
مستوطنون يقتحمون الأقصى وينفذون عشرات الاعتداءات بالضفة المحتلة
أكتوبر 21, 2025بقلم: إيلان بابه – مؤرخ يهودي*
تجلت طبيعة خطة (دَالِتْ) المنهجية والمنظمة جيداً في دير ياسين. وهي قرية هادئة ومسالمة توصلت إلى معاهدة عدم اعتداء مع ((الهاغاناه)) في القدس، لكن حُكم عليها بالهلاك لأنها كانت تقع داخل المناطق التي عينتها الخطة (دالت) أهدافاً للتطهير. ولأن (الهاغاناه) كانت وقعت اتفاقاً مع القرية، فإنها قررت أن ترسل إليها قوات الإرغون وعصابة شتيرن كي تعفي نفسها من أية مسؤولية رسمية. ويُذكر أنه في التطهيرات اللاحقة لـ القرى الصديقة تخلت (الهاغاناه) حتى عن اعتبار هذه الخدعة ضرورية.
في 9 نيسان أبريل ١٩٤٨، احتلت القوات اليهودية قرية دير ياسين الواقعة على هضبة إلى الغرب من القدس على ارتفاع ثمانمئة متر فوق سطح البحر بالقرب من حي غِفعات شاؤول اليهودي وتستخدم مدرسة القرية القديمة اليوم مستشفى للأمراض العقلية يخدم الحي اليهودي الغربي الذي تمدد فوق أراضي القرية المدمرة.
عندما اقتحم الجنود اليهود القرية، رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة، متسببين بقتل كثير من سكانها. ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتصب عدد من النساء ومن ثم قُتلن.
روى فهيم زيدان الذي كان عمره آنذاك اثني عشر عاماً، كيف رأى بأم عينه عائلته تُقتل:
أخرجونا واحداً تلو الآخر؛ قتلوا رجلاً عجوزاً بالرصاص، وعندما بكت إحدى بناته قتلوها هي أيضاً. ثم استدعوا شقيقي محمد وقتلوه أمامنا. وعندما صرخت أمي باكية وهي منحنية فوقه وبين ذراعيها أختي الرضيعة خضرة – قتلوها هي أيضاً.
أطلقوا الرصاص أيضاً على زيدان نفسه الذي كان موجوداً مع الأطفال الذين أوقفوهم في صف أمام أحد الجدران، ورشقوهم بالرصاص قبل أن يغادروا، فقط من أجل التسلية، ومن حسن حظه أن جروحه لم تكن مميتة.
لقد خفضت التحريات الحديثة الرقم المقبول لعدد ضحايا مجزرة دير ياسين من ۱۷۰ إلى ۹۳ ضحية وطبعاً، بالإضافة إلى ضحايا المجزرة ذاتها، هناك عشرات غيرهم قضوا في أثناء القتال وبالتالي لم يُسجلوا في القائمة الرسمية للضحايا. وعلى أية حال، بما أن القوات اليهودية اعتبرت كل قرية فلسطينية قاعدة عسكرية عدوة، فإن الفارق في نظرها بين قتل الناس في مجزرة وقتلهم في معركة كان ضئيلاً. ويكفي أن يعلم المرء أن ثلاثين طفلاً صغيراً كانوا بين ضحايا المجزرة في دير ياسين، ليدرك كم أن الحذلقة “الكمية” برمتها -التي كرر الإسرائيليون استخدامها حديثاً في نيسان/ أبريل ۲۰۰۲ فيما يتعلق بمجزرة جنين- لا معنى لها. إنما في ذلك الوقت، أذاعت القيادة اليهودية بافتخار رقماً مرتفعاً للضحايا كي تجعل من دير ياسين نذيراً بالنكبة، تحذيراً للفلسطينيين كافة من أن مصيراً مماثلاً ينتظرهم إذا رفضوا أن يتركوا بيوتهم ويهربوا.
الهدف التالي كان أربع قرى مجاورة: قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بِدّو. ولم تستغرق العملية في كل قرية أكثر من ساعة واحدة أو نحوها، دخلت وحدات (الهاغاناه) القرية المعنية، ونسفت البيوت، وطردت السكان. ومن المثير للاهتمام أو للسخرية إن شئت أن ضباط (الهاغاناه) ادعوا أنهم اضطروا إلى بذل جهد كبير لكبح سعار النهب الذي تملك مرؤوسيهم في كل قرية بعد احتلالها. ويروي بن-آري، الذي كان مشرفاً على وحدة زرع المتفجرات التي قامت بنسف البيوت في مذكراته كيف أنه بمفرده أوقف عملية نهب القرى. لكن أقل ما يقال في ادعائه هذا هو أنه مبالغ فيه، علماً بأن الفلاحين هربوا من دون أن يحملوا شيئاً معهم بينما وجدت مقتنياتهم طريقها إلى صالونات ومزارع الجنود والضباط، سواء بسواء، كتذكارات حرب.
قريتان في المنطقة نفسها أعفيتا من التدمير: أبو غوش والنبي صموئيل. وكان السبب في ذلك أن مختاريهما أقاما علاقات ودية مع القادة المحليين لعصابة شتيرن. ومن سخريات القدر أن هذا كان ما حال بينهما وبين الدمار والطرد إذ أرادت (الهاغاناه) تدميرهما، لكن الجماعة الأكثر تطرفاً عصابة شتيرن سارعت إلى نجدتهما. بيد أن هذا كان استثناء نادراً، إذ لاقت مئات من القرى مصير قالونيا والقسطل نفسه.
إن ثقة القيادة اليهودية في أوائل نيسان/ أبريل بقدرتها لا على الاستيلاء على المناطق التي منحتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية فحسب، بل أيضاً على تطهيرها، يمكن سبرها من الطريقة التي وجهت فيها (الهاغاناه)، مباشرة بعد عملية نحشون اهتمامها إلى المراكز الحضرية الرئيسية في فلسطين. وقد هوجمت هذه المراكز بصورة منهجية خلال بقية الشهر، بينما كان موظفو الأمم المتحدة والموظفون البريطانيون يراقبون ما يجري بلامبالاة ومن دون أن يحركوا ساكناً.
كانت طبرية أول المراكز الحضرية التي استهدفها الهجوم. فما إن وصلت أخبار دير ياسين، وأخبار المجزرة التي وقعت بعد ثلاثة أيام في ١٢ نيسان/ أبريل في قرية ناصر الدين إلى السكان الفلسطينيين في طبرية، حتى هرب كثيرون منهم. وكان السكان قد أفزعهم القصف اليومي العنيف من جانب القوات اليهودية المتمركزة على الهضاب المشرفة على هذه العاصمة التاريخية القديمة الواقعة على شاطئ بحيرة طبرية، حيث كان نحو ٦٠٠٠ يهودي و ۵۰۰۰ عربي يعيشون هم وأجدادهم معاً بسلام منذ عدة قرون. ولم يتمكن جيش الإنقاذ، بسبب العرقلة البريطانية، من نجدة المدينة بأكثر من قوة مؤلفة من نحو ثلاثين متطوعاً. ولم يكن هؤلاء نداً لقوات (الهاغاناه)، التي كانت تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات من الهضاب إلى المدينة، وتستخدم مكبرات الصوت لإصدار أصوات مخيفة لبث الذعر في قلوب السكان – نسخة مبكرة عن اختراق الطائرات المقاتلة جدار الصوت فوق بيروت في سنة ۱۹۸۳ وفوق غزة في سنة ٢٠٠٥، الذي دانته منظمة حقوق الإنسان بصفته عملاً إجرامياً. وسقطت طبرية في ١٨ نيسان/ أبريل.
وقد أدى البريطانيون دوراً مشبوهاً في الهجوم على طبرية. في البداية عرضوا على السكان الفلسطينيين الحماية، لكنهم ما لبثوا أن حثوهم على التفاوض مع القوات اليهودية من أجل إخلاء عام للمدينة. أما الملك عبد الله فكان “عملياً” أكثر منهم: أرسل ثلاثين شاحنة للمساعدة في نقل النساء والأطفال، وادعى لاحقاً في مذكراته أنه كان مقتنعاً بأن مجزرة دير ياسين أخرى كانت على وشك الوقوع. كما زعم ضباط بريطانيون في وقت لاحق أنه كانت لديهم تخوفات مماثلة، لكن الوثائق التي تكشف عن ضغط بريطاني شديد على قادة المجتمع لا تنم عن أي خوف من مجزرة وشيكة الوقوع. وقد يقول البعض هنا إن البريطانيين بتصرفهم هذا حالوا دون تعرض سكان طبرية العرب لمجزرة؛ وقد يقول آخرون إن البريطانيين تعاونوا مع الذين قاموا بطرد السكان. لكن دور البريطانيين سيكون أوضح كثيراً، وأكثر سلبية، في الفصول التالية من تدمير المدن الفلسطينية، عندما احتلت يافا وحيفا.
تطهير حيفا من العرب
كما ذكرنا سابقاً، تمت الموافقة على العمليات التي جرت في حيفا بأثر رجعي ورحبت الهيئة الاستشارية بها، مع أنها لم تكن بالضرورة المبادرة إلى إصدار الأوامر – المترجم بالقيام بها. وكان الترويع المبكر لسكان المدينة العرب في كانون الأول/ديسمبر ١٩٤٧ قد دفع كثيرين من أبناء النخبة الفلسطينية إلى المغادرة إلى مساكنهم في لبنان ومصر، ريثما يعود الهدوء إلى مدينتهم. ومن الصعب تقدير عدد الذين يمكن تصنيفهم ضمن هذه الفئة: معظم المؤرخين يقدر الرقم ما بين ۱۵,۰۰۰ و ۲۰,۰۰۰ .
في ١٢ كانون الثاني/ يناير ١٩٤٨، أبرق زعيم محلي يدعى فريد السعد، مدير البنك العربي في حيفا وعضو اللجنة القومية المحلية، إلى الدكتور حسين الخالدي سكرتير الهيئة العربية العليا، قائلاً بيأس: “من حُسن الحظ أن اليهود لا يعرفون الحقيقة”. وكانت الحقيقة أن النخبة الحضرية في فلسطين انهارت بعد شهر من القصف اليهودي العنيف والاعتداءات. لكن اليهود كانوا يعرفون تماماً ما كان يجري. وفي الواقع، كانت الهيئة الاستشارية تعرف جيداً أن الأغنياء والميسورين غادروا في كانون الأول/ ديسمبر، وأن المدينة لم تكن تصل إليها أسلحة عربية، وأن الحكومات العربية لم تكن تفعل أكثر من شن حرب كلامية حماسية عبر الأثير لإخفاء تقاعسها عن العمل وعدم رغبتها في التدخل لمصلحة الفلسطينيين.
أما رحيل الأغنياء فكان معناه أن ما بين ۵۵,۰۰۰ و ٦٠,۰۰۰ فلسطيني في حيفا أصبحوا بلا قيادة، وأنهم نظراً إلى عدد المتطوعين القليل في المدينة، كانوا في نيسان/ أبريل ١٩٤٨ تحت رحمة القوات اليهودية، وذلك على الرغم من وجود القوات البريطانية، التي كانت نظرياً مسؤولة عن سلامة السكان المحليين ورخائهم.
استهدفت العملية اليهودية في مرحلتها الأولى المنطقة المحيطة بحيفا، وأطلق عليها الاسم الرمزي، المنذر بالشؤم: المقص (مِسبارايم)، الذي يشير إلى حركة كماشة وإلى فصل المدينة عن الأرياف المحيطة بها. وكانت حيفا، مثل طبرية، قد خُصصت في خطة الأمم المتحدة للدولة اليهودية، علماً بأن ترك الميناء الكبير الوحيد في البلد تحت السيطرة اليهودية كان مظهراً آخر من مظاهر الصفقة المجحفة التي عرضتها الأمم المتحدة على الفلسطينيين في اقتراحها لإحلال السلام. وقد أراد اليهود المدينة من دون الـ ۷۵,۰۰۰ فلسطيني القاطنين فيها، وفي نيسان/أبريل ١٩٤٨ حققوا هدفهم.
وبما أن حيفا كانت ميناء فلسطين الرئيسي فإنها كانت المحطة الأخيرة في مسار الانسحاب البريطاني. وكان من المتوقع أن يبقى البريطانيون حتى آب/ أغسطس، لكنهم قرروا في شباط/ فبراير ١٩٤٨ تقديم موعد الانسحاب إلى أيار/ مايو. وبالتالي، فإن أعداداً كبيرة من الجنود البريطانيين كانت موجودة في المدينة، وكان لا يزال لديها السلطة القانونية -ويمكن للمرء أن يضيف: الأخلاقية- لفرض القانون والنظام العام فيها. لكن سلوك هؤلاء الجنود، كما اعترف بذلك كثير من الساسة البريطانيين في وقت لاحق، شكل واحداً من أكثر الفصول مدعاة إلى العار في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط.
وقد بدأت الحملة اليهودية لبث الذعر في القلوب في كانون الأول/ ديسمبر، واشتملت على قصف عنيف ونيران قنص، وأنهار من النفط والوقود المشتعل المتدفقة من أعالي الجبل (الكرمل) إلى الأسفل، وبراميل مملوءة بالمتفجرات، وتواصلت طوال الأشهر الأولى من سنة ١٩٤٨، لكنها اشتدت في أوائل نيسان/ أبريل. وفي ۱۸ نيسان/ أبريل في اليوم نفسه الذي أرغم فيه الفلسطينيون في طبرية على الهروب استدعى الميجر جنرال هيو ستوكويل، قائد القطاع الشمالي البريطاني، الذي كان مقره في حيفا، ممثلي السلطات اليهودية في المدينة وأخبرهم أن القوات البريطانية ستنسحب خلال يومين من مواقعها التي كانت تشكل منطقة عازلة بين المجتمعين، وكانت هذه المنطقة العازلة هي العقبة الوحيدة التي منعت القوات اليهودية من شن هجوم مباشر واحتلال المناطق الفلسطينية التي كان أكثر من ٥٠,٠٠٠ نسمة ما زالوا يعيشون فيها. وهكذا أصبح الطريق مفتوحاً أمام تطهير حيفا من العرب.
أوكلت المهمة إلى لواء كرملي، الذي كان واحداً من صفوة التشكيلات في الجيش اليهودي (كان هناك ألوية من نوعية أدنى مثل لواء كرياتي، المشكل من يهود عرب كانوا يرسلون للقيام فقط بأعمال النهب أو بمهمات أقل جذباً؛ ويمكن العثور على وصف للواء كرياتي بأنه مكوّن من نوعية بشرية أدنى في الوثائق الإسرائيلية). وكان يقف في مواجهة لواء كرملي، البالغ تعداده ۲۰۰۰ جندي، جيش عدده ٥٠٠ من المتطوعين المحليين، ومن متطوعين آخرين معظمهم لبنانيون، في حيازتهم أسلحة بسيطة وذخائر محدودة، وبالتأكيد لا شيء يعادل العربات المصفحة ومدافع الهاون في الجانب اليهودي.
وكان معنى إزالة الحاجز البريطاني أنه يمكن استبدال عملية المقص بعملية (إزالة الخبز المختمر) (بيعور حميتس) ويعني هذا التعبير بالعبرية: التطهير الكلي، ويشير إلى الفريضة الدينية اليهودية القاضية بتطهير البيوت من أي أثر للخبز أو الطحين عشية عيد الفصح، لأنه من المحظور تناولهما خلال أيام الصوم – اسم رمزي ملائم بشكل وحشي لتطهير حيفا، حيث الفلسطينيون كانوا الخبز والطحين في العملية التي بدأت عشية عيد الفصح في ۲۱ نيسان/ أبريل.
كان القائد البريطاني ستوكويل على علم مسبق بالهجوم اليهودي الوشيك، واستدعى في وقت مبكر من اليوم نفسه القيادة الفلسطينية في المدينة للتشاور. وقابلته مجموعة من أربعة أشخاص منهكين أصبحوا قادة المجتمع العربي وقتئذ، مع أن أياً من المناصب التي كانوا يشغلونها رسمياً لم يهيئهم للحظة التاريخية الحاسمة التي تجلت في مكتب ستوكويل صبيحة ذلك اليوم. وتظهر مراسلات سابقة بينهم وبين ستوكويل أنهم كانوا يثقون به بصفته حامي القانون والنظام في المدينة. وإذ بالضابط البريطاني ينصحهم اليوم بأن من الأفضل لشعبهم أن يرحل عن المدينة، حيث كانوا هم ومعظم عائلاتهم يعيشون ويعملون منذ منتصف القرن الثامن عشر، عندما برزت حيفا كمدينة حديثة. وبالتدريج بينما كانوا يصغون إلى ستوكويل وثقتهم به تتضاءل، أدركوا أنهم لن يستطيعوا حماية مجتمعهم واستعدوا للأسوأ: بما أن البريطانيين لن يحموهم، فإن مصيرهم المحتوم سيكون الطرد. وأخبروا ستوكويل أنهم يريدون الرحيل بشكل منظم. وحرص لواء كرملي على ترحيلهم عبر أشلاء القتلى والدمار.
كان الرجال الأربعة، وهم في طريقهم لمقابلة القائد البريطاني، يسمعون مكبرات الصوت اليهودية تحث النساء والأطفال الفلسطينيين على الرحيل قبل فوات الأوان، بينما في أجزاء أخرى من المدينة كانت مكبرات الصوت تبث رسالة مناقضة تماماً صادرة عن محافظ المدينة اليهودي شبتاي ليفي، الذي كان شخصاً محترماً بحسب جميع الروايات والذي توسل إلى الناس كي يبقوا، ووعدهم أن أي أذى لن يلحق بهم. لكن مردخاي مكليف قائد عملية لواء كرملي، وليس ليفي، كان صاحب القرار. وقد نسق مكليف حملة التطهير، وكانت الأوامر التي أصدرها إلى قواته واضحة وبسيطة: “اقتلوا كل عربي تصادفونه، واحرقوا جميع الأشياء القابلة للاحتراق، واقتحموا الأبواب بالمتفجرات”. لاحقاً أصبح رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي.
عندما نفذت هذه الأوامر من دون إبطاء داخل مساحة الـ ١,٥ كم التي كان لا يزال يعيش فيها آلاف من سكان حيفا العزل، كانت الصدمة والرعب من الشدة بحيث أن الناس بدأوا الرحيل جماعياً، من دون أن يجمعوا أياً من حاجاتهم أو حتى يدركوا ما كانوا يفعلونه. وفي غمرة الذعر، اتجهوا نحو الميناء على أمل أن يجدوا سفينة أو قارباً ينقلهم بعيداً عن المدينة. وما إن لاذوا بالفرار حتى اقتحم الجنود اليهود بيوتهم ونهبوها.
وعندما زارت غولدا مئير -وهي واحدة من الزعماء الصهيونيين الكبار- حيفا بعد أيام قليلة، وجدت من الصعب عليها في البداية أن تكبت إحساساً بالرعب عندما دخلت البيوت حيث كان الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدا الأمر كأن الحياة تجمدت في لحظة واحدة. وكانت مئير جاءت فلسطين من الولايات المتحدة التي هربت عائلتها إليها في إثر المذابح المنظمة في روسيا، وذكرتها المناظر التي شاهدتها ذلك اليوم بأسوأ القصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود. لكن ذلك لم يؤثر، كما يبدو في عزمها أو عزم زملائها على المضي قدماً في التطهير العرقي لفلسطين.
في الساعات الأولى من فجر يوم ۲۲ نيسان/ أبريل، بدأ الناس يتدفقون إلى الميناء. وبما أن الشوارع في ذلك الجزء من المدينة كانت شديدة الازدحام بالناس الساعين للنجاة، فإن القيادة العربية التي نصبت نفسها قيادة حاولت أن تدخل شيئاً من النظام إلى الفوضى العارمة. وكان في الإمكان سماع مكبرات الصوت تحث الناس على التجمع في السوق القديمة المجاورة للميناء، والبحث عن مكان آمن هناك إلى أن يصبح في الإمكان ترتيب إجلاء منظم عن طريق البحر، (اليهود احتلوا شارع ستانتون وهم على الطريق)، كانت مكبرات الصوت تدوي.
إن كتاب لواء كرملي عن الحرب الذي يروي ما قام به خلال الحرب، لا ينم عن أي وخز للضمير فيما يتعلق بما جرى بعد ذلك. ضباط اللواء، الذين كانوا يعرفون أن الناس تصحوا بالتجمع بالقرب من بوابة الميناء، أمروا جنودهم بنصب مدافع هاون من عيار 3 إنشات على منحدرات الجبل المطلة على السوق والميناء -حيث يقوم مستشفى روتشيلد اليوم- وبقصف الناس المحتشدين في الأسفل. وكان الهدف التأكد من أن الناس لن يترددوا وضمان أن يكون الهروب في اتجاه واحد فقط. وما إن تجمع الفلسطينيون في السوق -تحفة معمارية ترجع إلى العهد العثماني مغطاة بسقوف بيض مقوسة، ودمرت كلياً بعد قيام دولة إسرائيل- حتى أصبحوا هدفاً سهلاً للرماة اليهود.
كانت سوق حيفا تبعد أقل من مئة متر عما كان وقتها بوابة الميناء. وعندما بدأ القصف كانت البوابة الوجهة الطبيعية للفلسطينيين الذين أصابهم الذعر. وأزاح الحشد حراس البوابة من الشرطة جانباً واندفع إلى داخل الميناء وسارع عشرات إلى القوارب التي كانت راسية هناك وصعدوا إليها وبدأوا الرحيل عن المدينة. ونستطيع أن نعرف ما حدث بعد ذلك من الذكريات المروعة لبعض الناجين والتي نشرت مؤخراً. وهذه واحدة منها:
“داس الرجال أصدقاءهم، وداست النساء أطفالهن. وسرعان ما امتلأت القوارب في الميناء بحمولاتها البشرية. وكان الازدحام فيها مخيفاً. وانقلب كثير منها وغرق ركابه جميعاً”.
وكانت المشاهد رهيبة بحيث أنه عندما وصلت أخبارها إلى لندن، دفعت الحكومة البريطانية إلى التحرك، وبدأ بعض الموظفين ربما لأول مرة يدرك فداحة الكارثة التي تجتاح فلسطين بسبب امتناعهم من فعل أي شيء. وثارت ثائرة وزير الخارجية البريطاني، إرنست بيفن، على سلوك ستوكويل، لكن الفيلدمارشال مونتغمري، رئيس هيئة الأركان الإمبراطورية وبالتالي رئيس ستوكويل دافع عنه. وكان آخر اتصال بين قادة حيفا الفلسطينيين وستوكويل رسالة تغني عن مجلدات:
“إننا نشعر بالألم والأسى الشديدين لغياب التعاطف من السلطات البريطانية في تقديم الإسعاف للجرحى، مع أنها طولبت بالقيام بذلك”.
ـــــــــــــــــــــــ
* إيلان بابه، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة: أحمد خليفة، ط1 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يوليو 2007م)، ص101 وما بعدها.