان حرب على النظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصًا تأسيسيًا للحركة الإسلاموية الحديثة”.
ومضى كيسنجر يشرح التناقض الجذري بين الرؤية الإسلامية التي يقررها سيد قطب، وبين النظام العالمي القائم على مجموعة من الدول المعلمنة والمُقَسَّمة قومياً وعرقياً، فيقول:
“الإسلام، بنظر قطب، نظام كوني شامل يوفر الصيغة الصحيحة الوحيدة للحرية؛ التحرر من حاكمية بشر آخرين، عقائد من صنع الإنسان، أو “روابط دنيا قائمة على العنصر واللون، على اللغة والبلد، على المصالح الإقليمية والوطنية – القومية” (أي سائر الصيغ الحديثة الأخرى للحاكمية والولاء مع بعض ركائز بناء نظام وستفاليا). تمثلت رسالة الإسلام الحديثة، برأي قطب، في إطاحة ذلك كله والاستعاضة عنه بما عده تطبيقًا حرفيًا، عالميًا آخر المطاف، للقرآن. وكان من شأن تتويج هذه السيرورة أن تتمثل بـ “بلوغ حرية الإنسان على الأرض – جميع البشر عبر كوكب الأرض”. كان من شأن هذا أن يكمل العملية التي أطلقتها الموجة الأولى للتوسع الإسلامي في القرنين السابع والثامن”، “العملية التي يجب أن تصل عندئذ إلى الجنس البشري كله في طول الأرض وعرضها، نظرًا لأن هدف هذا الدين هو الإنسانية كلها وفضاء حركته هو الأرض كلها”… كان قطب، ذو الاطلاع الواسع والشغف الشديد، قد أعلن الحرب على الوضع العام – حداثة علمانية بفظاظة وتمزق إسلامي، كما جرى تصديقهما من قبل تسوية ما بعد الحرب العالمية الأولى الإقليمية في الشرق الأوسط.. كتلة الأفكار هذه تمثل عكسًا شبه كلي وقلبًا لنظام وستفاليا العالمي. لا تستطيع الدول، بنظر أنقى طبعات الحركة الإسلاموية، أن تكون المنطلق المناسب لأي نظام دولي لأن الدول علمانية”.
ويحظى سيد قطب بأهمية خاصة لدى الغربيين، لا سيما الباحثين في الشؤون الأمنية والحركات الجهادية، وفي حدود ما اطلعت وعرفت فقد ندر أن جرى تناول سيد قطب وفكره بإنصاف في الكتابات الغربية، والنادر هنا بمعنى أني بعد البحث والسؤال والتعقب لم أعثر إلا على خمسة بحوث غربية قيل إنها تنصف سيد قطب، لكن لم يتيسر لي الاطلاع عليها.
(3)
بقي أن يُقال: هل كانت أفكار سيد قطب متطرفة تخصه؟ أم هي الفكرة الإسلامية ذاتها قد عبَّر هو عنها، بلغته وأسلوبه وقلمه؟!
ليس أسهل من إجابة هذا السؤال من الإشارة إلى ما وُضع للشهيد وكتبه من الانتشار والقبول في الأرض، كما ذكرنا في مطلع هذا المقال. إذ ليس يمكن أن يروج في عالم المسلمين ما هو شاذ عن دينهم وإيمانهم وأفكارهم! لا سيما في هذه الأمة التي قدر الله أنها لا تجتمع على ضلالة وأن ما يكون حسناً فيها فهو عند الله حسن!
كذلك فقد ذكرنا أن كافة أهل العلم المعتبرين الذين تكلموا في سيد قطب، فهم بين قسميْن: إما أنهم عظموه ووقروه بلا تحفظ، أو أن تحفظاتهم واختلافاتهم معه كانت في أمور جزئية يسع فيها الخلاف أو تُغمر في بحر فضائل الرجل! فيكون الرأي النهائي لهؤلاء الناس أن الرجل من أهل الإسلام بل من ساداتهم والمبرزين فيهم.
وأي شيء أبلغ في الشهادة للرجل أن نجد بعض أعدائه يسرق منه كلماته، كما فعل علي جمعة –المفتي الأسبق في مصر- وشوقي علام –المفتي السابق- فقد رُصِد لكل منهم مقالات نقلوا فيها عن الشهيد دون أن يذكروا اسمه، وما فتئوا يطعنون فيه وفي أفكاره.
ومما ينبغي أن يذكر هنا، للدلالة على الأمر، أن وزير شؤون الأزهر في الحقبة الناصرية، وهو نفسه أستاذ الفلسفة الإسلامية، الدكتور محمد البهي، سجل في مذكراته لقاءً له بعبد الحكيم عامر (أقوى رجل في مصر وقتها)، وفيه سأله عن رأيه في كتاب معالم في الطريق، فقال الرجل: “أجبته عن تقييمي لكتاب “معالم على الطريق” بأني كنت أتمنى أنا الذي كتبته. هاج ووقف من جلوس. وقال: كيف تقول ذلك والصحافة كلها نددت به؟ قلت له: إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى. وما تقوله الصحافة عنه: شيء سياسي لا دخل له إطلاقاً في تقييمه”.
وحتى الشيخ العلامة الكبير، فقيه العصر، يوسف القرضاوي، مع ما كان له من الخلاف مع الشهيد، لم يسعه في الإجمال إلا أن يقول: “سيد قطب أحد عظماء الرجال في أمتنا، في تاريخنا الحديث والمعاصر، هو مسلم عظيم، إذا قِسْنا العَظَمة بمقياس الإنسانية، وهو أديب عظيم، إذا قِسْنا العظمة بمقياس الإبداع في الأدب والنقد الأدبي، وهو داعية عظيم، إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه، وهو عالم ومفكِّر عظيم، له أثره في العلم والفكر، إذا قسْنا العظمة بمقدار الاستقلال في الفكر وأصالة العلم، وهو أيضًا مسلم عظيم، إذا قسنا العظمة بالبذل والتضحية في سبيل الله. وحسْبُنا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها”.
بل حتى البيئة السلفية التي يمكن القول بأنها أكثر البيئات العلمية تدقيقاً في الألفاظ وعناية بهذا الباب، إلى الحد الذي تقع فيه المغالاة، نجد عالماً سلفياً كبيراً مثل الشيخ بكر أبو زيد، وفي مقام النقد والاستدراك –كما في كتاب: معجم المناهي اللفظية- لا يسعه إلا أن يجمل القول في الشهيد فيقول: “في كلام سيد قطب -رحمه الله- وفي بعض تصانيفه مما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيل توضيحه للناس. ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية؛ ففي بعض المسائل الفقهية كحديثه عن حق العمال في كتابه: “العدالة الاجتماعية” أخذ يكتب بالتوحيد، وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذه الخلفية في الواقع قد جدّد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنَّا نلمس أحياناً أن له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائل التي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها”. ولقد نقلتُ من هذا الموطن الذي هو في مقام الاستدراك والنقد، ولم أنقل من رسالته الذهبية في الرد على ربيع المدخلي، فإن كلامه فيها كان في سياق إنصاف الشهيد والتحدث بمآثره!
رحم الله الشهيد سيد قطب.. وبلغه منازل الصديقين والشهداء والصالحين.. وألحقنا به على خير أجمعين!