
صفقة القرن وقضية الأسرى
يوليو 18, 2025
غضبٌ قادَني إلى الهداية!
يوليو 18, 2025علي جاد المولى
كاتب مصري
المقدمة: الهجرة كمنهج استراتيجي
لم تكن الهجرة النبوية مجرد حدث تاريخي يُحتفى به كل عام، ولا مسيرة هروب من بطش قريش كما يصوّرها قُصّاص العوام، بل كانت “عملية استخباراتية متكاملة”، تفوقت على تقنيات عصرها، بل وتُدرّس اليوم في أرقى مناهج الأمن المعاصر.
فقد حوّل النبي ﷺ عملية الانتقال من مكة إلى المدينة إلى دراسة في إدارة الأزمات وانتصر في معركة الكتمان ضد منظومة قريش الاستخباراتية التي سخّرت المال، والرجال، والقبائل، وسدّت المنافذ، ولم تدّخر سيفًا ولا درهمًا إلا وقدمته لإفشال خطة الهجرة.
عندما يذكر الناس الهجرة النبوية، يتبادر إلى الأذهان مشهد النبي ﷺ وهو يغادر مكة تحت جنح الليل، ويختبئ في غار ثور ثلاث ليالٍ حتى تهدأ المطاردة. لكن القليل من الناس يتوقف ليتأمل كيف دارت هذه العملية بتفاصيلها المعجزة. لقد كانت الهجرة أعقد عملية أمنية عرفها ذلك العصر، تمت بإدارة فائقة الذكاء، وعمل جماعي بالغ الانضباط، واستخدام مذهل لما نُسمّيه اليوم بعلم “الهندسة الأمنية”.
واليوم، بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام، لا نزال نرى العالم يتعرض لاختراقات في كل ميدان: من لبنان إلى إيران، من اليمن إلى روسيا، بينما تقف غزة كالغار المعاصر الذي حار فيه العدو.
في هذا المقال، لا نريد أن نُعيد قصة الهجرة كما نحكيها كل عام. بل نريد أنّ نفكك أسرارها، ونستخرج من تفاصيلها الخطة التي صمدت أمام أعقد شبكات التجسس، ثم نُسقط هذه الدروس على واقع الأمة في زمن الطوفان.
فمن الغار… إلى غزة… ما زال السر قائمًا.
شخصية النبي ﷺ: القائد الذي لا يغفل التفاصيل
لم يكن النبي ﷺ رجل شعارات ولا قائداً ارتجالياً. لقد علّمنا أن النصر لا يُهدى لمن يتمنى، بل يُعطى لمن يُحسن الحساب. الهجرة النبوية لم تكن مجرّد خروج اضطراري من مكة إلى المدينة، بل كانت عملية هندسية محسوبة بكل تفاصيلها الدقيقة: التوقيت، الأشخاص، الطرق، الدعم اللوجستي، وحتى طبيعة الغار الذي سيُستخدم للاختباء.
النبي ﷺ أدار هذه العملية كقائد يُتقن هندسة التفاصيل:
لم يختر طريق الهجرة عبثًا، بل اتجه جنوبًا على خلاف المتوقع، ثم سلك طريق الساحل الأقل مراقبة. هذا التصرف يُعد اليوم استراتيجية مضادة للتوقعات (Anti-Pattern Strategy) ويُدرّس في أعرق الأكاديميات الأمنية العالمية.
لم يُبلغ حتى أقرب الناس إليه إلا في اللحظة المناسبة، كلٌّ على قدر المهمة التي سيؤديها. هنا طبّق النبي ﷺ ما يُعرف اليوم في علم الاستخبارات بـ “Need to Know”.
لم يُغفل دور المرأة ولا الخادم ولا الصبيّ: فجعل أسماء بنت أبي بكر مسؤولة عن الإمداد، وعامر بن فهيرة مسؤولًا عن طمس الآثار، وعبد الله بن أبي بكر مسؤولًا عن نقل الأخبار.
حتى وسيلة النقل، جهّزها بوقت كافٍ، بأمر مباشر من النبي ﷺ إلى عبد الله بن أريقط.
كان النبي ﷺ يعلم أن التفاصيل الصغيرة قد تصنع الفرق بين الحياة والموت، بين النصر والهزيمة، وهذه ليست مبالغة؛ كم من قادة في تاريخنا أضاعوا أمتهم بتفاصيل غفلوا عنها؟ كم من مشاريع سقطت لأنّ أصحابها لم يحصّنوا الأبواب الجانبية؟
في عقيدة النبي ﷺ، لم يكن الكتمان نقيضًا للإيمان، بل شطرًا منه، ولم يكن التوكل تواكلًا، بل تخطيطًا مُتقنًا تحت مظلة اليقين. قال لصاحبه: “لا تحزن إن الله معنا”، لكنه في الوقت ذاته أعدّ لكل شيء بحساب دقيق. إنه القائد الذي جمع بين عمق الإيمان ودقة التدبير.
في زمننا، كم نحتاج إلى استلهام هذا النموذج؟ كم نحتاج إلى قادة لا يتركون التفاصيل للصدفة ولا يركنون إلى الحماس العابر؟ في زمن تُخترق فيه الجيوش والأنظمة بثرثرة إلكترونية، نحتاج أن نعود إلى مدرسة النبوة التي تُتقن ترتيب الحروف قبل خوض المعارك.
ليس من الرشد أن نطلب نصراً بلا إعداد، ولا من الحكمة أن نبني الأحلام على جدران هشّة. شخصية النبي ﷺ في الهجرة كانت دعوة مفتوحة: إن أردتَ نصر الله، فأحسن التدبير.
الاختراق… العدو الذي يسكن الداخل
لو تتبعنا شريط الهزائم التي لحقت بأمتنا في العقود الأخيرة، سنجد أنّ السبب الأكبر لم يكن “قوة العدو”، بل “ضعف الحصن من الداخل”. كان العدو يعرف أين يضرب، يعرف مَن يُجَنِّد، يعرف مَن يخترق.
لم تُهزم القلاع من الخارج، بل سقطت حين نُزعت مفاتيحها من داخلها.
لكن العدو الداخلي لم يعُد شخصًا من جلدتنا فقط، بل قد يسكن في هواتفنا، وشاشاتنا، وألعاب أطفالنا. فمع صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتكامل الشبكات، أصبحت أدوات الترفيه والتواصل اليومية أدوات اختراق متقدمة. إنّ الهاتف المحمول اليوم لم يعد وسيلة تواصل، بل صار جهاز تعقّب وتسجيل بصري وصوتي مفتوح دائمًا. البرامج التي نستخدمها، والكاميرات التي نظنها مغلقة، والميكروفونات التي لا نتحكم فيها… كلها يمكن أن تتحول في لحظة إلى خنجر في ظهر القائد، أو بصّاص في غرفة المجاهد.
إذن لماذا تفشل الاختراقات في غزة؟
غزة اليوم تُربك أعتى أجهزة المخابرات. ليس لأنهم يملكون تكنولوجيا خارقة، ولكن لأنهم يتبعون “هندسة النبي” في إدارة الصراع: السرية، التحكم في المعلومة، وانضباط الصف.
إنّ فشل العدو لا يعني غباءه، بل يعني تفوق المقاومة في تحييد التكنولوجيا. فاليوم لم يعد المطلوب فقط ضبط الأفراد، بل أيضًا تحييد الأجهزة، والتحكم في الشبكات، أو حتى الاستغناء عنها تمامًا في اللحظات الحرجة. وقد أثبتت التجربة أنّ بعض الاغتيالات تتم ليس عن طريق العملاء، بل عبر برامج بريئة الشكل، قادرة على تحديد المكان والصوت والصورة في ثوانٍ، لتتحول إلى ضربة دقيقة لا تخطئ المخبأ. لهذا كان من أول أسرار النجاح في غزة: التجرد من الشبكات غير الآمنة، والتقليل من الاعتماد على ما لا يُصنع بأيدينا.
المقاومة تعلمت من مدرسة الهجرة: فيبنون الحصن الأخلاقي قبل الحصن العسكري. وحيث أنّهم على يقين بأنّ الكتمان عبادة، فهم يتقنون فن الصمت. وبعد ذلك يزرعون داخل كل مقاتل أنّ بيع المعلومة خيانة لله قبل أن تكون خيانة لفصيل.
كما أنّ المقاومة تُدار بنظام “الخلية المنعزلة”، حيث لا يعرف الفرد إلا ما يخصه، مما يحد من الاختراق. فوفق تقرير معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي (2023)، فشلت 92% من محاولات التجسس بسبب هذا النموذج.
الهجرة تعلمنا أنّ قريشاً فشلت لأنها لم تعرف أين يتجه النبي ﷺ، رغم أن المسافة بين مكة والمدينة معروفة. لكن النجاح لم يكن في المسافة، بل في حراسة الطريق.
ولأنّ الأمة اليوم في حاجة إلى بناء حصونها من الداخل، فإن إحياء روح الهجرة لم يعد ترفًا ولا اختيارًا. بل صار ضرورة، وسلاحًا، وبابًا من أبواب النصر.
كيف نُحيي روح الهجرة في واقعنا؟
إذا كانت الهجرة قد صنعت أعظم تحوّل في تاريخ الأمة، فالسؤال الذي يطرح نفسه اليوم:
كيف نحمل هذه الروح من كتب السيرة إلى ساحات الواقع؟ كيف نُحوّلها من ذكرى تُحتفل إلى منهج يُتّبع؟
في زمنٍ يستعجل النتائج ويقدّس الظهور، تُصبح العودة إلى مدرسة الهجرة أمرًا ملحًا.
الهجرة تُعلمنا أنّ البناء الحقيقي يبدأ بالكتمان. كل خطوة تُعلن قبل أوانها هي باب مفتوح للاختراق. كل فكرة تُنشر قبل نُضجها هي طُعم مكشوف للعدو.
اليوم نحتاج إلى أن نبني مؤسسات لحماية الصف. النجاح في غزة لم يأتِ من العدم، بل من بناء مؤسسات أمنية داخلية قوية: تطهير مستمر للصفوف، اختبارات ولاء صعبة، ومراقبة داخلية حقيقية.
نحتاج أن نستلهم من تجارب الآخرين كما في ماليزيا التي أنشأت وحدات حماية معلوماتية بعد الهجمات السيبرانية الصينية. وكما حدث في تركيا حين أطلقت “أكاديميات قيادة” لتأهيل الصف الثاني والثالث في التنظيمات المجتمعية والسياسية.
أن نُربي في كل مؤسساتنا وحدات تحمي المعلومة، تُدرّب على الأمانة الفكرية، وتُحسن حماية الخطط كما تحمي الأرواح.
وأن تُدرّب الكوادر على الأمن السيبراني، وتفادي التطبيقات الخطرة، وتبني بدائل مستقلة في الاتصالات والبرمجيات، تمامًا كما تفعل بعض الدول كالصين التي رفضت المساومة على سيادتها الرقمية، وقررت أن تكتب شيفرتها بنفسها فلا وجود لفيسبوك وجوجل داخل الصين رغم كل ما تحملته من هجمات غربية كانت ترفع شعار الحريات وحقوق الإنسان. وحتى أمريكا نفسها راعية الحريات في العالم شنّت حملة شعواء على تطبيق التيك توك الصيني بعد انتشاره بين الشباب هناك، وذلك خوفاً من استغلال الصين له ضدها، وصنفته كتهديد للأمن القومي الأمريكي.
وكما أنشأ النبي ﷺ شبكته المتكاملة في الهجرة، نحن بحاجة إلى شبكات عمل محكمة، تُدير مشاريع الأمة بعقلية الهندسة لا بعشوائية اللحظة. مشاريع يُراعى فيها اختيار الرجال كما راعى النبي ﷺ حين اختار صاحبه في الغار. فنحن لم نعد بحاجة إلى أبطال فرديين، بل إلى شبكات ذكية تعرف متى تعمل في العلن، ومتى تذوب في الظل.
وكما صبر النبي ﷺ على بناء قاعدته في المدينة قبل الهجرة، نحن بحاجة إلى صبر طويل في بناء مؤسساتنا وحماية صفوفنا، لا نُستفز لاستعجال نصرٍ لم نُحسن الإعداد له.
الهجرة لم تكن ضربة حظ، بل ثمرة إعداد طويل النفس.
الدرس العقدي من الهجرة: إيمان يهزم المستحيل
حين ننظر إلى الهجرة بعين القلب لا بعين المؤرخ، ندرك أنّ الهجرة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت انتقالًا عقديًا من الخوف إلى التوكل، ومن الاستضعاف إلى الثقة بوعد الله.كان يمكن للهجرة أن تحدث في لحظة واحدة بمعجزة تُذهل العقول، لكنّ الله أرادها رحلة تربية، وميدان اختبار، ومدرسة إيمان.
في لحظة حاسمة داخل الغار، حين اقترب المشركون حتى وقفوا على رؤوسهم، لم يقل النبي ﷺ: “أسرع بالفرار”، ولم يقل: “اختبأ أكثر”، بل قال بثبات مزلزل:
“ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟”
هنا يتجلى الدرس العقدي الأعظم: أنك حين تُتقن الأسباب وتبذل جهدك كله، يبقى الإيمان هو السلاح الذي لا يُخترق.
لقد ربّى النبي ﷺ أصحابه على أنّ النصر لا يُقاس بالعدد ولا بالعدة، بل بقوة الصلة بالله. الهجرة علّمتهم أنّ:
الدنيا دار عبور، فلا يُبنى عليها مشروع نهائي.
الابتلاء سُنّة، فلا يُستغرب الحصار ولا يُستنكر التأخر في النصر.
التضحية فريضة، فالهجرة لم تكن بلا ثمن: تركوا الديار، والأموال، والأهل، وبعضهم وهب حياته نفسها.
لكنّ الدرس الأعمق: أنّ مع العسر يُسرا. لا توجد غيمة بلا فجوة، ولا شدة بلا رحمة. في قمة الاختناق كان المخرج، وفي قاع الحصار كانت بداية التمكين.
اليوم نحن بحاجة إلى استعادة هذا العمق الروحي وسط عالم مادي يُسقِطُنا في فخ الإحباط. نحتاج أنّ نؤمن كما آمن النبي ﷺ أنّ الله مع المستضعفين، وأنّ كل خطوة مؤلمة على طريق الهجرة هي في حقيقتها خطوة نحو النصر.
فالهجرة ليست رحلة عابرة، بل رحلة يقين، تثبت أنّ الطريق إلى الله ليس مفروشًا بالورود، لكنه مفروش بوعد الله، ممهّدٌ بسننه:
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7].
خاتمة: هجرة لا تنتهي
الهجرة النبوية ليست قصة تُروى، ولا تاريخًا يُحتفى به كل عام. إنها مشروع مفتوح، وهندسة مستمرة، وهجرة لا تنتهي. فمن مكة إلى المدينة، ومن الحصار إلى النصر، ومن الضعف إلى التمكين… تتجدد الهجرة في قلوب الذين يُدركون أنّ المسافة الأقصر نحو النصر تمر عبر بناء الذات، وحماية الصف، وصناعة الخطط، وتعلّم الصبر الطويل.
لقد علمنا النبي ﷺ أنّ الانتصار ليس طفرة، ولا ضربة حظ، ولا هبة مجانية. بل هو ثمرة يقين راسخ، وتخطيط متقن، وصبر جميل. لم يكن ﷺ ينتظر معجزة تسقط على رأسه، بل كان ينسج النصر بخيوط السرية والحنكة واختيار الرجال. وفي زماننا هذا، ما أكثر الذين يرفعون الشعارات، وما أقل الذين يبنون المشاريع. ما أكثر الذين يتكلمون، وما أقل الذين يُجيدون الصمت حين يكون الصمت هو النصر.
الهجرة تعلمنا أنّ الأمة التي تفقد قدرتها على الكتمان تُخترق، والتي تفقد قدرتها على الحلم تضيع، والتي تفقد قدرتها على التخطيط لا تصل.
فلتكن هجرة هذا العام هجرة صادقة: من الغفلة إلى اليقظة، من فوضى العواطف إلى عمق الفهم، ومن أمنيات الشعارات إلى جدية المشاريع.
وليكن شعارنا كما كان شعارهم يوم الهجرة:
﴿إِنْ تَنْصُروا اللهَ يَنصرْكُم ويُثبّتْ أَقْدامَكُم” [محمد: 7].
فالنصر وعدٌ من الله، لكنه يُمنح لمن يُجيدون هندسة الهجرة في كل عصر.