
شاهد على الإخوان في المعتقل
أكتوبر 18, 2025أرنولد توينبي
المؤرخ البريطاني الشهير*
والحق، أن معيار انحطاط النازية الأكبر لا تتجلى صورته في قوائم الإحصاء المجردة، مهما بدت تلك القوائم واضحة بيّنة، مع أنها تشهد بأن النازيين قد أنقصوا عدد يهود أوروبا الوسطى الواقعة إلى الغرب من الاتحاد السوفياتي خلال فترة لا تزيد عن ١٢ سنة من ستة ملايين ونصف مليون إنسان، إلى مليون ونصف فقط، عن طريق ممارستهم عمليات الإبادة الجماعية.
وقد كانت هذه العمليات منظمة بشكل لا سابقة له، كما كان يجري تنفيذها بكل دم بارد إلى درجة أوجبت نحت عبارة (الإبادة العرقية) علها تستطيع أن تصف ما كان في واقعه وحقيقته جريمة جديدة في سجل التاريخ .
ولا بد للمؤرخ المنصف من القول: إن تلك العمليات التي كان يجري تنفيذها في معسكرات الإبادة، حيث يتم تسميم ضحايا النازيين، والسادية البغيضة السافلة في من بيدهم الأمر من الرجال والنساء الألمان، كانتا أقل تنفيراً من الوداعة الذليلة والمسالمة الإجرامية التي كان يبديها مئات وألوف الموظفين الثانويين الذين يقومون بتنفيذ تعليمات رؤسائهم الإجرامية الرهيبة، وكذلك الجبن الأدبي (من ناحية أخلاقية) الذي أبداه أفراد الشعب الألماني عامة .
لقد كانوا هؤلاء يحتاطون ليجنبوا أنفسهم معرفة الفظائع التي يقترفها أزواجهم وأولادهم وإخوانهم وأحياناً أخواتهم وزوجاتهم وبناتهم، ويقومون بها باسمهم. ومن هنا أراني مضطراً إلى تقرير الواقع حين أقول: إن الدرك الأخلاقي الذي انحطت إليه الروح الألمانية في ظل النازية كان رهيباً، لا تعرّيه على حقيقته هذه الجرائم، ولا يصور تدهوره التعذيب الجسدي الكثير الذي اقترفته الأيدي الألمانية، بقدر ما يفضحه الكريه المنتن، و”المثل الأعلى” المنحط، الذي كان الرؤساء والتابعون في ألمانيا يخونون عن طريقه الأمانة التي عُهدت إليهم حين ينشئون الأطفال الألمان في مدرستهم العرقية.. كانوا يلقّنونهم كيف يجعلون حياة رفاقهم اليهود غير محتملة فيما بينهم، ويظلون يحرضونهم على استعمال القسوة المدروسة معهم .
لقد هز ذلك التدهور الأخلاقي الفظيع الذي نكبت به أمة متقدمة من أمم العالم الغربي الحديث في الربع الثاني من القرن العشرين بعد المسيح، أساسات عهد الاستنارة (العلمانية) التي ظل الغرب يبنيها ويمتّن أساسها طوال قرنين ونصف قرن من الزمن.
وقد أظهر ذلك التردي أن الكسب الذي تم عن طريق إلغاء التعصب اليهودي – المسيحي، كرد فعل على الوحشية التي تم اقترافها في الحروب الدينية السالفة في أوروبا، لا يعدل الخسارة التي نزلت -وتمت معاناتها- من جراء غليان نقيض ذلك، وهو حب المسيحيين لليهود.
وبعد ذلك العرض الألماني للإمكانيات البركانية الهائلة لخطيئة أصلية لم يتم ترويضها بعد، غدا من المستحيل على الرجل الغربي أن يحتفظ بإيمانه الراسخ في التقدم المحتوم لحضارته، وكذلك في إمكانية بلوغ الطبيعة الإنسانية الخالية من الشوائب إلى مرحلة عالية من الكمال المنشود .
فظائع اليهود أكبر من النازية
وكان أشد مرارة من هذا، بل وأدعى إلى العجب أضعافاً، أن انحدار النازية العرقية إلى هذا الدرك كان أقل في مأساته من تردي اليهود الصهيونيين فيه، غداة الاضطهاد الذي كانوا هم ضحاياه، والذي فاقت فظائعه كل ما عانوا طوال تاريخهم القديم: بل فاقت ظلم أي اضطهاد عانته أية طائفة من الجنس البشري في أي مكان.
فماذا كان رد الفعل عندهم؟
لقد كان رد الفعل المباشر عند اليهود أن غدوا هم المضطهدين لغيرهم هذه المرة. ولأول مرة منذ سنة 135م. ولما كانت هذه أول فرصة تسمح لهم أن يصبوا نقمتهم على آخرين أبرياء لم يذنبوا معهم، إلا إذا كان ضعفهم في حد ذاته ذنباً، فقد طبقوا المساوئ والآلام التي سبق أن طبقها عليهم مضطهدوهم المسيحيون في الغرب طوال الثمانية عشر قرناً المتوسطة بين الفترتين من التاريخ1.
لقد كان حوالي (684000) من مجموع (859000) عربي فلسطيني يقطنون في الرقعة التي احتلها اليهود الصهيونيون من فلسطين بقوة السلاح سنة 1948. وقد فقد هؤلاء بيوتهم وممتلكاتهم2. وغدوا “مشردين معدمين”3.
وإذا كان ينبغي لنا قياس فظاعة اقتراف الجرم بدرجة انغماس المذنب في ذنبه، فإن عذر اليهود في ترحيلهم عرب فلسطين من أوطانهم سنة 1948 يقل عن عذر نبوخذ نصر، وتيطس، وهادريان، ومحاكم التفتيش الإسبانية والبرتغالية، فيما اقترفه جميع هؤلاء من استئصال شأفة اليهود، واضطهادهم، وإبادتهم، في فلسطين وغيرها، في فترات مختلفة من التاريخ القديم .
لقد كان اليهود سنة 1948 يدركون فظاعة ما يفعلون من تجربتهم الشخصية الخاصة. وهذا بحد ذاته مأساة كبيرة. ويزيد في عنف تلك المأساة أنه ما كان ينبغي أن يتمخض الدرس الذي عاناه اليهود على يد العرقيين الألمان، عن تقليدهم لتلك الأعمال الوحشية بل أن يتمخض عن تخلصهم منها4.
وحقاً، لن تكون الجريمة الكبرى التي يعاقب عليها الاشتراكيون الوطنيون الألمان يوم القيامة هي إبادتهم لأكثرية اليهود في الغرب، بل كونهم السبب في تشويه خلق الباقين منهم وجعلهم إياهم يتردون في حمأة الرذيلة. لقد كان يهود أوروبا ما بين 1933- 1945 ضحية لثورة غضب الألمان على الهزيمة العسكرية التي لحقت بهم على يد أقربائهم الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. أما العرب في فلسطين سنة 1948 فكانوا بدورهم الضحية البريئة لليهود الأوروبيين، وحنق هؤلاء على إبادة العرق التي سلطها عليهم المسيحيون الغربيون ما بين (1933- 1945).
وربما كان الميل الذي يدفع الإنسان أو الأمة للرد على جريمة جارٍ أقوى باضطهاد طرف بريء أضعف، وتطبيق نفس الظلم الذي عاناه الأول على البريء الضعيف الجديد.. هو أدنأ الميول المنحطة في الطبيعة البشرية5.
على هذه الصورة كان مد الموجة التي اكتسحت عرب فلسطين سنة 1948 ارتداداً لانفجار العلاقات بين المسيحيين واليهود في خطوط الطول الغربية وفيما وراء أفق6 عرب فلسطين أنفسهم. كما كانت نتائجها المفجعة على هؤلاء الغرباء الأبرياء بنتاً بعيدة للجريمة الجديدة في غرب أوروبا ووسطها .
كان العطف على آلام اليهود في المجتمع الغربي الحديث الذي انعكست ظلاله على باقي الجنس البشري، قد غدا قوة ذات شأن في العالم. فقد آل ذلك العطف إلى أن يكون قوة فعالة في الحياة السياسية للدول الغربية الكبرى. وبالتالي غدت مشكلة توطين اليهود، وهي مشكلة لا تزال غير محلولة في الغرب، مرتبطة بمخاطر يخشاها اللاغربيون واللا يهود الذين لا علاقة لهم بهذه المشكلة، إلا من طرف أنهم خاضعون لنفوذ الغربيين.
ولهذا أصبحت مواجهة مشكلة استيطان اليهود القائمة في العالم الإسلامي في الوقت الحاضر، كما هي الحال في اليمن والمغرب، نتيجة محتومة تتعلق بطرف ثالث. وكان المجتمع الإسلامي في القرن العشرين عاجزاً عن أن يسدد ديونه لحساب أي طرف على الإطلاق.
إلا أنه لم تكن هنالك قوة على سطح الأرض تبلغ من القوة ما يجعلها تقول (لا) للمجتمع الغربي، عندما شاء المنتصرون الغربيون في حرب 1939- 1945 أن يعوضوا يهود أوروبا عن الجرائم التي اقترفها ضدهم مهاويس الحرب الألمان على حساب شعب شرقي بريء بدلاً من حساب الغرب المجرم.
وبفعل عجز العرب عن مقاومة ذلك الظلم كان كل ما يستطيع الجنس البشري فعله لا يتعدى أن يتعجب مندهشاً من محاولة الغرب الحصول على تكفير جريمة غربية بفرض عقوبة مناسبة على غرباء لا علاقة لهم بالمشكلة من قريب أو بعيد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- أرنولد توينبي، فلسطين: جريمة ودفاع، تعريب: عمر الديراوي، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، يناير 1981م)، ص6 وما بعدها.
أي منذ سنة 135، يوم تدمير الثورة اليهودية في القدس، وحتى سنة 1939، حين إعلان الحرب العالمية الثانية .
إن الرقم (859000) هو تقدير تقريبي لمجموع السكان من غير اليهود حتى تاريخ 31 كانون الثاني سنة 1946. وكان هؤلاء يقطنون المنطقة التي تم احتلالها حتى سنة 1949، على يد القوات الإسرائيلية. (التقدير النهائي لبعثة الدراسة الاقتصادية للشرق الأوسط سنة 1949). وهي بعثة تابعة لهيئة الأمم المتحدة .وفي نفس المكان يذكر المصدر نفسه أن العدد الإجمالي للاجئين من الأراضي التي يسيطر عليها اليهود حتى تاريخ التقرير هو 726000 لاجىء. وذلك على أساس أن عدد الباقين في إسرائيل من غير اليهود هو 133000 شخص، أما الرقم 684000، فهو مبني على أساس تقرير الدكتور جيمس باركنز، والقائل بأن عدد غير اليهود في إسرائيل حتى يناير سنة 1950، کان 175000 شخص، إذ أن 42000 لاجىء فلسطيني قد عادوا إلى دیارهم خلال تلك الفترة 1948- 1950.
تقع المسؤولية المباشرة في هذه النكبة التي حلت بعرب فلسطين سنة 1948 على رأس اليهود الصهيونيين الذين اتخذوا لأنفسهم هناك موطىء قدم بقوة السلاح. هذا واحد، أما المسؤول الثاني فهو شعب المملكة المتحدة -بريطانيا- لأنه لم يكن بوسع اليهود أن يتخذوا ذلك الموطىء إلا بفضل السياسة البريطانية التي مارستها سلطات الانتداب طوال 30 عاماً. ولم يكن من المعقول أن يفتح اليهود بلداً عربياً يكونون أقلية عديدة فيه، لولا ما سهرت عليه الحكومة البريطانية من تسهيل الهجرة اليهودية وتشجيعها. وكان ذلك ضد رغبات السكان العرب، بل وضد مصلحتهم على خط صريح. ولذا كان طبيعياً أن يغدو العرب سنة 1948 ضحايا سياسة بريطانية طال وضعها في موضع التنفيذ بعد أن تم رسمها بكل دقة.
إن القتل المنظم بدم بارد لبضعة ملايين من الجنس البشري في معسكرات الإبادة، هو أسوأ جرائم النازية، لا يوازي جرائم ضحايا تلك النازية التي صبوها على العرب. لقد عامل الصهاينة عرب فلسطين بكل وحشية، فذبحوا الرجال و النساء والأطفال في دير ياسين في 9 أبريل سنة 1948. وكان لهذه المجزرة الإجرامية أثر كبير في دفع أعداد غفيرة من العرب إلى الهرب، وخصوصاً أولئك الذين كانوا يقطنون ضمن مدى فعالية القوات اليهودية المسلحة. أما بعد ذلك، فقد طرد اليهود جميع العرب من المناطق التي تم احتلالها ما بين أيار سنة 1948 ونهاية ذلك التاريخ: عكا-شهر أيار. اللد والرملة- شهر تموز .وحيث سقطت الناصرة سمح اليهود لأهلها العرب بالبقاء فيها. وكان المطرودون من عكا قد سبق أن طردهم اليهود من حيفا، والمطرودون من اللد والرملة قد سبق أن أجبروا على النزوح من يافا. هذا علاوة عن سكان عكا واللد والرملة الأصليين.
ويبدو أن عدد الذين أجبروا على ترك ديارهم بالقوة هو 284000 شخصاً من أصل 684000 هم عرب فلسطين في المنطقة المحتلة، والذين أصبحوا مشردين معدمين فيما بعد .
وقد جرى ترحيل هؤلاء الـ 684000 على صورتين؛ فمنهم من رحلتهم السلطات البريطانية قبل انسحابها أو أنهم هربوا من تلقاء أنفسهم في الفترة الواقعة بين شهر كانون الثاني سنة 1947 والتاسع من نيسان سنة 1948، أي يوم دير ياسين .وربما كان الدم العربي الذي أريق في تلك المجزرة الوحشية يقع على رأس قواد عصابة أراغون، أما طرد العرب بعد الخامس عشر من تموز سنة 1948 فلا شك أنه جريمة إسرائيل بكاملها. وهناك من يبرر هذه الجرائم فيقول: لقد كانت الضحايا قليلة العدد نسبياً، كما أن الوحشية فيها لم تتسم بطابع الفظاعة النازي ما بين 1933- 1945. ولكن من يفعل ذلك يغفل أو يتجاهل عن أن يأخذ بعين الاعتبار حقيقة واضحة.. ألا وهي أن اليهود كانوا خبيرين بطرق التعذيب التي يمارسونها مع ضحاياهم ومعنى هذا أنه إذا جاز للنازيين أن يدافعوا عن أنفسهم بهذه الحجة الواهية، كأن يقولوا: لم نكن نعرف آلام وسائل التعذيب هذه فإن الإسرائيليين مجردون حتى من ذلك التبرير السخيف. لقد كان الإسرائيليون يعون جرائمهم كل الوعي، ومع هذا فقد أصروا على اقترافها .
لقد انتصر الحلفاء على الألمان فأذلوا كرامتهم وحقد هؤلاء… وإليك ما حدث بعد ذلك: لقد أذاق الألمان جيرانهم اليهود الضعفاء كل ظلم، وها هم اليهود ينتقمون من جيرانهم العرب ولمجرد أنهم ضعفاء أيضاً مع أنهم لم يظلموا اليهود من قبل. والحقيقة أن هذا الطبع موجود في الطبيعة البشرية المغلفة بقشور مختلفة منها الجرمانية والصهيونية. وقد تكرر فعل مثل ما سبق على طول عصور التاريخ؛ ففي عام 1494 قام الفرنسيون بمثله تجاه الإيطاليين، وفي سنة 1920 قام الفرنسيون أيضاً بمثله تجاه أهل سوريا .لقد غلبت بريطانيا فرنسا في حرب المئة سنة 1337- 1451، فانثنت فرنسا تود أن تستعيد كبرياءها الجريحة بأن أعلنت الحرب على إيطاليا سنة 1494. وقد دامت تلك الحرب حتى سنة 1559، وهكذا دفعت إيطاليا الثمن، مع أن إنكلترا لا إيطاليا هي التي أذلت فرنسا. أما سنة 1920 فكان الفرنسيون يثأرون من السوريين لأن الألمان احتلوا الأراضي الفرنسية سنة 1914؛ فيا عجباً ما كان أعدل هذا الثأر؟
في سنة 1948 كان من الممكن لعرب فلسطين أن يتذكروا ويطبقوا الكلمات القليلة التي تلفظ بها (نيفيل تشمبرلن) في 27 أيلول 1938 حين قال: “يا لها من فظاعة، وهستريا جنونية لا يصدقها عقل” . وعرب فلسطين، لا بد أن بدا لهم أنه كان عليهم أن يفقدوا وطنهم “بسبب نزاع بقوم في بلاد بعيدة لا يعرفون عنها ولا عن شعوبها شيئاً”.