
﴿كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾
يونيو 16, 2025
الثقافة الإسلامية المعاصرة بين المظهر والجوهر
يونيو 16, 2025بقلم: محمد أمين الأويغوري – سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في تركستان الشرقية
وصل الإسلام إلى تركستان الشرقية عام 96هـ/714م في عهد قتيبة بن مسلم الباهلي (49هـ – 96هـ / 669م – 715م)، وذلك مع امتداد الفتوحات الإسلامية في بلاد الأتراك –ما وراء النهر (آسيا الوسطى)– في العصر الأموي. توسعت جغرافية الخلافة العباسية لتشمل هذه المنطقة لاحقًا.
على التوازي، زحفت الإمبراطورية الصينية بقواتها العسكرية نحو نفس الجغرافيا عام 751م، وكانت معظم القبائل التركية قد هُزمت أمامها. اشتبك الجيشان – الصيني والعربي – بالقرب من مدينة “طلاس” الواقعة على نهر الطلاس، والتي تقع حاليًا على حدود تركستان الشرقية وجمهورية قيرغيزستان. مُنيت الصين بهزيمة عسكرية فادحة وطُردت تمامًا من آسيا الوسطى (ديار الأتراك). ومن هنا، بدأت العلاقة بين الطرفين المسلمين: العرب والأتراك.
وفي عهد الخلافة العباسية، ازدهرت المنطقة بالعلم والحضارة الإسلامية، إلى جانب ازدهار السلطة السياسية. أعلن السلطان عبد الكريم ساتوق بوغراخان، خاقان الدولة القراخانية (تُوفي عام 955م)، إسلامه عام 322هـ/934م، ونشر الإسلام في بلاد تركستان وما وراء النهر. كما عاصرت المنطقة الدولة السامانية والسلاجقة. وهكذا، بدأ التاريخ الإسلامي المزدهر للمنطقة بالعلم والحضارة تحت اسم الدولة القَرةخانيّة (الخاقانية).
استمر هذا الازدهار إلى أن اجتاح الاستعمار المغولي البلاد عام 1226م. ثم تدرج المغول في قبول الإسلام، وتداولت السلطة بين أحفاد المغول والأتراك المسلمين، وعاش شعوب المنطقة بإسلامهم بشبه أريحية.
غير أن هذا الاستقرار لم يدُم طويلًا، حتى غزت إمبراطورية المانشو الصينية الإقليم عام 1876م. ضمت الإقليم إليها بعد ثماني سنوات من الحرب الدموية والمجازر والإبادة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1884م، وغيرت اسمه إلى “شينجيانغ”، الذي يعني: المستعمرة الجديدة (الأرض المكتسبة) أو (الحدود الجديدة).
سياسات ما وراء الاحتلال والكفاح الشعبي
قدم الشعب التركستاني أروع التضحيات في الدفاع عن البلاد أوائل القرن العشرين، حيث أعلن شعب تركستان الشرقية لفترة وجيزة استقلاله بإقامة “جمهورية تركستان الشرقية الإسلامية” عام 1933م في مدينة كاشغر العريقة. واللافت هنا أن هذه الدولة هي أول جمهورية إسلامية أُسست بعد سقوط الخلافة العثمانية، وذلك بجهود كبيرة من العلماء والثورة الشعبية المشكّلة من الأتراك الأويغور.
للأسف الشديد، لم تستطِع هذه الجمهورية الصمود أمام الزحف الأحمر الطماع الذي لم تجف دماء جنوده في حرب إسقاط الخلافة العثمانية في تركيا والقوقاز والأناضول، ثم في آسيا الوسطى. فسُحقت في بداياتها خوفًا من قيام دولة مسلمة إلى جانبها يقوم عليها الأتراك المسلمون بفكرتهم الجامعة.
ثم وجد شعب تركستان الشرقية فرصة أخرى للاستقلال وإقامة دولتهم باسم “جمهورية تركستان الشرقية” عام 1944م، وذلك إثر الحرب العالمية الثانية، من خلال ثورة شاملة شعبية في شمال الإقليم. لكن الصين الشيوعية، بمساندة من الاتحاد السوفييتي، سيطرت على المنطقة بالكامل عام 1949م.
بعد أن احتلتها الصين رسميًا عقب إعلان قيام “جمهورية الصين الشعبية” في 1 أكتوبر عام 1949م، تشكل النظام السياسي الجديد في تركستان الشرقية بداية عام 1950م كمقاطعة من أقاليم الصين، حتى تم تعديل صلاحية الإقليم ليصبح “إقليم شينجيانغ الأويغورية- الحكم الذاتي” عام 1955م.
في هذه الفترة، أصبح الاتحاد السوفييتي بشيوعيته القوة الوحيدة التي تحكم القارة الآسيوية بعد الحرب العالمية الثانية، والحاكم الأوحد في إدارة آسيا الوسطى على وجه الخصوص. وقد دمر الثورات الإسلامية التي أثمرت قيام جمهورية تركستان الشرقية الإسلامية في 12 نوفمبر عام 1933م. ومع أنه ظهر كمؤيد لممثلي الثورة الشعبية في الولايات الشمالية لتركستان الشرقية، حيث استطاع الثوار التركستانيون إعلان قيام “جمهورية تركستان الشرقية” في 12 نوفمبر عام 1944م، فقد دمر شعوب آسيا الوسطى بالكامل – ومن ضمنها أتراك الأويغور.
تكريس الاحتلال الصيني ومحو الحضارات الإسلامية
استمرت الصين بقيادة الحزب الشيوعي، الذي يزيد عدد أعضائه عن تسعين مليونًا، متناغمةً مع سياسات روسيا (وليدة الاتحاد السوفييتي)، في محو هويات قوميات الأقاليم المسيطر عليها، وتذويبها في هوية قومية الهان الصيني، واستبدال الإسلام بالمبادئ الشيوعية والنظم الاشتراكية التي كرسها وفرضها على شعوب آسيا الوسطى.
ظلت الشعوب المسلمة تقدم أغلى التضحيات ليظل الإسلام موجودًا للأجيال القادمة، وذلك بثورات شعبية عارمة، وتشكيلات حزبية، ومحاولات للمشاركة السياسية. لكنهم لم ينجوا من بين المطرقة والسندان!
وراء هذا الصراع المتلاحم، تكمن نظرة الصين الشيوعية إلى الإسلام كأيديولوجية معادية للمبادئ الشيوعية وقيمها الاشتراكية. فمن الوهلة الأولى، حاربته وكافة الثقافات الأهلية والتقاليد وحتى العادات التي اعتنقها مسلمو تركستان الشرقية، وذلك لضمان عدم صحوتهم يومًا ما وقيامهم بثورة على الصين بقوة الحضارة و”فكرة الإسلام الجامعة” التي تمثل وجود تركستان واستمرارية مسلميها.
كان هدف الصين الرئيسي من جملة هذه الحملات القمعية التي تنفذها هو استيعاب الديموغرافيا والهويات الإسلامية للسكان الأصليين، ودمجهم في قومية الهان الصينية الكبرى على المدى المتوسط والبعيد. وقد لاقت عملية التذويب نجاحًا وذابت الكثير من الشعوب المستعمرة جراء هذه السياسات العنصرية الصينية. فعلى سبيل المثال، ذابت القومية المانشورية التي أسست إمبراطورية المانشو الصينية التي حكمتها خلال الفترة من (1644 إلى 1912)، أي بعد “ثورة شنهاي” التي غيرت مسار تاريخ الصين. فلم يبقَ لهم أثر سوى في سجلات التاريخ.
ومن أجل تنفيذ سياسة الصين في التذويب وطمس الهويات الأهلية، قامت بحملات هدم للمعالم الإسلامية كالمساجد والمنارات والمقابر، وطمس المعالم الإسلامية في البلاد. كما منعت الصين استخدام لغات الشعوب وأرغمتهم على استخدام اللغة الصينية، وفرضت مناهج التعليم الإجباري الصينية وفصلت أطفال المسلمين عن روابط الأسرة والمجتمع لغسل أدمغتهم، واتبعت سياسة التجهيل وغيرها من السياسات الفجة.
من أسوأ السياسات الصينية في الإقليم أيضًا سياسة الاستيطان، حيث وطنت السلطات الصينية ملايين من الهان الصينيين (أكبر مجموعة عرقية في الصين) في تركستان الشرقية (شينجيانغ) لتغيير الديموغرافيا، ما تسبب في تحول سكاني كبير. إذ كان الأويغور يشكلون 75% من سكان المنطقة في بداية الاحتلال، في حين كان الهان الصينيون يمثلون 6% فقط. والآن يمثل الأويغور 45% والهان الصينيون 40%، حسب الإحصاءات الصينية عام 2017. وهذا يشبه سياسات (إسرائيل) في الأراضي الفلسطينية.
هذا فضلًا عن مساعي الحزب الشيوعي لتبديل الإسلام والهويات تحت مسمى “تصيين الإسلام – صياغة الإسلام بمبادئ شيوعية” و“سياسة تصيين التعليم”، وغيرها من المسميات.
يطرح الكثيرون علينا سؤالًا كحل سياسي: “لماذا لا تنخرطون مع الحزب الشيوعي ليتنفس الشعب وتأتي الفرص؟” نقول لهم: “لا يوجد هناك سبيل للانخراط ولا للممارسات السياسية إلا وقد جربه السابقون بشتى السبل، ونحن أدرى بالصينيين بالتجربة والمعرفة!”
نظرة الصين لقضية تركستان الشرقية وتأثيرها على توازن القوى
في أربعة عقود من قيام الصين الشعبية، كانت تركستان الشرقية مغلقة وبعيدة عن أنظار العالم، متروكة كبقية المناطق التي تحتلها الصين لبسط تجربتها الزراعية والإنتاجية تنفيذًا للاشتراكية الشيوعية، متجبرة على الشعوب وقاتلة لهم بالمجاعة ومطارق الفقر.
وكانت الصين تركز من جهة أخرى على تطوير المدن الساحلية الشرقية والموانئ والمرافئ على البحر الصيني، كشنغهاي وشينجين وجوانغجو ووينجو وغيرها، والتي توازي هونغ كونغ وجزيرة ماكاو وتايوان التي تطورت وترقت في البنى التحتية والصناعات التقنية والسوق الحرة برأسمالية الغرب، منافسة لها في تطور البنية التحتية ولفت أنظار الأجانب وتجميل سمعتها.
وبتفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال الجمهوريات الخمس التركية عنه في بدايات التسعينيات، انكشف الستار عن منطقة تركستان الشرقية، وبدأت تبرز أهمية المنطقة استراتيجيًا وأمنيًا. كما لفتت المنطقة وظروف شعبها أنظار الدول العربية والتركية؛ كقيام السعودية بمبادرة دعم تأسيس المعهد الإسلامي لتأهيل الأئمة والخطباء عام 1989م.
نشبت الثورة الاستقلالية والمطالبات الشعبية السلمية رفضًا لسياسات الصين غير الإنسانية منذ الاحتلال. وردًا على ذلك، بادرت الصين بتأسيس منظمة شنغهاي للتعاون مع دول الجوار في المنطقة. كان الهدف الأولي لهذه المنظمة تنسيق الأمن ودفع التهديدات الخارجية. وقد ضمت المنظمة الجمهوريات الخمس الفتية، وروسيا التي نشأت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى باكستان وبعض الدول المجاورة لحدود المنطقة.
ثم قامت الصين سنة 2001م بسياسات سمتها “سياسة تطوير المنطقة الغربية” بعد فصل المنطقة عن العالم الخارجي، من أجل عزل المجتمع التركستاني عن مستجدات المشهد الأفغاني والباكستاني، ولكبح جماح النخب الشعبوية – علماء ومثقفين – من الداخل دون رحمة. وبهذا الخصوص، درس مجلس الدولة الصيني مع الأجهزة ذات العلاقة آراء حول تنفيذ السياسات والإجراءات المختلفة لتنمية المنطقة الغربية الكبرى، فكانت (الآراء حول تطوير وتنمية المنطقة الغربية الكبرى لمجلس الدولة) التي صدرت في مارس 2004م تشمل:
مواصلة الإسراع في بناء مشروعات الإنشاءات التحتية الرئيسية، لإرساء قاعدة راسخة للتنمية.
بناء المرافق الأساسية الزراعية والريفية، وتحسين ظروف الإنتاج وحياة الفلاحين.
تعديل هيكلة الصناعات بقوة، وتطوير الصناعات المتميزة.
دفع تنمية الأقاليم الرئيسية بنشاط، وإعداد أقطاب النمو الاقتصادي الإقليمي بنشاط.
تعزيز الأعمال العلمية والتكنولوجية والتعليمية والثقافية والصحية وغيرها من الأعمال الاجتماعية بقوة، ودفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة.
تعميق إصلاح النظام الاقتصادي، لتهيئة ظروف ممتازة لتنمية المنطقة الغربية.
توسيع قنوات التمويل، لتقديم الضمان المالي لتنمية المنطقة الغربية.
وغيرها من البنود التي تحمل شعارات جذابة، يكمن خلفها تصيين المنطقة جذريًا وتغييرها كاملًا من ناحية البنية التحتية والديموغرافيا السكانية والمعالم التقليدية، وصهر الهويات والثقافات في قومية الهان الصينية.
مبادرة الحزام والطريق وتداعياتها
مع إعلان الصين عن مشروع “مبادرة الحزام والطريق” عام 2013 (طريق الحرير)، ازدادت أدوارها لتأمين هذا الطريق الحيوي. يُعد إقليم تركستان الشرقية محطة استراتيجية رئيسية في هذا المشروع، حيث تنبثق منه ثلاث طرق برية رئيسية:
الخط الشمالي: يتجه إلى موسكو عبر كازاخستان.
الخط الرئيسي: يمر عبر قيرغيزستان وأوزبكستان ثم إيران وتركيا، وصولًا إلى دول أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسط.
الخط الجنوبي: يصل إلى باكستان حتى ميناء جوادر، ومنه تتفرع طرق بحرية إلى دول الخليج العربي ودول جنوب القارة الإفريقية.
تنقل هذه الخطوط/الطرق المنتجات الصينية من الإقليم إلى أسواق دول آسيا الوسطى وباكستان أولاً، ثم إلى دول الشرق الأوسط والخليج، فإلى أوروبا وإفريقيا. وبذلك، ازدادت الأهمية الجيوستراتيجية والجيو-اقتصادية لإقليم تركستان الشرقية بالنسبة للصين، لتحقيق هذا الحلم الطموح.
سياسات الصين في تركستان الشرقية
من البديهي أن الصين ستقوم بترسيم خارطة سياسية لتأمين هذا المشروع من داخل الإقليم. لكنها تصدرت بطريقة غير متوقعة، اتسمت بالمكر والخداع الفائقين للعالم الخارجي، خاصة الدول العربية والإسلامية، وبالقسوة والفظاعة البالغة على أهل تركستان الشرقية.
أول ما اتخذته الصين لأمن “المبادرة” مبدئيًا هو محاربة الإسلامية تحت مزاعم “صياغة الإسلام وفق المبادئ الشيوعية الاشتراكية” و”استئصال التطرف والفكرة القومية في الإقليم”. وقد أصدرت قرارات تحت مسمى “مكافحة الإرهاب واستئصال جذور التطرف”، والتي نتج عنها اضطهاد نخب الشعب التركستاني في الإقليم من خلال الاعتقالات الجماعية، التي بدأت بالشباب والعلماء والمثقفين في أبريل 2014.
بهذه الطريقة، أوجدت الصين حالة من الفوضى المصطنعة والتوترات المخطط لها عمدًا لتبرير اعتداءاتها الدامية في إنهاء ما تسميه “خطر الإسلام والقومية” في الإقليم. كما فرضت رقابة مشددة بواسطة الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والتقنيات الحديثة، مثل نظام “التعرف على الوجوه” وأجهزة التفتيش الإلكترونية وغيرها. وقد أسست مراكز تفتيش للشرطة في جميع الطرقات.
الأهم من ذلك هو تأسيس السلطات الصينية في أنحاء الإقليم سجونًا متطورة حديثة ومعتقلات جديدة، بالإضافة إلى ما أسمته “معسكرات التأهيل السياسي”. وقامت السلطات باعتقالات جماعية، أثبتت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وخبراء ومنظمات حقوقية أن نحو ثلاثة ملايين مسلم محتجزون في مراكز ومعسكرات لإعادة التأهيل السياسي في الإقليم. حاولت السلطات الصينية تبرير هذه الإجراءات بأنها ضرورية لأمن الإقليم واستقراره، مستعرضة الوضع في أفغانستان المجاورة.
وللحديث بقية في العدد القادم من مجلة أنصار النبي ﷺ، إن شاء الله تعالى.




