
النصب والرفض وجهان لعملة واحدة
أغسطس 7, 2025
الاحتلال يقر خطة الاحتلال لغزة بالكامل
أغسطس 8, 2025د. محمود عبد الغفار
ماجستير في الإعلام
نواصل في هذا المقال تلمس أوجه القدوة الحسنة من نبينا الحبيب ﷺ في مهارات التواصل والإقناع، ونبدأ في ملامح عدة تندرج تحت عنوان:
(ب) استخدام الاستمالات العقلانية
تعتمد هذه الاستمالات على المنطق والحجج لإقناع المتلقى، ولأن الحوار عقلي فلابد من حشد المعلومات والأحداث وبناء النتائج على مقدمات منطقية، إضافة إلى تفنيد وجهات النظر الأخرى إن لزم الأمر.
الحوار
من بين المواقف الحاشدة بالاستمالات العقلانية الحوار الذي أداره الحبيب ﷺ مع الأنصار عقب توزيع الغنائم في غزوة حنين، كما يتضح جلياً في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عما حدث إذ قال:
لمَّا أصابَ رسولُ اللهِ الغنائمَ يَومَ حُنَينٍ، وقسمَ للمُتألَّفينَ مِن قُرَيشٍ وسائرِ العربِ ما قسمَ، ولَم يكُن في الأنصارِ شيءٌ مِنها، قليلٌ ولا كثيرٌ، وجدَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهِم حتَّى قال قائلُهُم: لَقيَ ـ واللهِ ـ رسولُ اللهِ قَومَهُ. فمشَى سعدُ بنُ عُبادةَ إلى رسولِ اللهِ فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنَّ هذا الحَيَّ مِن الأنصارِ وَجدوا علَيكَ في أنفسِهِم؟ قالَ: “فيمَ؟” قالَ: فيما كانَ مِن قَسمِكَ هذهِ الغنائمِ في قَومِكَ وفي سائرِ العربِ، ولَم يكُن فيهِم مِن ذلكَ شيءٌ. قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “فأينَ أنتَ مِن ذلكَ يا سعدُ؟” قالَ: ما أنا إلَّا امرؤٌ مِن قَومي. فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “اجمَعْ لي قَومَكَ في هذهِ الحظيرةِ، فإذا اجتمَعوا فأعلِمني”.
فخرجَ سعدُ فصرخَ فيهِم فجمعَهم في تلكَ الحظيرةِ، حتَّى إذا لَم يبقْ مِن الأنصارِ أحدٌ إلَّا اجتمعَ لهُ أتاهُ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ اجتمعَ لكَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ حَيثُ أمرتَني أن أجمعَهُم. فخرجَ رسولُ اللهِ ﷺَ، فقامَ فيهِم خطيبًا، فحمِدَ اللهَ وأثنَى علَيهِ بما هوَ أهلُهُ، ثمَّ قالَ: “يا معشرَ الأنصارِ ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فهداكُم اللهُ، وعالةً فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألَّفَ اللهُ بينَ قلوبِكُم؟” قالوا: بلَى! قالَ رسولُ اللهِ: “ألا تجيبونَ يا معشرَ الأنصارِ؟” قالوا: وما نقولُ يا رسولَ اللهِ وبماذا نُجيبُكَ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ. قالَ: “واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ، وعائلًا فآسَيناكَ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ”. فقالوا: المنُّ للهِ ورسولِهِ. فقال: “أوَجَدتُم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا، ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ! أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فَوَ الَّذي نَفسي بيدِهِ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ. اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ”. فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم. وقالوا: رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قسمًا، ثمَّ انصرفَ، وتفرَقوا1.
2- الأرقام
يُعد الاستدلال بالأرقام دلالة مهمة على دقة ما يجري الإخبار به، وأيضاً للتوثيق والتشويق معاً لما يخبر به الشخص غيره، فما بالنا إذا كان المتحدث نبياً يخبر عن ربه عز وجل.
وورد في هذا الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة:
فعندما تحدث الرسول الكريم ﷺ عن الموبقات حدد سبعة أنواع فقال: “اجتنبوا السبع الموبقات…”2.
وعندما تحدث عن الذين يظلُّهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة حدد سبعة أصناف، فقال: “سبعة يُظلّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه…”3.
وعندما يتحدث عن الظلم وأخْذِ شيءٍ من الأرض بغير حقِّه فإنما يجعل من الرقم سبعة رمزاً للعذاب يوم القيامة، يقول ﷺ: “مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأرضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أراضين”4.
3- بناء النتائج على مقدمات
تعد من الاستمالات العقلية القوية؛ إذ ترسي المقدمات المنطقية التي تمهد للعقل وتقنعه بالنتيجة المبنية على هذه المقدمة.
ومن أبرز الأحاديث النبوية في هذا الصدد هو رد خاتم الأنبياء محمد ﷺ على الشاب الذي أتاه كي يستأذنه في الزنا، فلم ينهره النبي أو يذكر له التحريم مباشرة ليعلمنا كيفية مخاطبة من يسألون مثل هذه الأسئلة، وأنهم في الغالب إما ضعيفو إيمان، أو حديثو إسلام، أو غلبتهم الشهوات، وهذه الحالات تتطلب الخطاب العقلاني للجم الشهوات وتحريك الإيمان. وهذا نص الحديث:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابًّا أتى النبيَّ ﷺ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: “اُدنُه”، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال ﷺ: “أتحبه لأمك؟”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك! قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم”، قال: “أفتحبه لابنتك؟”، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك! قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”، قال: “أفتحبه لأختك”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك! قال: “ولا الناس يحبونه لأخواتهم”، قال: “أفتحبه لعمتك؟”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك! قال: “ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم”، قال: “أفتحبه لخالتك؟”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك! قال: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم”، قال: فوضع يده عليه، وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهّر قلبه، وحصِّن فَرْجَه”، فلم يكن بعد – ذلك الفتى – يلتفت إلى شيء”5.
4- تفنيد وجهة النظر الأخرى
من غير خاتم المرسلين ﷺ يملك الحجة البالغة والرد المفحم على الآراء المنافية للدين والخلق.
وفي قصة لقاء النبي الكريم ﷺ مع وفد نصارى نجران وردّه على أكاذيبهم ما يبيّن ذلك بجلاء.
فقال الواحدي في (أسباب النزول): قال المفسرون: قدِم وفد نجران -وكانوا ستين راكباً- على رسول الله ﷺ، وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، فالعاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد إمامهم وصاحب رحلهم واسمه الأيْهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان شَرُف فيهم ودرس كتبهم حتى حَسُن علمه في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.
فقدموا على رسول الله ﷺ ودخلوا مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات (ثياب يمانية)، جباب وأردية في جمال رجال الحارث بن كعب، يقول من رآهم من أصحاب رسول الله ﷺ: ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: دعوهم. فصلوا إلى المشرق. فكلم السيد والعاقب رسولَ الله ﷺ فقال لهما رسولُ الله ﷺ: “أسلِما”، فقالا: قد أسلمنا قبلك، قال: “كذبتما، منعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير”، قالا: إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى، فقال لهما النبي ﷺ: “ألسـتم تعلمون أنـه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟” قالوا: بلى! قال: “ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟” قالوا: بلى! قال: “فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟” قالوا: لا، قال: “فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدِث”، قالوا: بلى! قال: “ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّيَ كما يُغذَّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويُحدِث؟” قالوا: بلى! قال: “فكيف يكون هذا كما زعمتم؟” فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضعة وثمانين آيه منها6.