
بن غفير يقتحم الأقصى والاحتلال يحول منازل الضفة لثكنات
أكتوبر 14, 2025أ.د. خير الدين خوجة الكوسوفي
سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في البلقان
هو سيد بن قطب بن إبراهيم بن حسن الشاذلي. وُلد في 9/10/1906م، (التاسع من شهر أكتوبر عام ست وتسعمائة وألف للميلاد) بقرية موشا، إحدى قرى محافظة أسيوط. كان الابن الأول لأمه بعد أخت شقيقة تكبره بثلاث سنوات وأخ من أبيه غير شقيق يكبره بجيل كامل. أحدث مولده حدثاً سعيداً لأمه بصفة خاصة لأنه طمأنها على استمرار واستقرار حياتها الزوجية، ولا سيما أنها الزوجة الوحيدة لأبيه الذي ينتمي إلى مجتمع قروي صعيدي الذي يعد الرجال ثروة للمفخرة والتكاثر ..” .
وُلد الأستاذ سيد قطب رحمه الله “في مجتمع قروي صعيدي الذي أحاط به آنذاك (أغلاب الزمان)، غلب الفقر وغلب الحرمان، غلب الجهل والمرض والكد المتواصل في الأرض والزرع، وغلب الجور من الحكام، حتى سيّرت الحياة فيه خرافات التقاليد وبدع المعتقدات وحكّمته قوانين اللصوص والمناسر..” .
ذكر الباحثون المهتمون بفكر وحياة الأستاذ سيد قطب أن والد الأستاذ سيد قطب كان “ميسور الحال كريم الإنفاق، يعتمد في معيشته على أرض واسعة نسبياً يشتغل فيها الفلاحون بالأجرة، ومع ذلك لم تكن نفقاته تتناسب مع مردود أرضه، فلا يزال يبيع منها شيئاً بعد شيء للوفاء بالديون التي كانت تركبه لكثرة إنفاقه”، و”كان والده رحمه الله راشداً عاقلاً مشتركاً في صحيفة يومية وعضواً في لجنة الحزب الوطني، عميداً لعائلته التي كانت ظاهرة الامتياز في القرية والتي كان مكلفاً بحفظ اسمها ومركزها، وكان رجلاً وقوراً رزيناً عطوفاً لين الجانب، حي القلب يبتعد في عمادته للعائلة عن الصلف والعنجهية التي كان يتسم بها عمداء الأسر الثرية في الأرياف”.
وخير من يصف أباه هو ابنه الأستاذ سيد قطب رحمهما الله تعالى؛ فعندما ألف الأستاذ سيد قطب كتابه “مشاهد القيامة في القرآن” قال في الإهداء: “لقد طبعت فيَّ وأنا طفل صغير مخافة اليوم الآخر، ولم تعظني أو تزجرني، ولكنك كنت تعيش أمامي واليوم الآخر في حسابك، ذكراه في ضميرك وعلى لسانك…كنت تعلل تشددك في الحق الذي عليك وتسامحك في الحق الذي لك بأنك تخشى اليوم الآخر، وكنت تعفو عن الإساءة وأنت قادر على ردها لتكون لك كفارة في اليوم الآخر، وإن صورتك المطبوعة في مخيلتي ونحن نفرغ كل مساء من طعام العشاء، فتقرأ الفاتحة وتتوجه بها إلى روح أبيك في الدار الآخرة ونحن أطفالك الصغار نتمتم مثلك بآيات منها متفرقات قبل أن نجيد حفظها كاملات”.
هنا يظهر دور الوالدين في تربية أولادهما تربية إسلامية صحيحة على أسس ثابتة من القرآن والسنة وهدي السلف الصالح والعلماء الربانيين، إذا ما أرادوا لهم الصلاح والتوفيق والهداية وإفهام المسؤولية وغرسها في قلوبهم منذ الصغر حتى ينشؤوا عليها بإذن الله كما نشأ الأستاذ سيد قطب رحمه الله في هذا البيت المليء بالأجواء الإيمانية والنفحات الربانية.
نشأته
نشأ الأستاذ سيد قطب رحمه الله نشأة خاصة ومميزة عن غيره من الأولاد. فقد نشأ في أسرة كريمة متدينة مثقفة وميسورة الحال، “وخرج من البيت طفلاً مميزاً شاعراً بذاته، لينمو هذا التميز والشعور بين أقرانه وزملائه في الشارع وفي المدرسة، ففي المدرسة كان العريف والناظر يعنيان بالتدريس له على حدة داخل الفصل في شبه درس خصوصي… وعلى هذا النحو نما سيد قطب في القرية ونما معه شيئان: الإحساس بالذات والأمل الذي غرسته أمه وراحت تؤكده منذ مولده”.
ولقد عبر هو عن ذلك في رثائه لها سنة 1940م قائلاً: “لقد كنتِ تصورينني لنفسي كأنما أنا نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً، وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فيتسرب في خاطري أنني عظيم وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي من نسيج خيالك ووحي جنانك”.
أقول: هكذا ينبغي أن يكون دأب الأبناء الصالحين الأبرار تجاه والديهم الأخيار. العرفان بالجميل وعدم نكران النعمة واعتراف لهما بالفضل، وعلى هذا المنوال يجب أن تكون طريقة أمهات اليوم في تربية أولادهن، والله أعلم.
خصائص طفولته
امتازت طفولة سيد قطب رحمه الله بعدة خصائص منها:
الأولى: خياله تجاه عبارات القرآن وأمثاله: حيث يتحدث عن نفسه في هذا الصدد قائلاً: “قرأت القرآن وأنا طفل صغير ولا ترقى مداركي إلى آفاق معانيه، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه ولكن كنت أجد في نفسي شيئاً. لقد كان خيالي الساذج الصغير يجسم لي بعض الصور من خلال تعبير القرآن.
إنها لصورة ساذجة ولكنها كانت تشوق نفسي وتلذ حسي. من الصور التي كانت قد ترتسم في خيالي إذ ذاك صورة كانت تتمثل لي كلما قرأت الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١]، لقد كان يشخص في مخيلتي رجل قائم على حافة مكان مرتفع (مصطبة؛ فقد كنت في القرية) أو قمة تل ضيقة (فقد رأيت التل المجاور للوادي) وهو قائم يصلي، لكنه لا يملك موقفه؛ فهو يتأرجح في كل حركة ويهمّ بالسقوط، وأنا بإزائه أتتبع حركاته في لذة وشفقة عجيبين”!
الثانية: رغبته العارمة لمطالعة الكتب وقراءتها: مثل كتب كرامات الأولياء والصالحين وغيرها من الكتب العلمية والثقافية”.
الثالثة: استعلاؤه على الظلم والظالمين: كراهيته للإنكليز الذين شاهد آثارهم صوراً حية من الحرمان والتخلف الاجتماعي والثقافي وفساد القوانين، جعلته يشعر حينما كبر بالخجل كلما استرجعها، وبالازدراء لنفسه ولشعبه لأنه صبر على هذا البلاء”.
هكذا يكون شأن الأطفال النابغين والعباقرة الموهوبين، يلاحظ لديهم علامات وسمات النبوغ والموهبة منذ صغرهم، وذلك بطرح أسئلة تبدو غريبة وقوة الحفظ وسرعة الإدراك والاستيعاب لكل ما يُقرأ أو يسمع.. فيجب أن نراعي هذا الشيء فيمن حولنا من أولادنا وطلابنا وغيرنا.. حتى لا نقصر في حقهم والله أعلم.
رحلته ونشاطه العلمي
وأما عن تعلمه، فقد حفظ سيد قطب القرآن وهو في العاشرة من عمره بدافع من نفسه لكي يبرر بقاءه في المدرسة التي أحبها، والتي هجرها معظم أبناء القرية بسبب ما أشيع في القرية من أنها لم تعد تهتم بتحفيظ القرآن.
ثم إنه قرر مواصلة دراسته ومن ثَمّ “غادر سيد قطب القرية متجهاً إلى القاهرة وهو في نحو الرابعة عشرة من عمره إلى خاله، الذي كان يشتغل بالتدريس والصحافة راغباً أن يصبح متعلماً كأخواله. جاء سيد قطب إلى القاهرة في بداية العشرينيات وهو يعرف مهمته، والتحق بإحدى مدارس المعلمين الأولية وهي مدرسة عبد العزيز، فوقف عليها كل اهتمامه منطلقاً نحو غايته وأظهر تفوقاً على غيره في دراسته وحصل على إجازة الكفاءة للتعليم الأولى. وفي عام 1929 م دخل كلية (دار العلوم) في قسم المعلمين وتخرج بعد أربعة سنوات، أي عام 1933م ومن ثم عُيِّن مدرساً في نفس المعهد لأنه كان متميزاً. وكذلك توظف في وزارة المعارف كأستاذ في تحضيرية (الداودية) بمرتب قدره ستة جنيهات”.
وأثناء وجوده في المدرسة والكلية التقى بالأديب والأستاذ عباس محمود العقاد حامل راية تجديد الأدب في مصر، ولازمه ملازمة شديدة وأصبح أحد مريديه، وأعجب بفكره وأدبه وتتلمذ عليه.
ولقد عبر هو بنفسه عن أهمية هذا اللقاء وعن أهمية وعظمة وفضل العقاد حينما قال: “إن العقاد أقوى شخصية لدينا تتعالى على التأثر بالوسط وتستنكف أن تحدها البيئة، وهو الموئل الذي نرتجيه في هذا المضطرب الأدبي الشخصي، بل في مضطرب العواصف الاجتماعية التي تعبث بكيان هذا الشعب. نحسبه أنه الرجل الذي بقي شامخ الأنف على كل الظروف والمآزق في حياته الشخصية وجهاده العام”.
وانتقل سيد قطب في مطلع الأربعينيات بتاريخ 1/3/1940م إلى مراقبة الثقافة العامة بوزارة المعارف للعمل كمحرر عربي فيها، ومنها ندب إلى إدارة الترجمة والإحصاء بتاريخ 17/4/1940م، ثم عمل مفتشاً بالتعليم الابتدائي بتاريخ 1/7/1944.
عاد من عمله كمفتش في أبريل 1945م إلى الإدارة العامة للثقافة التي كان يرأسها أحمد أمين، ومع بداية تلك الفترة كانت خطواته في النقد الأدبي قد اتسعت وتميزت من خلال منهج أدبي مستقل، حتى كان من نتائج ذلك كتاباه النقديان: (كتب وشخصيات)، (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) ولكنه لم يَجنِ من النقد الأدبي إلا خصومات وصراعات نالت منه ومن مكانته التي سعى لتأكيدها.
ويظهر مما سبق أنه كان لسيد قطب نوع من الاستقلال الفكري والاعتماد على نفسه والإظهار لقدرته العقلية والأدبية، لأنه كما تذكر المصادر كان ناقداً شديداً وحاد اللسان، فَقَدَ لأجله كثيراً من الأصدقاء والأحباب لعدم موافقته لآرائهم.
سيد قطب في أمريكا
وفي 3/11/1948م سافر سيد قطب إلى أمريكا في بعثة علمية من وزارة المعارف للتخصص في التربية وأصول المناهج الأمريكية. ولا يستبعد أن الهدف المنشود من ابتعاث سيد إلى أمريكا كان أن الجهات الرسمية في الدولة بدأت تحس بخطورة هذا الرجل بسبب كتاباته وانتقاداته، ففكروا في كيفية تغيير اتجاه هذا الرجل وآرائه، وتخليه عن تلك الأفكار الإسلامية التي يدعو إليها.. فلم يجدوا حلاً إلا أن يخرجوه من البلد وأن يذهبوا به مكاناً قصياً، واختاروا أمريكا بلداً لتغيير منهج هذا الرجل واستبدال عقليته بعقلية غربية أمريكية ﴿.. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
أحدث سفر سيد قطب إلى أمريكا تغييراً جذرياً في فكره، ولكن على عكس ما كانوا يتوقعون منه! فلقد ازداد الرجل إيماناً ويقيناً بالله أكثر، استيقن أن ما عند الإسلام من منهج ونظام وعقيدة للحياة هو الحق وأن ما عند غيرهم هو الباطل.. وعندما رجع سيد قطب من أمريكا ألف كتابه: (أمريكا التي رأيت)، وكان قد زود نفسه وفكره بالإيمان والشعور بالمسؤولية التي على عاتقه كداعية ومفكّر. كان من المتوقع من عودة سيد من أمريكا أن يكون هو أحد جُند الحكومة المصرية ومؤيديها! ولكن إذا أراد الله أمراً فلا مكان لإرادة الناس، وهذه سنة إلهية ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ فقد أصبح سيد قطب من كبار المعارضين للحكومة في وجهة نظرهم، والتي بسبب تلك الأفكار الإسلامية الخالصة دفع حياته ثمناً لها ولقي ربه.
انضمام سيد قطب إلى جماعة الإخوان المسلمين
كان لمرشد ومؤسس جماعة الإخوان الشيخ الأستاذ حسن البنّا رحمه الله تأثير كبير وبالغ على حياة وفكر الأستاذ سيد قطب، لقد أعجب سيد قطب بحسن منهجه وبراعة تربيته وبناء الشخصية المسلمة، في إعداد الإخوان الذين كان يدربهم على فهم أبعاد الدعوة إلى الله بناء متوازناً، يجمع الروح والعلم والحركة من جهة وبين المدارس الإسلامية المتخصصة كالصوفية والسلفية والمذهبية من جهة، وفي البناء التنظيمي للجماعة وقد كان هذا البناء هو الأول من نوعه بالنسبة للعمل الجماعي المتجسد في صورة حزب إسلامي.
وتذكر بعض المصادر الأخرى أن سيد قطب قبل سفره إلى أمريكا ألف كتابه المشهور: (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وكان قد أهدى نسخة من هذا الكتاب إلى الإخوان. ويبدو لي أن هذا التصرف من سيد قطب كان بمثابة وضع اللبنة الأولى في تأسيس علاقته مع الإخوان فيما بعد.
هناك حدثان بارزان جعلا سيد قطب يفكر في الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن يئس منهم! كما قال ذلك هو بنفسه:
الحدث الأول: أنه أثناء وجوده في أمريكا أشيع خبر اغتيال زعيم الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا في 12/2/1948م، مما جعل الشعب الأمريكي يفرح فرحة شديدة لم يكن لها مثيل من قبل.
والحدث الثاني:كان هناك رجل من المخابرات البريطانية اسمه: James Heyworth Dunne، وكان يحذر سيداً من جماعة الإخوان، ويخبره أن الإخوان وحدهم يقفون حاجزاً أمام تقدم الحضارة الغربية في الشرق.
فهذان الحدثان حرّكا مشاعر سيد قطب لدراسة فكر حسن البنا بتعمق وجديّة أكبر، وأثارا اهتمامه بحركة الإخوان كتنظيم وحاجة ضرورية للدفاع عن الإسلام.
فعندما عاد سيد قطب من أمريكا استقبله وفد كبير من الإخوان استقبالاً حاراً مما كان له الأثر الكبير في مشاعره تجاه الإخوان، ولكنه إلى هذه اللحظة لم يكن قد انضم إلى جماعتهم رسمياً. وهذا التقرب أخذ يزداد يوماً بعد الآخر عندما بدأ سيد قطب يكتب في مجلة (الدعوة) الإخوانية منذ فبراير 1951م إلى أن دعي في أوائل 1953 ليشارك في تشكيل الهيئة التأسيسية للجماعة تمهيداً لتولية الإشراف على إدارة الدعوة، وهي إحدى الإدارات المركزية بالمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة. وفي عام 1953م عُين سيد قطب رئيساً لتحرير المجلة الأسبوعية للإخوان المسلمين التي مُنعت من الصدور عام 1954.
وللحديث بقية في العدد القادم، إن شاء الله تعالى.