
مشروع إي 1 الاستيطاني يهدد بتهجير بدو القدس قسرًا
أغسطس 18, 2025
مستوطنون يقتحمون الأقصى والاحتلال يستدعي مرابطتين
أغسطس 19, 2025بين لثامٍ ولثام (2/2)قصّة الأسير قسّام البرغوثي
قسام البرغوثي
فك الله أسره
كُنتُ جالِساً تَحتَ الشّجرةِ، وجدت أمامي فَجأةً سعيد!
مِن المُؤكّد أنّ وُجودَهُ لَيسَ صُدفة.. لم أكُن فِعلاً عَرفتُ بِتحرّره، تَعانَقنا، كَم كُنتُ أفتَقِدُ مِثلَ هذا العِناق، حاولتُ أن أُبرّر لَه عَدَم تَهنِئتي لهُ بالإفراجِ بمُبَرّراتٍ كتلكَ الّتي يُقدّمها مَن لا يُريدونَ اللقاء بي.. لكنّهُ ضَحِكَ وسألني ساخراً: ألهذه الدّرجة تَخافُ مِن عَمّتي؟
علِمتُ أنّه عَرِفَ تَفاصيلَ القِصّة كلها.. رُحتُ أَحكي لَه عَن مُعاناتي وعمّا حلّ بي.. اعتَذَرَ لي ووعَدَني بأن تُحلّ وأنّنا سَنتدبّرُ أُمورنا.. آه كَم افتقدت تِلكَ الثّقةَ وكَم افتقدت شَخصاً أستَطيعُ أَن أبوحَ لَه دونَ تَحفّظ ودونَ أن يَفهَمَ الأُمورَ خطأً مَهما تحايَلتُ بالكَلِمات.. شَعرتُ أنّه فَهِمَ كُلّ حرفٍ مِن حُروفِ مُعاناتي ووعَدَني أن يَجمعني بِعمّه حُسام ليفَهّمني الصورةَ كاملة.
مرّ عامٌ عَلى ذلِكَ اليوم، هَمام قَد امتَزجَ كُليّاً بالطّبيعة.. عامٌ كامِلٌ يَجولُ في شعابِ الجِبالِ والوِديان.. فبُندقيّتُهُ الّتي طالما حَلِمَ بِها مُعلّقةٌ عَلى كَتِفِه.. عَرَفَ قساوةَ العَيش، عَرفَ طَعمَ الشّوق لأمّهِ وشَقيقَتِه.. محاولاتُ رُؤيتِهِما كادَت أن تُؤدّي لِقَتلِه واصطيادِه مِثل غزالٍ برّي.. بِمنظارِ بُندُقيّتِهِ رآهما مَرّةً واحدة، وكُلّ مُحاولاتِهِ بَعدَها باءت بالفَشَل، فابتَعَدَ عَن قَريَتِهِ كُلّها والجِبالَ الّتي عَطّرتهُ بالزّعتَر البرّي وغَسلَتهُ بِماءِ عُيونِها، فهُوَ قَد بَدَأ بِطريقِ العَودَة، يسيرُ أيّاماً قَد اعتادَ عَلى مِثلِها خِلالَ العام، لكنّهُ لَم يَسِر تَحتَ شَمسِ آب الحارِقة، كانَ يَتجنّبُ ساعاتِ الظّهيرة ويَسيرُ مُعظَمَ الوَقت..
بَعدَ مَسيرِ يَومَين تبقّى للمكانِ الّذي يَقصِدُهُ نِصفُ ساعةٍ تَقريباً.. صوّبَ بُندُقيّتَهُ وحَدّقَ مِن مِنظارِها قَليلاً، ثُمّ قَرّرَ الانتِظار.. سارَ نَحوَ شَجرة صَبر، شمسُ الصّباحِ لَم تَكُن قَد اجتازَت الجَبَلَ الّذي يَقِفُ عَلَيهِ بَعد.. بَحَثَ عَن شيءٍ يَقطِفُ بِهِ الصّبر.. قَطفَ عِدّةَ أكوازٍ كَنَسَها بِمكنَسةٍ1 صَنَعَها مِن القَشّ اليابِس.. شَرَبَ جُرعةً مِن الماء، أخرَجَ سِكّينَهُ، غَرَزَها فِي لوحِ صَبرٍ عِدّةَ مَرّات ليُنَظّفها مِن الدّم.. حَدّقَ مِن المِنظارِ مَرّةً أُخرى، وَضَعَ بُندِقيّتهُ جَانِباً ثُمّ بَدَأَ بِتَقشيرِ الصّبر، مَع طَعمِ الحَبّةِ الأولى تَذَكّرَ المَوقفَ كُلّه، راحَ يَمضَغُ حَبّاتِ الصّبر ويَغوصُ في تِلكَ الذّاكِرةِ الّتي لا تَنسى حَتّى أدقَ التَفاصيل.
جلستُ أنتَظِرُ حُسام، اغتَنَمتُ الوَقتَ لأن أملأ مَعِدَتي بالصّبر، وجلستُ أتَذكّرُ لقاءاتي بِه، لكن اللقاء الأخير لَم يُبارِح ذاكِرَتي وقد كانَ فاصِلاً في حَياتي، يا لِصَرَاحَتِكَ يا حُسام، تِلكَ الصّراحةُ الممزوجةُ بالألَم، أيَجعَلُ الألَمُ الإنسانَ صَريحاً إلى هذا الحد؟ رُحتُ أتَذَكّرُ ذلك اللقاء.
يمشي حُسام بِصمتٍ أمامي، يَقتَرِبُ مِن سِلسِلةٍ حَجَريّةٍ ويُزيلُ حَجَراً مِنها وتَبدو فجوةٌ وراءَ ذلكَ الحَجَر الّذي يُشكّلُ باباً لِمَخبإٍ لا يخطُرُ عَلى بَالِ أحد، تناولَ علبةً وسكّيناً، تَبقّى أشياء أخرى، قُلتُ في نَفسي عِندما رأيتُ ذلك المَخبأ أنّه يُبدي ذلك الحِرصَ على أصغَرِ أشيائهِ وأبسطَها، فكيفَ يَكونُ حِرصُهُ عَلى أعزّ شيءٍ على قَلبِه؛ على سِلاحِه؟ وكيفَ لي أن أجِدَه؟ كُنتُ في اللقاءاتِ السّابقةِ قَد كسرتُ عِدّةَ حواجزٍ في عَلاقَتِنا، وشَعَرتُ أنّ الوقتَ طالَ وعَليّ أن أتجَرّأ، فبادرته:
عمّ، أريدُ سِلاحاً.
تجاهَلَني، أو ربّما لَم يَسمَع، فكرّرتُ ما قُلتُه …
عمّ، عمّ … أُريدُ سِلاحاً.
التَفتَ إليّ بسُرعَةٍ ووَضَعَ سَبّابتَهُ عَلى فَمي ليُسكِتَني، وسألَني بالإشارَةِ عَن هاتِفِي، فقلتُ إنّني لَم أُحضِره.. فَقَد كانَ دائِماً قَبلَ أن يبدَأَ بأيّ حَديثٍ يُبعِدُ الهواتِفَ عَن المَكان الّذي نَجلِسُ فيه.. حينَها ابتَسَمَ وسَألَني:
من أينَ لي بالسّلاح؟
إنّ لديكَ سِلاحاً!
ضحِكَ هذهِ المَرّة بطَريقَةٍ غَريبة، شَعرتُ أنّه يَستَصغِرُني على حَملِ السّلاح…
صِدقاً، ليسَ لَديّ سِلاح، خُذ مِن عَمّكَ سِلاحاً.
أعرِفُ أنّ لَدى عَمّي سِلاحاً، لكنّهُ قَطعاً لَن يُعطِيني، فهُوَ يُوبّخُني على ضَربِ الحِجارة، فكيفَ لي أن أطلُبَ سِلاحاً؟
اكتسى وجهُهُ بِملامِحَ غَريبة وقال:
كانَ لديّ … كان … لكن …
تَنهّدَ وحَدّقَ بِي وبَدا الحُزنُ عَلى وَجهِهِ واضِحاً، ثُمّ أردَف:
راح… سُرِقَ مِنّي مُنذُ سَنوات، أتعْلَمُ حينَ تحرِصُ كُلّ الحِرصِ على أعَزّ شيءٍ لَديك كَي لا يَضيعَ مِنكَ ثُم يَضيع؟ ثُمّ يُسرَق؟ آخ.
كَيف؟
دَعكَ مِن ذلك وتَعال… أَي كَوز صَبر تُريد؟
أشرتُ عَلى مَجموعَةٍ مِنَ الأكوازِ الحَمراءِ الّتي تَبدو ناضِجَةً جِدّاً، وضَعَ عُلبتَهُ الزّرقاءَ عَلى واحد، قَبَضَ عَليهِ ولَفّ يَدَهُ كَأنّهُ يَفتَحُ باباً بَمُفتاح، ثُمّ أخَذَ يَقطِفُ أكوازاً لا تَبدو لِي ناضِجَةً كِفاية، جَمَعَها في مكانٍ فَوقَ التّراب، سألَني وهُو يُنظّفُها مِن الشّوك:
ما أخبارُ عَمّك؟ وهَل يُقصّرُ مَعكَ ومَع أُسرَتِك؟
حكيتُ لَهُ عَن عَمّي وعَن تَعامُلِهِ مَعَنا وأنّهُ بِمثابَةِ أبي… إلى آخره.. بدأ بِتقشيرِ الصّبر وأعطاني الحَبّةَ الأولى، وكانَت مِن الحَبّاتِ الّتي قَطَفَها هُو، طَعمُها لذيذٌ جدّاً.. سَألني عَن طَعمِها وقَشّرَ واحِدةً لَه، بَعدَ ذلك قَشّرَ الحَبّةَ الحَمراء الّتي اختَرتُها وتناولتُها، فسألَني بعدَ ذلك عَن مَذاقِها، أجبتُهُ أنّ الأولى كانَت ألذّ؛ فقال: هناكَ أشياءٌ تَبدو شَهيّةً لكنّ طَعمَها يكونُ مُرّاً، كالحَقيقةِ مَثلاً، نَبحَثُ عَنها وتَبدو لنا مِثلَ هَدفٍ شَهيّ، لكنّها أحياناً لا تَكونُ كَذلك.
بانَ لي في صوتِه رجفةٌ كرجفةِ مَن يشعُرُ بِالبَرد، وشِريانٌ ما تَضَخّم في جَبينِهِ لَم أَرَهُ يَومَاً بهذا الحَجم، وضَعَ حَبّةً فِي فَمِهِ، وانتظَرتُهُ لينقُلَ الفِكرَةَ الّتي يُريد، فَعادَ واسترسَل: يا لِضَعفِ المِثال.. تَشبيهٌ هَزيل، إنّ الصّبرَ مَهما كان فَإنّه لَن يَكونَ مُرّاً.
وكُنتُ كَمن يَستَمِعُ لدرسٍ بِلُغَةٍ لا يَفهَمُها أو هكذا بَدوتُ لَه.. صَمَتَ قَليلاً وانفَجَرَ بَعدَ صَمتِه ثُمّ قال: إنّ عَمّكَ قَذِر، إنّهُ لا يُشبِهُ الصّبرَ إلّا في أشواكِه، إنّ أشواكَ عَمّك طَعنَتني وسَرَقَت مِنّي أعزّ ما أملِك.. شَوّهَتني وخَسِرتُ سِلاحي وخَسِرتُ خَطيبَتي وسنواتٍ مِن عُمري وكَرامَتي!
كُنتُ مُتَفاجِئاً مِمّا يَقول، فتحتُ عَينَيّ على اتّساعِهِما، بدا انفِعالي واضِحاً.. قال: لا تَنفَعِل.. سأروي لَك.
كُنتُ أعرِفُ أنّ ما سأسمَعُهُ صَعبٌ ومُرّ كالحَقيقة، ومَع ذلكَ ضَبطتُ أعصابي قَدرَ المُستَطاع ليبدَأ بسرَدِ حِكايته.. أدرَكَ أنّني ضَبطتُ أعصابي فَبَدأ بالكَلام: كُنتُ مِثلَكَ الآن، أبحَثُ عَن بُندُقيّةٍ لَن أحكي لَكَ كَيفَ حَصلتُ عَليها لكنّني كُنتُ سَأموتُ مِن أجلِها.. سَنَواتٌ طَويلَةٌ وهِيَ طِفلَتي المُدلّلة والشّريكة.. كُنتُ أعمَلُ بِمُفرَدي في بِدايَةِ سنواتِ الانتِفاضة، دونَ أن يعلَمَ بِعَمَلي أَحد.. حَتّى لَم يَعُد بِحَوزَتي غَير بِضعِ رَصاصاتٍ فَقَط.. أصبحتُ بحاجةٍ لِمَن يَمُدّني بالرّصاص.. تَوجّهتُ لسامح، صديقٍ لي، طَلبتُ مِنهُ الرّصاص، أمّن لي عِدّةَ عُلب.. ثُم عَرضَ عَليّ العَملَ في مَجموعة، وافَقت.
اعتَدَلَ في جَلسَتِهِ ثُمّ استرسَل:كنتُ مُدرّساً، في كُلّ صَفّ تَختَطِفُ رَصاصَةٌ صُهيونيّةٌ تِلميذاً مِن تَلامِذَتي فيَدفَعُني مَنظَرُ المِقعَدِ الفارِغِ للقيامِ بِعَمَلٍ ما، مَع رِفاقي أحياناً وأحياناً وحدي. في بدايةِ شَهر آب، قَبلَ الآن بَسبعِ سَنَوات، أُصِبتُ بِرصاصَةٍ فِي كَتِفي الأيْمَن فَمَنَعتني مِن المُشارَكَةِ في عَمَلٍ مَع رِفاقي.. كُنتُ أبحَثُ في حَديثِهِ عَن عَمّي، لكنّني لَم أَكُن مُتَشَوّقاً لِتلكَ الحَقيقةِ الواضِحةِ المُرّة الّتي بَدَت لي جَلِيّة، فَقُلت لنفسي سأنتَظِرُ حَتّى يَنتَهي.
قدّمتُ لَهُ سيجارة، تَناوَلَها ثُمّ رَشَفَ رَشفة ماءٍ وأكمَل: نَفّذَ سامِح مَع رفيقٍ آخر عَملاً فِدائيّاً رُبّما سَمِعتَ عَنهُ عِندَ مَدخَلِ المَدينة، وقَعَ خَللٌ ما عِند الانسِحاب، اعتَقَدَ سامِح أنّه قَد انكَشَف، لكنّهُ لَم يَكُن مُتأكّداً، جَاءَ إليّ وخَبّأ السّلاحَ الّذي نَفّذا بِهِ العَمَليّة عِندي وغادَرَني..
آه.. أينَ أنتَ يا عمّي؟ أينَ أنتَ في كُلّ هذه التّفاصيل؟ أينَ أنتَ في قِصَصِ البُطولَةِ الّتي أسمَعُها؟ وعن أيّ بُطولَةٍ تَروي في ظِلّ هذه البُطولة؟
وكيف سُرِقَت البُندُقيّة؟
خَبّأتُ السّلاحَ بِسُرعَةٍ في مخبَإٍ كُنتُ قَد أعدَدتّه للبُندُقيّةِ قَبلَ أن أحصُلَ عَلَيها.. في تِلكَ اللّيلَةِ حاصَرَت أجهزة أمنِ السّلطة مَنزِلَ سامح، فبَدَأ عَناصِرُ الأمنِ يَطلُبُونَ عَبرَ مُكبّراتِ الصّوتِ مِن سامِح أن يُسلّمَ نفسَه، وإلّا سيبدأونَ بإطلاقِ النّار.. كان بحوزَةِ سامِح مسدّسٌ لكنّه كانَ يُدرِكُ ويَعي جَيّداً حُرمَةَ الدّم الفَلَسطينيّ ذاتَهُ الّذي تستَبيحُهُ أجهِزَةُ أمنِ السّلطة، فسَلّم نفسَه.
أتساءل: أكانَ منزل سامِح أحَدَ أوكارِ تُجّار المُخدّراتِ الّتي اقتَحَمَها عَمّي؟ أكانَ سامِح أحَدَ أولئكَ التّجار؟ وأكمَل:
وبعدَ يَومَين تَمّ اعتقالي من المَنزِل، وتَمّ اقتيادي للتّحقيقِ في أريحا.. لَن أروي لَكَ الكثيرَ عَن جولاتِ التّحقيق وعذاباتِها، سأُخبِرُكَ عَن يومٍ واحِد.. في ساعاتِ الظّهيرَةِ الحارِقَة، وقد مَضى على وُجودي في خَزّانٍ حَديديّ مُكعّب ما يُقارِبُ ثلاثَ ساعات، مجرّداً من كُلّ مَلابِسي، أصطَلي بلسعاتِ الحَديدِ الحارِقةَ في كُلّ مَكانٍ مِن جَسَدي.. العَرَقُ الغَزيرُ يَدخُلُ مِلحاً في عَينيّ وجُروحي وحُروقُ السّجائر الّتي طَالَت كُلّ جَسَدي.. لا أقولُ لكَ أنّني لم أدُقّ جُدرانَ الخَزّان.. دَقَقتُها وكُلّما دَقَقتُها أُدَقّ عَلى رأسي بِعصاً يُدخِلُها أَحَدُ المُلثّمينَ مِن فَتحةٍ عُلويّة.. تُلقي العُصِيّ بِقدرٍ أكبَرَ مِنَ الهَواء.. فَتَحَ ضابِطٌ مُلثّمٌ بابَ الخَزّان، فَكّ قَيدي وأمَرَني بارتداءِ مَلابِسِي.. حاوَلَ الهَواءُ عَبثاً تبريدَ جَسَدي من نارِ ذلك الفُرن.. مُحقّقونَ ثلاثةٌ يُغطّي اللثامُ وجوهَهُم وتُغَطّي النَظّاراتُ عُيونَهُم، صَوتُ أحدِهِم يَبدو مألوفاً لي، قال: إنّ القِصّة انتهت وسامح باحَ بكُلّ شَيء.. لَم أُصدّق.. بَعدَ دَقائق أحضَروه..
لَم يكُن سامح الّذي أعرِفُه.. كُلُ شيءٍ فيه أزرَق، وجهُهُ مُتَورّمٌ، أظافِرُهُ مُخلّعةٌ، يَحفُرُ القيدُ رسغَيْهِ المُتَضَخّمَيْن، يجلِسُ على كرسِيّ للمُقعَدين أو على كرسيّ مُتَحَرّك.. اختَلَفَ حالي عن حال سامِح قليلاً.. على الأقل كانَ لي أظافِر، رُبّما لأنّ أصابِعي لَم تُطلِقِ النّار على الاحتِلالِ ذلك اليوم.. طَلَبَ مِنّي سامِح أن أدُلّهُم على مكانِ السّلاح.. قلتُ لهُ: أيّ سلاح؟ فقال أنّني لَم أعرِف شَيئاً عَن العَمَليّة.. فَقَط يُريدونَ السّلاح وليسَ لي علاقةٌ بشَيء، وإن سلّمتُ السّلاحَ سُيفرَجُ عَنّي.. رفضت ذلك وأنكَرتُ وجودَ سلاحٍ لديّ.. أخرَجوا سامِح وبَدأت جولةٌ أُخرى من العَذاب.. استُفِزّ الضابِطُ المُلثّم، وبدأ بِصَفعي بِكُلّ ما أوتيَ مِن قُوّة.. كنتُ أتحاشى الحَديثَ كَي لا أُضرَبُ فَجأةً ولِساني بينَ أسناني.. آه … ليتَ لِساني قُطِعَ حينها.
أخَذَ حُسام يَرسُمُ خُطوطاً بِعودٍ مِن خَشَبِ اللوزِ على الأرض وأكمَل: بَدَأَ المُحقّقُ بِهزّ جَسَدي بهستيريّةٍ شَعرتُ مَعَها أنّ رأسي مثل عُلبةٍ فيها حجرٌ سيكسِرُها في لَحظَةٍ ما.. كانَ الألمُ لا يُطاق.. ويَصرُخُ في وَجهي ثُمّ يَقول: سَتسقُطُ الثّمارُ مِثلَ شجرةِ التّوت، ويُكمِلُ هَزّ جَسَدي بِقُوّةٍ تُشعِلُ كُلّ آلامِه.. شعرتُ بإصبَعِهِ مَع الهزّ يقتَرِبُ مِن الجُرحِ الّذي خلّفتهُ الإصابةُ ثُمّ يصلُ بإبهامِهِ إلَيه.. ويأخُذُ جَولَةَ هزّ جَديدة.. يضغَطُ بإبهامِهِ على الجُرحِ المُعتُمِلِ الّذي لَم يُعالِجوه.. أشعرُ بألَمٍ حاد ثُمّ بسائلٍ حار يَسيلُ على جَسَدي.. انفقَأَ الجُرح، شَعَر المُحقّقُ بحرارةِ السّائِلِ على إصبَعِهِ الّذي تَغَلغَلَ في الجُرح.. أبعَدَ القَميصَ فوجَدَ الجُرح.. فجأةً تقيّأ مرةً واحدةً تحتَ لسانِه، رفَعَ لسانَهُ ليندَلِقَ القيءُ عَلَيّ برائحَتِهِ النّتِنة.
صَمتَ حُسام قليلاً ثمّ مَنَعَ نَفسَهُ مِن مُحاوَلَةِ التّقيّؤ.. شَرِبَ حُسام جُرعةً ثُمّ أكمل: اندَلَقَ القَيءُ على وَجهي وجَسَدي وجُرحي، لَم يَكُن كَلامُ المُحَقّقِ أَقَلّ قذارةً مِن القَيء.. عرَفتُ ذلك الوَجه، وجهُ عَمّك.. زادَ انفعالي وسالَت الدّموعُ مِن عَينيّ وعادَ لِرسمِ الخُطوطِ ثُم أكمَلَ حديثَه: اغتَسَلَ وعادَ للتّحقيق.. كَشَفَ وجهَهُ واستَدعى أَحَدَ السّجانينَ وأحضَرَ سامح، قالَ عَمّك: القرارُ بيَدِك، ارحمهُ وسَلّم السّلاح.. أشعَلَ سيجارةً، سَحَبَ مِنها نَفَسَين، ثُم راحَ يَغرِسُها فِي رَقبةِ سامِح، راحَ سامِح يَصرُخُ بأعلى صَوتِه، يَرجوني أن أُسَلّمَ السّلاح، وقَبلَ أن تَنتَهي السّيجارة الّتي راحَت تَنغَرِسُ في كُلّ مكانٍ مِن جَسدِ سامِح كُنتُ قَد اعترَفت، سَلّمتُ سِلاحَ العَمَليّةِ وبُندقيّتي.. كُنتُ أُحدّقُ في وجوهِ المُلثّمينَ وأقول: آه كيف انتَهت الانتفاضةُ الأولى بمُلثّمينَ لِتُحضِرَ مُلثّمينَ كهؤلاء؟ اللعنةُ على مَن كان السّبب..
وبعدَ أن سَلّمتُ السّلاحَ وتحوّلتُ إلى المَحكمةِ لَم تَكُن بندقيّتي ضِمنَ المُستمسَكاتِ فَعرفتُ أنّ عمّكَ قَد سَرَقها.. أُفرِجَ عَنّي واعتَقَلني الاحتلالُ بعدَها، وحُكِمَ عليّ عِدة أعوامٍ وها أنا الآنَ دونَ بُندقيّةٍ ودونَ خطيبةٍ ودونَ وظيفة.
عُدتُ في ذلكَ اليومِ إلى البيت، وَجدتُ عَمي يضحكُ على شيءٍ ما، كيفَ لِمثلِه أنْ يَضحكَ، امتلأتُ حقدًا عليه، كرهتُهُ وكرهت البيتَ كلّه.. كلُّ شيءٍ من حولي استخدمتُه لتعزيزِ كراهيّتي لعمي.. وحينَ يدخلُ إلى المرحاضِ ليقضيَّ حاجتَهُ أقول: إنه الآن يتخلصُ من جزءٍ أصيلٍ من مكوناتِه..
أجدُ ابن عميَّ الصّغيرَ يكسرُ حبةَ لوزٍ ويأكل لُبَّها، يشعرُ بمرارتِها فتتغيرُ ملامحَ وجهه.. يبصقُ عدّةَ مراتٍ فأقول: حينَ يموتُ عمي يجبُ أنْ ندفنَه على مدخلِ القريةِ ونحيطَ قبرَه بأشجارِ اللوزِ المُرِ، وكلُّ شخصٍ يأكلُ يبصِقُ على قبرِه، وحينَ يلعبُ ابنُ عمي الآخرَ على الرملِ يجدُ شيئًا يمسكُهُ بيدِه ويظنُّه كنزًا، يقرّبهُ ويشمُّ رائحتَهُ يجدهُ برازَ قطة، فأقولُ، إن دُفِنَ عمي وشمَّ رائحتَه أحدُ المارة فإنَّهُ سيشعرُ بشعورِ هذا الطفل..
وهكذا مضت الأيام لحين عرفت مكان البندقية، سرقتها وسرقت مسدساً وحقيبة مليئة بالرصاص، وجدني خارجاً، أوقفني أمام الجميع لم أجد مجالاً للحديث، صارحته بقذارته، كان حسام واحداً من العديدين الذين عانوا من قذارته، وقف أمامي ليمنعني من الخروج، التف حولنا جميع من في البيت، أفزعهم صراخه وهو يحكي عن فضله عليّ، صوبت البندقية إلى صدره، نظرت إلى كل العيون التي توسلت إليّ، أمي وزينة وأبناء عمي وزوجته، تدفقت عيناي بالدموع، لكن أعصابي ظلت مشدودة كأوتار العود، غافلني عمي وأمسك بالبندقية لكنه لم يستطع سحبها، وضعت إصبعي على أمانها، لكنه شدها بسرعة بطريقة جعلت إصبعي يضغط على الزناد، دوت رصاصة فخر عمي صريعاً مثل ثور مذبوح.. لم أجرؤ على النظر بعيون عائلتي فهربت.
نظرتُ من مِنظارِ البُندقيّة، وصَلَ حُسام وبَدَأ بإشعالِ المَوقِد، سِرتُ إلَيهِ حين تأكّدتُ أنّه وَحيد، سمِعتُهُ يُغنّي، اقتربتُ مِنه، تَسلّلت مثل لِصّ هذه المَرّة، وقَفت، عَزمت أن أسمَعَه.. انتَهى من إعدادِ قَهوتِه، تسلّلتُ مِن بَينِ شجرة صَبرٍ وصَخرة، أصبحتُ خَلفه مباشَرَة، وقفتُ دونَ أن يَنتَبِه، كان يُغَنّي بِصوتٍ مُنخَفِض، يَمرّ سِرب حَمامٍ فَوقه، يَعلو صَوته مُغنّياً:
يا طير ياللي في السّما طير علّي
عن مطرح ال في القلب اسأل لي
همّي كبر يا طير صار بحجم تلّة
يصمُتُ قليلاً، يتَناولُ دَلّة القهوة، يَسكُبُ في فنجانه، تَفوحُ رائحتُها اللذيذة فيُكمل غِناءه:
بَشربها مِن كاس الحُزن بَشرَب من الدلّة
ثم يرشُفُ رَشفةً مِن فنجانِه ويُردّد:
آسف يا وَطَن سامِح لِساني
يا ريتو انقَطَع قَبل هالزّلة
ثابِت عالعَهد يا طير باقي
مِثل صخرة على أرضي ومحلي
الخيل الأصيلة كنت
الخيل الأصيلة تظل
الخيل الأصيلة وحدها بتكمّل الرّحلة




