
نحو منهجي حركي في قراءة السيرة النبوية (4)
يونيو 16, 2025
﴿كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾
يونيو 16, 2025بقلم: أ.د. جمال بن عمار الأحمر الأنصاري – سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ- الجزائر
السوابق ضرورة منطقية في الفهم؛ ولذلك نجد في منهجية البحث العلمي أساساً تشكله الدراسات السابقة، ونجد في الفحص الطبي أولوية الاطلاع على السوابق المرضية الشخصية والعائلية.
وبناء على قانون الهوية المنطقي؛ فإن التأكد من الهوية الشخصية لأي نبيٍّ من الأنبياء يحتاج إلى معرفة سوابقه المبرهنة على نبوته أو رسالته! وهنا سوابق شخصية دالة على نبوة محمد بن عبد الله ﷺ نجادل بها كل ذي عقل سليم!
نسبه ﷺ شريفٌ من زواج لا من سفاح
سِياقُ كل موضوع يُتيح فهمَه بسهولة، وسياق موضوع النبوة مُفتقر إلى وجود الطهارة فيه، بدءاً بالنسب.
لم يكن في نسبه ﷺ ما يُشان الناس به، بل هو نسب طاهر، كله من زواج، وليس فيه سفاح الجاهلية.
وقد أشار الله تعالى إلى شرف نسب النبي ﷺ في سياق الامتنان على قريش -والناس جميعاً- ببعثة رسول الله ﷺ في نسبٍ شريفٍ فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
نسبه ﷺ لا ملوك فيه ولا مملكة
النيّة مسألة باطنية خفية، لكن لها مؤشرات، ومن خلال مؤشراتها يمكن استنباط مقاصدها. ومن ذلك ما يقوم به القضاة وأعوانهم حتى يكشفوا عن النيات الحقيقية الكامنة وراء المظالم. وهذا ما انتبه إليه هرقل، فاختار طرح أسئلة دقيقة سابرة.
لم يكن أحد من أجداد النبي ﷺ ملكًا؛ كانت لقبيلته مكانة اجتماعية عند الناس، لما يرونه من طيب أفعالهم، وحسن شمائلهم، ولكنهم لم يكونوا ملوكاً.
وعدم وجود ملك في أجداد النبي ﷺ يبعِد عنه شبهة أنه ﷺ طالبُ ملكٍ قديم من خلال ادعاء النبوة. وهو مما استدل به هرقل، فقال لأبي سفيان: “سألتك إن كان في آبائه ملكٌ؟ فقلتَ: لا. فقلتُ: لو كان في آبائه ملك لقلتُ رجلٌ يطلبُ ملكَ أبيه”. وكان السؤال عن نسب النبي ﷺ من الدلالات التي بحث عنها هرقل، لما سأل أبا سفيان تلك الأسئلة العشرة، ليتأكد من صدق نبوة النبي ﷺ.
رؤيا أمه ﷺ، أنه خرج منها نورٌ أضاءَ لها قُصورَ الشَّام
الرؤى تعطي علماً يقينياً، فهي من مصادر المعرفة في الإسلام؛ وهي ثلاثة أنواع: منها ما هو من الشيطان لا يفيد علماً، ومنها ما هو من النفس وقد يكون صادقاً بنسب مئوية متفاوتة، ومنها ما هو من الله وهو صادق وقد يحتاج إلى تأويل، والتأويل يطابق الحقيقة بنسب متفاوتة، لكن ملحدي علم النفس لا يؤمنون إلا بالمنامات النفسية.
ولنا من أدلة نبوة محمد ﷺ رؤية أمه حين حملت به، وقد قصَّها النبي ﷺ لـمّا سُئل: أخبرنا عن نَفسِك. فقال: “نعمْ، أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاءَ لها قُصورَ الشَّام.. “.
بركة حلَّت بحليمة السعدية ودارها ومواشيها ومراعيها عند إرضاعه ﷺ
سياق النبوة يستدعي تحول بعض الأحوال إلى الأحسن بطريقة غير عادية في الأفراد وظروفهم ومجتمعهم.
لم تكن حليمة المرضعة لتظن فيما حدث لها إلا أنه خير وبركة، فهي التي عاينت بركته ﷺ منذ أن التقت به.. هي التي جاءت إلى مكة على دابة ضعيفة، لتبحث عن طفل ترضعه، فلما أخذت النبي ﷺ، وحملته معها على تلك الدابة إذا بها تسبق صاحباتها، حتى قلن لها: إنك قد أخذت نسمة مباركة! لقد در حليبها بعد جفاف لما احتضنت محمداً ﷺ، وكثرت بركة قطيعها بعد أن أخذته إلى ديار بني سعد لينشأ فيها تقول: “فأمسيت، وأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت ولدي أيضاً”. بل حلت البركة على كل ما في ديار حليمة.. كثر حليب ماشيتها، وحلت البركة في مراعيها.
حادثة شق جبريل صدره ﷺ
وسياق النبوة يستدعي وقوع أحداث غير عادية لصاحبها قبل أن يكتشف حقيقة نفسه كاملة مع رسالته.
فحادثة شق صدر النبي ﷺ كانت من تلك الأحداث العجيبة المبشرة بالطهارة التامة لذلك الطفل.. كان يلعب مع مجموعة من الأطفال، فأتاهُ جبريلُ، فأخذهُ فشَقَّ عن قَلبِه، فاستخرجَ القلبَ، فاستخرجَ منه عَلَقَةً، فقال: “هذا حَظُّ الشَّيطانِ منكَ”، ثمَّ غسلهُ في طِسْتٍ من ذهبٍ بماءِ زمزمَ، ثمَّ لَأَمَهُ، ثمَّ أعادهُ في مكانِه.. لقد رأى الأطفال هذا المشهد، وأسرع إخوته في الرضاع إلى مرضعته حليمة وهم يقولون: “إنَّ محمَّدًا قد قُتل”! ثم أتى ﷺ وقد تغير لونه.. قال أنسٌ: “وقد كنتُ أَرى أثرَ ذلكَ المِخْيَطِ في صدرِه”.
سحابة تظله ﷺ، في سفر التجارة
سياق النبوة يستدعي أحوالاً في الطبيعة غير معهودة؛ إذ غير بعيد من ذلك ما رآه الناس لما خرج النبي ﷺ وهو طفل مع عمه أبي طالب إلى الشام، حيث كانت سحابة تظلله في سفره.
سلام الحجر عليه ﷺ
ما زلنا عند مؤشرات النبوة من خلال الطبيعة؛ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “إني لأعرف حجراً بمكة كان سلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن”.
المشركون يدعونه ﷺ، الصادقَ الأمين
وسياق النبوة يظهر حتى في السلوك الشخصي؛ فهذا جده عبد المطلب يتوسم فيه خيراً.. كان من عادته أن يجلس عند الكعبة على فراش خاص به، ويجلس حوله أبناؤه، ولا يجلس أحد معه هيبة له، إلا محمداً ﷺ كان يأتي ليجلس بجانب جده، فيحاولون إبعاده، فيقول عبد المطلب: “دعوا ابني، فوالله إن له لشأناً”. ولذلك كانت وصيته عند وفاته أن يكون النبي ﷺ في كفالة أبي طالب.. ونعم الكفيل هو!.
لقد بادر الناس إلى استحضار هذه الصفات كأمور مسلّمة معلومة لديهم إذ جمعهم النبي ﷺ لما أراد أن يجهر بالرسالة فسألهم أولا: “أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم؟” فيبادرون بالجواب: ما جربنا عليك إلا صدقاً..
نعم.. حتى بعد جهره ﷺ بدعوته، وبعد معاداة قريش له، كان بيت النبي ﷺ مكاناً يحفظون فيه أماناتهم، وأموالهم.. قال ابن كثير -متحدثاً عن الهجرة-: “أما عليٌّ فإن رسول الله ﷺ أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله ﷺ الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ﷺ وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته”.
حفظ الله له ﷺ، قبل البعثة من الشرك والكبائر والمعاصي
الثبات صفة من صفة قوة الشخصية، والشخص القوي الشخصية يظهر ثباته عند اختلاف القوم وعند هجوم الزعازع. وفي إطار سياق النبوة، هذا ما ظهر عند مراجعة شخصية رسول الله ﷺ.
ها هو عليه الصلاة والسلام ينشأ في مكة، يعيش فيها ريعان شبابه.. نشأ محفوظاً.. محفوفاً بالطهر والكرامة.. حفظه الله تعالى من تلك الخبائث التي كان يقع فيها شباب مكة وشيبها؛ فلم يسجد لصنم، ولم يشرب خمرًا، ولم يدخل في موطن من مواطن اللهو والغناء التي كان الشباب يلهون فيها .
حتى عورته حفظها الله تعالى من الظهور، يقول العباس -عم النبي ﷺ-: “لما بنت قريش الكعبة، انفردت رجُلين رجُلين، ينقلون الحجارة، فكنتُ أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أُزُرَنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنَونا من الناس لبسنا أُزُرَنا، فبينما هو أمامي إذ صُرع، فسعيتُ وهو شاخصٌ ببصره إلى السماء، فقلت لابن أخي: ما شأنك؟” قال: “نُهيت أن أمشي عُرياناً”. قال: “فكتمته حتى أظهر الله نبوته”.
زوجه ﷺ، خديجة تعرف سمو أخلاقه
حس الأنثى خطير، لا يعرفه الرجال! وقد برهنت خديجة رضي الله عنها على تفوقها في هذا المجال!
لما رأى النبي ﷺ جبريل في أول مشهد له، فرجع خائفاً إليها، فما كان منها ألا أن تجزم بأنه أمر خير.. لماذا؟ لأنها تعلم أن كل حياته ﷺ كانت خيراً، فلا تكون عاقبته إلا إلى خير.. هذا هو عدل الله تعالى.. لذلك تستقبله وتهدئ من روعه بهذه العبارات الجامعة: “كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ”.
طفل يختاره ﷺ على والديه!
الذكاء النفسي ثابت الوجود علمياً، وقد يحوزه الأطفال بتفوُّق. وهذا ما كان عند الطفل زيد بن حارثة.
زيد بن حارثة انتهي به الأمر عبداً في مكة وهو في سن الثامنة تقريباً، ثم يَـمُنُّ الله تعالى عليه بأن يكون في رعاية النبي ﷺ، ثم يعلم حارثة والد زيد مكان ابنه، فيأتي إلى مكة ويطلب ابنه من النبي ﷺ مقابل مال يدفعه، فيعرض عليه النبي ﷺ عرضاً آخر.. يرد الأمر إلى زيد، فإن اختار أهله فيذهب معهم بغير مال، وإن اختار النبي ﷺ فيبقى معه، فتكون المفاجأة: “واللَّهِ لا أختارُ عليكَ أحدًا!”.
ذائعاتٌ لا تصح
قال الشيخ صفي الرحمن في (الرحيق المختوم): “وقد رُوي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبري والبيهقي وغيرهما، وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعي التسجيل”. ا.هـ.
الخلاصة
وُجدت إشارات ودلائل وأحداث في النفس والطبيعة حيرت جمعاً من الناس أفراداً وجماعات في حقيقة شخصية محمد ﷺ وليداً، ورضيعاً، وحَزْوَراً، ويافعاً، وفتى، وكهلاً! وكانت تلك دلائل نبوته ﷺ.