
اقتحامات ليلية واسعة في الضفة الغربية
أكتوبر 17, 2025
صفعتُها.. فهل ينتقض وضوئي؟!
أكتوبر 17, 2025علي مصطفى نعمان-رحمه الله
في يوم 8/ 12/ 1948 صدر الأمر بحل جماعة الإخوان في مصر وأصدر القائد العام للجيش المصري في فلسطين اللواء فؤاد صادق أمراً إلى جميع قواد الإخوان والسرايا والفصائل للحضور إلى معسكر البريج، وقد سبق هذا الأمر مقابلة بعض كبار ضباط الجيش، واجتمع كل من كان بالمعسكر من جنود الاحتياط وجميع القوات في مسجد المعسكر، ووقف اللواء فؤاد صادق خطيباً فقال:
إن الأوامر صدرت إلينا من القاهرة باعتقال جميع الأفراد سواء من كانوا بالمعسكر أو في المواقع، على أن يستخدم الجيش الأسلحة والدبابات لتنفيذ هذا الأمر، غير أنني لا يمكن أن أفعل ذلك لأني أعلم جيداً أن تلك القوة قاتلت قتال الرجال وفاقت في قتالها تلك القوات التي تمتلك الأسلحة والعتاد.. فأنتم قد شرفتم بلادكم وأمتكم ووضعتم بصماتكم في التاريخ العسكري لقتال المصريين المتطوعين في فلسطين. وأضاف: إذا عرض ابني في السوق للبيع وعرض هذا الأخ -وأشار إلى إسماعيل حافظ الذي لم تكن سنه قد تجاوزت السبعة عشرة عاماً- لاشتريت هذا الأخ، وإنني أدعوكم إلى انسحاب جميع قواتكم من جميع المواقع إلى المعسكر وستكونون أحراراً في تحركاتكم للترفيه عن أنفسكم، وقد نحتاجكم إذا حدث قتال.
واستمر الاعتقال لمدة سنة في رفح ثم العريش.. حتى زوال حكم السعديين.
كلمة قائد الإخوان
ثم قام الأخ كامل الشريف قائد الإخوان فقال:
أولاً: نرحب بزيارة القائد العام الذي كنا نود أن نراه زائراً في غير هذه الظروف.
ثانياً: ما كنا نودّ أن نسمع ذلك التهديد الذي بدا في كلمة القائد العام، وهو يعلم جيداً أن الذين قاتلوا اليهود في نصف أرض فلسطين وأمنوا تقدم الجيش وقاموا بكل ما هو مطلوب سواء في الفالوجا أو على مشارف القدس أو في المنطقة الجنوبية كلها.. لن يكونوا جبناء في الدفاع عن أنفسهم ومقاتلة الذين يغدرون بهم.. وهم في هذا الأمر لا يهابون شيئاً.
ثالثاً: إن انسحاب الإخوان من مواقعهم قد يكلف القوات المصرية ثمناً باهظاً وذلك باحتلال تلك المواقع ومنها سوف تنطلق القوات اليهودية لمحاربة الجيش المصري، وكنا نود ألا يكون هناك دخل للسياسيين في أرض المعركة، بل يسعدني ويشرفني أن أخبر القائد العام أن المرشد العام الأستاذ حسن البنا أرسل إلينا رسالة شفهية مع رسول قد حضر إلينا وأمرنا بالاستمرار في القتال دون الالتفات إلى ما يجري في مصر للإخوان.
وقام الأخ حسن دوح فأكد ما قاله القائد كامل الشريف، فردّ القائد العام بالشكر، وقال: أرجو أن تقدروا موقفي مع القيادة العليا في مصر وتنفذوا أمر الانسحاب وإنني أدرك الخسارة التي سوف تنجم عن إخلائكم لتلك المواقع، ولكن دعوني أدبر الأمر باعتباري القائد العام بفلسطين وما عليكم إلا الانسحاب.
وانتهى المؤتمر الصغير، واجتمعت قيادة الإخوان للتشاور، خاصة أن المرشد العام حسن البنا قد أرسل رسالة شفهية قال فيها: احذروا ألا تؤدوا أمانة القتال التي وضعها الله في أعناقكم دفاعاً عن دين الله في أرض فلسطين التي يريد أن يغتصبها اليهود ويجلوا عنها أهلها عرب فلسطين.
وعلى ضوء هذه الأحداث قررت القيادة تنفيذ أمر الانسحاب حقناً للدماء ونزولاً على أوامر القائد العام الذي لا يحق لنا مخالفة أمره؛ لأن القوات المصرية هي التي تقوم بعملية الإمدادات عموماً سواء كانت أغذية أو معدات أو ذخائر وما إلى ذلك، وتم الانسحاب من كافة المواقع سالفة الذكر في المنطقة الجنوبية من صحراء النقب.
احتلال مواقع الإخوان
في نفس الليلة التي انسحب فيها الإخوان من كافة المواقع الحصينة التي حالت بصفة مستمرة دون أن تجمع قوات العدو لحماية ظهر القوات المصرية المتمركزة في المنطقة الجنوبية من صحراء النقب، احتل اليهود كافة المواقع سالفة الذكر، ولم يمر أسبوع حتى تجمع العدو في حشد هائل لقواته وألقى بها في معركة كبيرة، تلك هي معركة التبة 86 وسيطروا على مساحة تربو على 700 كم مربع دون قتال ومنها انطلق العمل ضد القوات المصرية.
معركة التبة 86
يقع هذا الموقع في مواجهة قرية خان يونس التي تقع على الطريق الرئيسي الذي يربط رفح بمدينة قطاع غزة، وتقع المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
الخطة اليهودية
هي احتلال مواقع التبة 86 ومنها تندفع القوات الصهيونية لاحتلال خان يونس وتتجه شمالاً إلى غزة وبيت حانون، ثم إلى دير البلح ومعسكرات الفدائيين جنوباً وفي اتجاه رفح لتمشيط كافة المواقع الموجودة في هذه المنطقة للجيش، وبهذا تتم محاصرة القوات المصرية التي سوف تصبح متناثرة وليس لها خطوط إمدادات وبالتالي تجبر ما تبقى من هذه القوات على إخلاء كل مواقعها والانسحاب من الفالوجا المحاصرة والتي قام الإخوان بإمدادها بالمؤن والذخائر والمواد الطبية وغيرها من مواد الإعاشة، وفي هذه الحالة فلن يكون أمام هذه القوات إلا التسليم بدون قيد أو شرط.. وإلا التدمير.
الجيش يستعين بالإخوان وهم رهن الاعتقال
في يوم 21 ديسمبر 48 حضر إلى معسكر البريج لفيف من كبار ضباط الجيش المصري في فلسطين على رأسهم أركان حرب القوات اللواء نعمت واللواء محمود رأفت وقالوا لنا: إن قتالاً شديداً قد وقع على القوات المصرية المرابطة في التبة 86 في مقابل خان يونس، وإن هناك أمواجاً من الإسرائيليين يُلقى بهم في أتون المعركة لاحتلال مواقع التبة.
وأضافوا: ونحن بدورنا نشترك الآن بقوات ضخمة من الجيش في هذه المعركة، وإذا قدر واحتلت هذه التبة فلن يكون للجيش بقاء في فلسطين، وعلى قيادة الإخوان أن تجهز قوة ضاربة قد نحتاجها في اللحظات الأخيرة إن لم نوفق في الاحتفاظ بمواقعنا.
واستطرد الضباط: لقد عرفنا أنكم لا تهابون الموت في سبيل الله، وليس هناك أقدر منكم على اقتحام المواقع والالتحام مع هؤلاء الخبثاء، وهذا أملنا فيكم إن شاء الله، ثم انصرفوا.
الاستعداد للمعركة
صدر الأمر من الأخ كامل الشريف قائد القوة إلى جميع القواد: حسن دوح، فوزي فارس، ونصر جاد، وسيد الشراقي، بالاستعداد لخوض معركة التبة 86 الفاصلة، وقامت القيادة بتجهيز خمسة وأربعين رجلاً من خيرة المقاتلين، ولا تعجب إن كنا نقاتل اليهود بأعداد قليلة فإنها تصبح في أعينهم كثيرة بإذن الله، وفور انتهاء إعداد هذه القوة حضر إلينا الضباط الذين سبق ذكرهم وطلبوا منا التحرك نحو دير البلح حيث الموقع على وشك السقوط من أيدي القوات المصرية.
وتحركت هذه القوة إلى دير البلح بالأسلحة الأتوماتيكية وبنادق البويز المضادة للمصفحات وستة مدافع 81 مم، وهناك في دير البلح قبعت القوات في سياراتها على أمل إنهاء المعركة بقوات الجيش المصري، وبزغ نور الفجر وصلينا في أماكننا وسطعت الشمس، ثم صدرت الأوامر إلينا بأن نتقدم صوب أرض المعركة، لقد احتلت القوات اليهودية المواقع من الجيش المصري، وقال القائد نعمت: لا أمل إلا فيكم.. فقلنا: على الله ربنا توكلنا.
وعند تقدمنا كانت دهشتنا كبيرة، إذ لاحظنا أن كماً هائلاً من الأسلحة والمدرعات في مكان المعركة وكأنها مظاهرة عسكرية، لكننا لم نلحظ أي سيطرة على تلك القوات، ووصلنا إلى موقع القيادة المتقدمة وحدثنا القائد أركان حرب محمود رأفت بحديث مدح فيه المقاتلين، فقاطعه الأخ فوزي فارس قائلاً له: كف عن هذه اللهجة لأنها تفسد علينا نفوسنا، فنحن لا نقاتل إلا لله وحده وليس لنا عقيدة إلا دين الإسلام الذي يدفعنا إلى هذا الأمر مخلصين لله رب العالمين، ثم أصدر الأخ كامل الشريف أمره بتوزيع القوات لتحرير التبة 86.
كنا خمسة وأربعين رجلاً أذكر منهم الأخ سيد منصور الذي استشهد والأخ سيد عيد الذي أصيب برصاصة والأخ عبد الحميد خطاب، وقد استشهد أيضاً الأخ حسن عزازي واستشهد عدد من الإخوان، كانت هذه القوة جميعاً من المشاة الكوماندوز لاقتحام المواقع عدا قوة المدفعية 81 مم وهم اثنا عشر فرداً تحت قيادتي، وزعت المدفعية بأرض المعركة وكان معي الأخ علي شيحة والأخ حسن الذي كان يمتاز برباطة جأش وشجاعة، وآخرون، وقمت فوراً بتحديد نقاط مراقبة اتجاهات كمية النيران المنصبة من مواقعهم، وبدأت المدفعية بدك حصون العدو، والمواقع التي احتلتها لإحداث الارتباك بين صفوفه، وفي نفس الوقت تقدم الإخوان خلف الدبابات وتحت ستار مدافع الميدان ومدافع الدبابات الصغيرة وقد تحولت المنطقة إلى قطعة ملتهبة من النيران غطت سماء المعركة..
وظلت المدفعية تقذف العدو بالدانات لتتساقط على العدو وبين صفوفه محدثة ارتباكاً لا مثيل له، وفجأة توقفت إحدى الدبابات وكان خلفها الإخوان سيد منصور وعبد الحميد خطاب ضمن المجموعة المتقدمة للاقتحام، وبدلاً من أن يتحرك قائد الدبابة للأمام تحرك للخلف فجأة فوقع تحت عجلاتها الشهيدان فما كان لهذا أن ينال من المقاتلين في سبيل الله..
بل تقدمت جميع القوة وألقى الجيش بأمواج من الجند ثم أطلقت قاذفات اللهب نيرانها في اتجاه العدو، وهنا اقتحم الإخوان المواقع تحت وابل من قنابل الدخان وألقوا بقنابلهم داخل المواقع وقاموا بقتل جميع من فيها، وتم تطهيرها من كافة المعتدين الإسرائيليين، يشاركهم رجال الجيش في اقتحام المواقع.. وتم القضاء على اليهود وقد غطت جثثهم أرض المعركة بشكل لم أشهده من قبل.. وفشل الهجوم، وفر من تبقى من فلولهم تاركين قتلاهم يملأون أرض المعركة.
لقد انتهت معركة التبة 86 وقد لقن اليهود درساً عظيماً في أساليب القتال لن ينسوه، وعاد الجيش يسيطر على موقعه الحصين، وكان عجباً أن أنزل الله تعالى بانتهاء المعركة مطراً غزيراً فرحنا له لأنه جاء بعد نصر ﴿وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ﴾ [الروم: 4-5] وليفرح الشهداء بلقاء ربهم وهم عند ربهم يُرزقون ﴿فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [آل عمران: 170].. وعدنا إلى معسكرنا آمنين.
الشهيد عبد الحميد خطاب
استشهد في التبة 86، وهو من طلبة الأزهر.. لقد ركبنا معاً السيارة من دير البلح في الطريق إلى التبة 86 فأخذته سِنة من النوم وهو جالس معنا، فلما استيقظ كان مستبشراً وقال: “يا إخوتي لقد رأيت (الحور العين) في الجنة ينادونني ويشيرون إليّ وإني والله أحس الشهادة، وأسأل الله أن يرزقني إياها”!
فاستبشرنا جميعاً، فكلنا يحب الشهادة ويطلبها، وقد قاتل هذا الأخ أشد ما يكون القتال لاستعادة التبة، وكان مستتراً بدبابة متقدمة نحو العدو ولكنها فجأة رجعت للخلف لوجود أمطار غزيرة وعدم سيطرة قائدها عليها فقضى الأخ عبد الحميد فنال ما كان يرجوه من الشهادة، وذهب بفضل الله إلى جنات النعيم وإلى الحور العين اللاتي كن يشرن إليه.. لقد تحقق أمله وأصبح حلمه حقيقة ونال الخلود في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين حسن أولئك رفيقاً.
عملية محدودة: الجيش يطلب من الإخوان المعتقلين تلغيم المنطقة
وفي ليلة من ليالي ديسمبر حضر إلى أرض المعسكر ثلاثة من ضباط الجيش، من الفرقة 12 التي كانت تمثل موقعاً متقدماً في المنطقة التي كان يحتلها الإخوان، وهذا الموقع يقع في الجنوب الغربي من صحراء النقب قريباً من مستعمرة كفار ديروم التي أزيلت من الوجود.
قال هؤلاء الضباط: لدينا معلومات أن هناك هجوماً سوف يقع علينا وسوف يكرر اليهود محاولاتهم السابقة لاختراق خطوطنا. وسألته القيادة عن المطلوب فقال: نريد تلغيم منطقة الكريرة حتى تحول دون تقدم أية قوات محمولة على آليات ميكانيكية مدرعات كانت أو دبابات، وكذلك وضع شرَك خداعية للأفراد.
ولما كنا جميعاً على دراية تامة بهذه المنطقة وبدروبها ووديانها فقد صدرت الأوامر إلى قائد المدفعية 81 مم بالقيام بهذه المهمة، وعلى الفور أخذت معي مجموعة من ثلاثة أفراد هم: عبد الرحمن البنان وأبو الفتوح عفيفي وعبد المجيد أحمد حسن، وذهبنا إلى المنطقة، وكانت ليلة حالكة، وبين أشجار الزيتون وبساتين الفاكهة قادنا الضباط إلى موقع القيادة المتقدمة وهو بيت من الطوب اللبن فسيح من الداخل وفي ردهة هذا البيت وفوق الرمال خرج إلينا ضابط طويل القامة حسن المظهر قوي البنية ممسكاً بعصاه تحيط به مجموعة من أركان حربه وقدموه إلينا باعتباره قائد الأورطة 12 أي الفرقة 12، التي عليها حماية تلك المنطقة ما بين خان يونس إلى الحدود المصرية.
وفي غرور متعاظم بدأ في شرح الخطة على الأرض الرملية بعصاه ورسم لنا المنطقة التي يريد أن يملأها بالألغام، وذلك في ضوء لمبة غاز خافت.
ولما كنا والحمد لله نعرف مسالك هذه المواقع قلت له على الفور: لقد فهمنا مرادك ولكننا نريد 600 لغم فقال: ليس في سلاح المهندسين كله ستمائة لغم، وقد لاحظت من أول وهلة أن خطته قامت على الخوف وليس على أساس استراتيجي.
كل ذلك وأمامه أربعة شبان لا يتجاوز الواحد منهم العشرين عاماً، فقلت له: إذن اتركنا للتصرف. قال: فما المطلوب؟ قلت: نريد مائة وعشرة من الألغام. واستأذنته في عصاه التي يمسكها فأعطاني إياها مستغرباً!
قلت: هذه المنطقة -وأشرت إلى جزء من الرسم الذي رسمه على الأرض- يستعاض عنه بهذا الشريط، لأن أي تقدم للمشاة أو المدرعات لا بد أن يمر على هذا الشريط، فوافقني، فأسلمته عصاه، وحضر الجنود وحملوا كمية الألغام إلى المكان المحدد ومعنا بعض الخدع الشراكية للأشخاص وزرعنا جميعاً في شكل مثلثات، وكان الإخوة جميعاً يقومون بالواجب دون تردد وفي صمت وهدوء، بشجاعة نادرة قام كل من عبد الرحمن البنان وأبو الفتوح عفيفي وعبد المجيد أحمد حسن بزرع الألغام وباستكشاف المنطقة حتى بيوت العربان التي في أسفل الوادي، ثم عدنا إلى القيادة بعد أن أتممنا العمل فحيانا ذلك القائد وعدنا إلى معسكرنا.
إقامتنا بالمعسكر
بعد معركة التبة 86 وما تلاها قبعنا في معسكرنا نتعجب من هذه الأمة المستضعفة التي استخف بها حكامها وجعلوا من أنفسهم شركاء لله فأذلوها وتحكموا في رقابها، حتى تقلدوا أرفع المناصب وما علموا أن الصهاينة قد سيطروا على المال والاقتصاد ووجهوا الحكومات الغربية والشرقية، وهم الذين أشعلوا الحربين العالميتين، وهم يعدون في كل ذلك العدة لينقضوا على دين محمد ﷺ وليثأروا من أهله الذين اتبعوه، إن هؤلاء الحكام يجهلون التاريخ أو يتجاهلونه.. نعم لقد دخلنا هذه المعركة ونعلم تاريخ هذه الأمة اليهودية، ولقد صدر قرار حل الإخوان المسلمين في 8/ 12/ 1948 وعرفنا كيفية صدوره، وكيف لعب الإنجليز دوراً فيه.
اللواء فؤاد صادق وتفريطه في أرض المسلمين وسجنه لقوات الإخوان
هنا لا بد من وقفة.. أمام الموقف الذي قام به اللواء فؤاد صادق قائد الجيش المصري بفلسطين، إننا قمنا بالقتال المشرف على أرض فلسطين بما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، بل وأقره كل من اللواء أحمد فؤاد صادق نفسه واللواء أحمد علي المواوي في المحكمة.. فكيف سمح لنفسه أن ينفذ أمراً لملك مخرّب وحكومة فاسدة هي أداة الاستعمار.. إنه كان يملك جيشاً مقاتلاً -وهو قائده- في أرض المعركة، وقوة من المتطوعين تمثل الطلائع الأولى لمقاتلي الشعوب العربية والإسلامية تحتل مكاناً استراتيجياً بين قواته؛ بل هي التي قامت بتمويل حصار الفالوجا من المؤن والذخائر.
كان على هذا القائد أن يؤمن بربه إيماناً راسخاً لا يتزعزع، وأن يفتح صفحة جديدة في تاريخ هذه الأمة بإعلانه استمرار القتال حتى لو أفنى كل هذه القوات في هذه المهمة، إنني كنت واثقاً من أننا سنكون كأصحاب الكهف.. إننا لو قتلنا يهودياً واحداً أمام كل فرد منا لخرّبنا مهمة الصهيونية في فلسطين ولكتبنا صفحة الحياة لهذه الأمة العربية.
وكان لا بد أن تتهاوى جميع تلك الحكومات التي هي عميلة الاستعمار في منطقتنا العربية.
لقد كان بوسع هذا القائد أن يستقيل أو أن يأخذ الأمر على عاتقه ويتحدى تلك السلطات الخائنة، وهذا من صميم عمل القيادة، خاصة بعد أن أوضح له القائد المحنك الشاب كامل الشريف خطورة انسحاب الإخوان من المواقع وما تلا ذلك من معركة التبة 86، التي كان على الجيش أن ينسحب خارج الحدود مهزوماً لولا أن سلّم الله تعالى وكتب النصر على أيدي القلة المؤمنة، كانت تلك الخواطر تمر بالجميع، ولم لا؟ فنحن جميعاً نرتشف من معين واحد وهو الإخلاص لله في معركة العقيدة مع الصهيونية واليهودية العالمية.. ولماذا ينصاع الجند والشعب لحاكم ظالم مستبد، بل لماذا يكون الجند عوناً لمثل هذا الحاكم الذي يقهر شعبه ويخون وطنه ويتصرف كما لو كان سيداً للعبيد.
لقد كنا نعيش تلك الأحداث في بلادنا وعلى بعد مئات الأميال حيث طوانا معسكر البريج شبه معتقلين، لكنا كنا الأقوياء، بل كان باستطاعتنا رفض الاعتقال، ولم نفقد أبداً روح المقاومة والتحفز وليس لنا أن نقعد عن الواجب ونستكين لهؤلاء الذين أداروا معركة الهزيمة وباعوا قضية فلسطين.
معركة العوجة – العريش (معركة السبعة أيام)
في ليل 24/ 12/ 1948 دخل علينا لفيف من كبار ضباط الجيش وقالوا لنا: نريد قوة كوماندوز تمثل جميع الأسلحة للاشتراك في معركة العوجة – العريش، لقد اجتاحت القوات اليهودية بئر سبع وهي المحتلة – واتجهت جنوباً واحتلت عسلوج وأسرت ما تبقى بها من قوات، وهي الآن في طريقها للعوجة تتقدم صوب الأراضي المصرية، وسوف تندفع من العوجة إلى أبو عجيلة على محورين لتتجه الأولى إلى الإسماعيلية التي تبعد 120 كيلو متراً عن أبو عجيلة وتتجه الأخرى إلى العريش، وإن الأمر جد خطير، وسوف يلحق العار بمصر والأمة العربية إذا حدث ذلك، لا قدّر الله.
وعلى الفور قام القائد الشاب كامل الشريف بإعداد قوة ضاربة من خيرة شباب الإخوان المقاتلين، ولم يكن مفهوماً من القيادة العامة في فلسطين كيف تترك مجموعات صغيرة بسيطة التسليح في الجزء الشرقي من النقب والذي يمتد من بئر سبع – العسلوج، العوجة – تلك التي تقع في نطاق القوات المصرية، إن هذه المجموعات المتناثرة لا تصلح للدفاع عن نفسها فضلاً عن عجزها عن نجدة غيرها، في الوقت التي تبعد فيه عن قاعدة التموين الأساسية في رفح، كيف غاب عن قيادة الجيش أن تحرك جزءاً من قواتها فوراً إلى هذه المنطقة وتقيم قاعدة على الحدود المصرية يحشد فيها عناصر القوة من الإمداد والمؤن والذخيرة والأفراد، إن أي قائد محنك يستطيع أن يتحرك بقوة محدودة على عدة جبهات، لقد فعل نابليون هذا في مصر مع المماليك والعثمانيين وجنوده منهكو القوى… وهذا ما فعله العسكريون عبر التاريخ الإسلامي في قتالهم ضد المعتدين، بل فعله اليهود أنفسهم في تحريك قواتهم من شمال وغرب النقب ليهاجموا تلك المجموعات ويقضوا عليها.
أخطاء الجيش المصري
كان من الممكن أن تتحول معركة فلسطين إلى نكبة للصهيونية لا إلى نكبة للأمة العربية، فعند مهاجمة اليهود لتلك المنطقة من بئر سبع إلى العوجة وهي لا تتجاوز أربعين كيلو متراً كان على القوة المصرية الضاربة تركها تتقدم حتى مشارف الحدود المصرية وتقوم بمناوشتها ليجلب العدو أكبر عدد من آلياته ثم تقوم القوات المصرية بمهاجمة جيش الدفاع اليهودي بعد انهماكه بتلك المناوشات والقضاء عليه في الوقت الذي تقوم فيه القوات الموجودة غرب النقب الفالوجا بحركة التفاف.
خاصة وأن تلك القوات قد لقنت اليهود درساً لن ينسوه في معركة التبة 86، لقد اندحروا مهزومين وسوف يكون قتالهم قتال المهزوم في الوقت الذي تشتبك فيه قوات العدو مع الجيش المصري الذي كان عليه أن يقضي على تلك القوة التي تجرأت واحتلت بئر سبع وتقدمت إلى الحدود المصرية، وعندئذ كانت القيادة في مصر لا تستطيع أن تعيق دعم القوات المصرية في فلسطين وذلك بإمدادها بقوات جديدة.
سبب الهزيمة
إن النتيجة الفعلية وحركة الالتفاف التي كان على الجيش المصري أن يفعلها وفعلها العدو نفسه عندما وجد تلك القوات تقبع في مكانها وتأخذ موقع الدفاع ولا تريد الحرب، أقول: لو أصدر اللواء أحمد فؤاد صادق أمره بتنفيذ خطة كهذه لتغيرت نتيجة الجولة الأولى عسكرياً ولتغير تبعاً لذلك الموقف السياسي لفلسطين.
لكن لم يحدث هذا، لماذا؟ لأن الذين يديرون دفة الحكم دخلوا فلسطين إما طامعين وإما مناورين، ولم يكونوا أبداً محاربين.
كانت هذه الخواطر تدور بخلدنا ونحن لا نملك من أمر القوة لردع العدو شيئاً، وما نحن إلا قوة من المتطوعين تتبع القيادة المصرية في التسليح والطعام وليس لنا إملاء شيء من أفكارنا على القيادة فيما يخص أمر الحرب غير الذي شرحناه للقائد العام عند لقائه بنا في معسكر البريج ولكن.. في هذا الجو المشحون بالأسى والحزن بسبب تلك المؤامرة الدنيئة التي بدت خيوطها تظهر بدءاً بقبول الهدنة تلو الهدنة، والتدخل في شئون القتال والتردد في الإمدادات بالعتاد والرجال، ونهاية بحلّ الإخوان وتحجيم قوتهم وشل حركتهم وجمعهم في معسكرات شبه معتقلين، في هذا الجو لم يكن أمامنا إلا المشاركة الفعلية في القتال حتى ولو لم ندع إليه.