
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
أغسطس 18, 2025
مشروع إي 1 الاستيطاني يهدد بتهجير بدو القدس قسرًا
أغسطس 18, 2025د.سلمان العودة-فك الله أسره
لقد قرأتُ معظم كُتب سيد قطب، وإن شئت فقل: كل كتبه، كما قرأت كثيراً مما كُتب عنه، ولعل أوفى كتاب في هذا الباب، هو كتاب: (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) للدكتور صلاح الخالدي، وللدكتور عناية خاصة بالأستاذ سيد، وآخر مؤلفاته حوله رسالة كبيرة نشرت ضمن (سلسلة أعلام المسلمين).
والملحوظ أن الناس في سيد، وفي غيره، يكون فيهم المتوسط المعتدل، الذي ينظر بعين الإنصاف والتجرد والتحري. ويكون فيهم المتطرف الذي يقع في التعصب والهوى، وسيان أن يكون التعصب ضد الشخص، مما يحمل على رد الحق الذي معه، وتصيد الأخطاء عليه، وتفسير كلامه على أسوأ الوجوه وعدم الاعتبار بالمتقدم والمتأخر من كلامه، أو أن يكون التعصب له مما يحمل على أخذ أقواله دون تحفظ، والغفلة عن أخطائه وعثراته، والدفاع عنه بغير بصيرة، بل وربما اعتقاد العصمة في المتبوع بلسان الحال، أو بلسان المقال.
وقد قال النبي ﷺ: “الكِبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس”1.
والذي يخاف الله.. يتورع عن أعراض عامة المسلمين، فضلاً عن خاصتهم، من أهل العلم والدعوة والجهاد والدين.
والذي أدين اللهَ به:
أن الأستاذ سيد قطب من أئمة الهدى والدين، ومن دعاة الإصلاح، ومن روّاد الفكر الإسلامي.
سخّر فكره وقلمه في الدفاع عن الإسلام، وشرح معانيه، وردّ شبهات أعدائه، وتقرير عقائده وأحكامه، على وجه قلّ من يباريه أو يجاريه في هذا الزمان. وكان حديثه حديث المعايش الذي لابس همّ الإسلام قلبه، وملك عليه نفسه، قد شغله الحزن على الإسلام، والغضب له، حتى عن ذاته وهمومه الخاصة.
وكتابه (الظلال) يُعد إضافة كبيرة لدراسة التفسير، واستطاع فيه أن يستوعب كثيراً مما كتبه المتقدمون، وأن يبني عليه رؤيته الخاصة المتميزة، وفهمه الثاقب، ودراسته الغزيرة، وأن يقرن آي الكتاب بحياة الناس المعاصرة، حتى يشعر قارئه أن القرآن ليس كتاباً نزل لبيئة خاصة في المكان والزمان، ولكنه هداية للناس أجمعين، أيًا كان زمانهم أو مكانهم.
ولقد استفاد الأستاذ سيد من (تفسير ابن كثير) فائدة غنية، ونقل عنه، وربما اعتمد عليه خصوصاً في باب المرويات والأقاويل، بل وفي أوجه الاختيار والترجيح.كما انتفع بما كتبه الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره (المنار) فيما يتعلق بربط هداية القرآن بنتائج العلم والبحث الإنساني والاجتماعي والعمراني، وفيما يتعلق بالتجرد عن التعصب والتقليد.
ولكن يبقى (الظِّلال) شيئاً آخر غير هذا وذاك.
نعم، ليس الكتاب تفسيراً لآيات الأحكام، ولهذا فهو لا يُغني عن مثل كتاب القرطبي، أو ابن العربي، أو الجصاص، أو غيرهم، خصوصاً للمهتمين بمعرفة المذاهب الفقهية، والترجيح بينها.
وليس تقريراً مفصلاً أو تعليمياً، لكليات العقيدة وجزئياتها؛ فهو لا يُغني عن قراءة ما كتبه الإمام الفذ ابن تيمية، أو تلميذه العلَم ابن القيم، في تقرير العقيدة والذب عنها، ومناظرة خصومها.
بل ووقع في (الظِّلال) عثرات في هذا الباب وفي غيره، ولكنها يسيرة إلى جنب ما فيه من الخير والعلم والإيمان.
ومن ذلك -تمثيلاً- اضطرابه في باب الاستواء، كما يعرفه مَن راجع تفسير هذه الآية في مواضعها السبعة المعروفة، ووقع منه في بعضها أن الاستواء كناية عن السيطرة والاستعلاء، وهذا خطأ، والصواب: أن الاستواء كما قال مالك: “معلوم من حيث المعنى، مجهول أو غير معقول من حيث الكيفية”. وقد ذكر الأئمة في معناه: العلو، والاستقرار، والارتفاع والصعود، والله أعلم.
ومن ذلك أنه يسمي توحيد الألوهية الذي هو توحيد العبادة باسم: توحيد الربوبية. ويسمي توحيد الربوبية باسم: توحيد الألوهية، وهذا خطأ في اللفظ، لكنه -رحمه الله- كان شديد الوضوح في إدراك هذه المعاني والحقائق وتقريرها.
ومن ذلك أنه كتب فصولاً موسعة في موضوع الدعوة ومنهجها، والموقف من المجتمعات المعاصِرة، وكتب ذلك بعاطفة مشبوبة، ولغة قوية، وغَيرة على الدين وعلى المسلمين. حمّلها بعض قارئيه ما لا تحتمل من المعاني واللوازم، وتعاملوا معها على أنها نصوص تقرأ بحروفها وألفاظها وتُحفظ وتُتلى، ويُستشهد بها في مواطن النزاع، ومضايق الجدل والمناظرة والخصام.
وبنى بعض هؤلاء على هذه القراءة الحرفية الضيقة تكفير الناس كافة، أو التوقف بشأنهم أو الهجرة من ديارهم، إلى أين؟! لا أدري!
وبنى آخرون عليها فكرة الانفصال عن المجتمعات، وترك العمل فيها، واعتزالها، وفُهمت كلمة سيد -رحمه الله- عن (العزلة الشعورية) بتكثيف قوي، وترميز شديد، جعلَها بؤرة العمل والانطلاق.
والحق أن القراءة الحرفية الظاهرية لتراث كاتب ما، ليست أمراً خاصاً وقع مع سيد قطب -رحمه الله- وحده ، لكنها مُشْكلة تراثية، يعاد إنتاجها الآن مع عدد كبير من رموز العلم والفقه والدعوة والاجتهاد، من المتقدمين والمعاصرين.
وقد يكتب العالم بحثاً، أو يقدم اجتهاداً، أو ينتحل رأياً في مسألة، وينتصر له بحسب ما توفر لديه آنذاك، فيأتي الخالفون فيقرؤون نصه بقدسية تأسر عقولهم، وتجعل همهم مقصوراً على إدراك النص وفهمه، ثم تقريره وتوسيع دائرته، ثم الاستشهاد له ومدافعة خصومه.
ولذلك لا يدري كل أحد، أن الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية وغير الفقهية، لم يكونوا يشعرون أنهم يؤسسون مذهباً، ويقيمون بناءً خاصاً، راسخ القواعد، مكتمل الأركان، حتى جاء مَن بعدهم فأصّل وفصّل، وجمع النظير إلى النظير وتعامل مع كلام الأئمة بحَرْفية بالغة، بل عدّ بعضهم كلام الإمام ككلام الشارع، من جهة المنطوق والمفهوم، واللازم، والقياس عليه، والناسخ والمنسوخ، والظاهر والنص… إلخ.
هذا مع شدة نهي العلماء عن التقليد، حتى إن منهم مَن كان ينهَى عن تدوين آرائه الفقهية، ويحذّر من تناقلها. وكلما كان العالم أوسع انتشاراً، وأكثر أتْباعاً، وأوغل في الرمزية –لأي سبب– كان الأمر بالنسبة له أشد، وكانت المشكلة أظهر، لكنها تخفّ تدريجياً بتقدم الزمن، ولو من بعض الوجوه.
هذه ليست مشكلة العالِم أو المفكر، بقدر ما هي مشكلة القارئ أو المتلقي. وأياً ما كانت فهي مما يحتاج إلى بحث ودراسة.
وقديماً كان علي رضي الله عنه يقول قولته المشهورة: “يهلك فيّ رجلان: غالٍ وجافٍ”.
والخلاصة:
أن سيد قطب وغيره من أهل العلم يُؤخَذ من قولهم ويُترك، ويصيبون ويخطئون، ويُردون ويُردَ عليهم، وهم -إن شاء الله- بين أجر وأجرَين، ولئن حُرموا أجر المصيب في عشر مسائل، أو مائة مسألة فلعلهم -بإذن الله– ألّا يُحرموا أجر المجتهد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ