
استشهاد 23 فلسطينياً في غارات مكثفة على قطاع غزة
يوليو 7, 2025
مقولة “التاريخ يعيد نفسه”بين القرآن الكريم ووقائع الزمان (1)
يوليو 7, 2025د. محمود عبد الغفار
ماجستير في الإعلام
من تعريفات مهارات واستراتيجيات الإقناع: هو تلك المقدرة التي يتمتّع بها البعض وتمكّنهم من تغيير سلوكيات وقناعات وتصرّفات شخص آخر أو مجموعة أخرى، تجاه فرد أو مجموعة أفراد أو أحداث أو فكرة معيّنة. وغالبًا ما تتمّ عملية الإقناع من خلال إيصال رسالة، أو مشاعر معيّنة، أو معلومات، أو منطق، إلى الطرف الآخر، أو مزيجًا من ذلك1.
ومن الطبيعي أن تحقق البلاغة النبوية في التبليغ والتواصل الدرجة السامية لاستراتيجيات الإقناع؛ إذ تنطلق رسالته من قلب شفيق على الإنسان، حريص على هدايته إلى طريق الرشاد وينشد له السداد، ويمتلك خطاباً بلغ قمة البراعة شملت كلماته عناصر البلاغة؛ فيبلغ الدماغ سريعاً وتتألف به القلوب.
لقد جمعت رسالة الإسلام إستراتيجيات الإقناع كافة لتعلم الإنسانية كيفية التواصل والتبليغ والإقناع، إذ قام بالرسالة داع عظيم القدر ﷺ يمتلك مواصفات خَلْقِية وخُلُقية لم يبلغها بشر جبلها عليه رب العالمين، تتمثل بؤرتها الرئيسية في الرحمة واللين: تتجمع حولها الأخلاق الأخرى في أعظم صفاتها.
كما تنطلق هذه الإستراتيجيات من رسالة حوَت مقومات السعادة والفلاح للإنسان؛ إذ اتصفت بالربانية لأنها من لدن حكيم عليم، وبالشمول والسعة والمرونة إذ وضعت حلولاً وقواعد للقضايا عبر أحكام ومقاصد صالحة للزمان والمكان معاً.
وبهذه المعاني السامية تفردت إستراتيجيات الإقناع لرسالة الإسلام حتى تقوم الساعة.
ورغم مضي أكثر من 1400 عام على الرسالة فلم يزِدها ذلك إلا رسوخًا وألقًا وانتشاراً، بل إن ما أنتجه علماء الاتصال والنفس قبل عدة عقود عن إستراتيجيات الإقناع لا يمثل إلا قسطاً مما تفردت به رسالة الإسلام، ولا يطاول شجرتها الباسقة في السمو والمتجذرة بأصولها.
محتوى الرسالة وإستراتيجيات الإقناع
يرتبط محتوى الرسالة عموماً بالقدرة على الإقناع. وعلى القائم بالاتصال تحديد الأدلة التي سوف يستخدمها، وتلك التي سوف يستبعدها، والحجج التي يسهب فيها، وتلك التي يختصرها.
أولاً: الاستمالات المستخدمة في الرسالة بهدف الإقناع
(أ) الاستمالات العاطفية
يُعد الصدق في الحديث واللين في الكلام مع إظهار مشاعر الاهتمام بالآخرين (الثلاثي الذهبي) للدخول إلى عقل وقلب المتلقي، وأولى الخطوات الناجحة نحو تحقيق الإقناع بالرسالة الموجهة من قبل القائم بالاتصال أو المتحدث.
فما بالكم إذا كان الصادق في القول والفعل هو مبلغ رسالة الإسلام رسولنا الكريم محمد ﷺ الذي قَالَ في الحديث: “عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا”2.
وهو الأمين على حياة البشر وأماناتهم وما يصلح دينهم ودنياهم ..
والرفيق في التبليغ، إذ جبله ربه على الرحمة واللين والتواضع ولا يعرف طبعه الغلظة أبدا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
ولقد حوى خطاب صاحب الرسالة كل ما يحقق الحد المثالي من الاستمالات العاطفية لاستراتيجيات ومهارات الإقناع، وهي:
1- إظهار الاحترام والاهتمام وبث المشاعر الإيجابية:
فما ورد عن سلوك وأخلاق صاحب الرسالة ﷺ أثناء الحديث والحوار يشي باحترام بالغ واهتمام باهر بالمتلقين، سواء على مستوى الكلام أو الإيماءات، إضافة إلى العناية الفائقة بالصحة النفسية عبر بث المشاعر الإيجابية، بداية من طلاقة الوجه، ومروراً بالتبسم وتبادل الحديث الضاحك، وانتهاء بالنصائح والإرشادات المؤدية إلى صحة نفسية مستقرة.
وامتلك النبي الأكرم ﷺ جميع الأخلاق السامقة التي تبهر كل من تواصل معه، ومن أبرز هذه الصفات: التواضع، وهي صفة الإنسان الحكيم الذي يعرف أن الكبر من صفات الله تعالى وحده، فما بالنا بخاتم وأشرف المرسلين؟
ولنتمعن في هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أنس بن مالك أنَّ امرأةً كان في عَقْلها شيء، فقالت: يا رسول الله إنَّ لي إليْك حاجة، فقال: “يا أمَّ فُلان انظُري أيَّ السِّكَك شِئتِ، حتى أقضيَ لكِ حاجَتَكِ”، فخَلا معها في بعض الطُّرُق، حتى فَرَغتْ مِنْ حاجَتِها.
فالمرأة كانت تريد نبينا ﷺ في أمر لا يطلع عليه أحد، فطلب منها الرسول الكريم أن تختار أي مكان يناسبها في طريق عام كي يقابلها.
كما حاز ﷺ الخلق الرفيع في التعامل وقالت أم المؤمنين عائشة: “لم يكن النبي ﷺ فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح”3.
وعنها رضي الله عنها: “ما رأيت رسول الله ﷺ منتصراً من مظلمة ظُلمها قط، ما لم يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا اُنتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً، وما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن مأثما”4.
وفي رواية للإمام البخاري: “ما خُيِّرَ النبيُّ ﷺ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ، فإذا كانَ الإثْمُ كانَ أبْعَدَهُما منه، واللَّهِ ما انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ قَطُّ، حتَّى تُنْتَهَكَ حُرُماتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ”.
2- بث التفاؤل والتبشير وتقديم التيسير
تقديم التبشير والتيسير على ما سواهما، وجاء في ذلك عدد من الأحاديث وترتب عليها تشريعات متنوعة. جاء في الحديث: “يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا”5.
وما خُير الرسول الكريم ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراماً، وقال ﷺ: “إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ”6.
فالرفق إذا دخل في الأمور كلها زينها وحسنها، وإذا غاب عنها كانت قبيحة.
وقال أيضاً ﷺ: “إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ”7.
واعتبر الرسول الكريم ﷺ أن أي تشديد يمكن أن يفتن الناس ويبعدهم عن دينهم، فنصح النبي ﷺ الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يخفف في الصلاة كي لا يفتن الناس بعد أن جاءته شكوى من طول صلاته وهو يؤم المصلين، وذلك خشية أن يترك الناس صلاة الجماعة، وذلك في حديث طويل رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ولذلك جاء في رواية أخرى للبخاري عن أبي مسعود عقبة بن عمرو أن الرسول ﷺ قال: “أيها الناس! إن منكم منفرين”، يعني: منفرين من الصلاة في الجماعة، “فأيكم أمّ الناس فليخفف”، وقال لـمعاذ: “أفتان أنت يا معاذ”! وقال بعدها: “هلّا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، واقرأ باسم ربك”.
أما التبشير فكان ديدن الرسول ﷺ في دعوته وكلامه، وهو الترغيب في رحمة الله والتبشير برضوانه وثوابه، خاصة مع من يُرجى إسلامهم، ومع الصبيان قبيل البلوغ، ومع العصاة الذين يريدون التوبة.
3- دفع سوء الظن وسد مسالك الشيطان
حرص الرسول ﷺ على حماية الصحابة من أنفسهم ومن الشيطان، ويعلمنا -بل ويعلم البشرية- كيفية التعامل مع النفس البشرية في المواقف المتباينة، والتي من الممكن أن يستغل الشيطان بعضها ليوقع المرء في المهالك.
فلقد رأى اثنان من الصحابة رسول الله ﷺ يكلم امرأة قرب مسجده فأسرعا! فناداهما الحبيب المصطفى ﷺ ليقفا وليبين لهما أنها زوجته صفية، فتعجب الصحابيان، لكن النبي ﷺ أوضح لهما أن الشيطان يجري في دم ابن آدم، وأنه خشي أن يقذف في قلبيهما شراً.
ونص الحديث الذي رواه البخاري عن أم المؤمنين صفية: كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ مُعْتَكِفًا فأتَيْتُهُ أزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وكانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النبيَّ ﷺ أسْرَعَا، فَقالَ النبيُّ ﷺ: “علَى رِسْلِكُما إنَّهَا صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ”! فَقالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ! قالَ ﷺ: “إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما سُوءًا”، أوْ قالَ: “شيئًا”.
وهذا من عظم رحمته ﷺ بالمؤمنين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث: إن النبي ﷺ لم يَنسبهما إلى أنهما يظنان به سوءًا لِما تقرَّر عنده من صدق إيمانِهما، ولكن خشِي عليهما أن يُوسوس لهما الشيطان؛ ذلك لأنهما غير معصومين، فقد يُفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى أعلامهما حسمًا للمادة، وتعليمًا لمن بعدهما إذا وقع له مثلُ ذلك؛ كما قاله الشافعي رحمه الله تعالى، فقد روى الحاكم أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة، فسأله عن هذا الحديث، فقال: إنما قال لهما ذلك؛ لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنَّا به التهمة، فبادر إلى إعلامهما نصيحةً لهما قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئًا يَهلكان به.
4- البلاغة عند الحديث
يرتبط نجاح أي رسالة بالقدرة على إقناع من تصل إليه، وعرّف أفلاطون البلاغة بأنها: كسب عقول الناس بالكلمات.
وكان نبينا الكريم ﷺ يحوذ قمة البلاغة إذ إنه ينتقي أحسن الكلام ويكرره ثلاثاً ليعقله من يسمعه إلى يوم الدين، فهو رحمة الله للعالمين.
فتميز ﷺ بقلة الكلام وكثرة المعنى (جوامع الكلم)، إذ البلاغة الإيجاز، وكلامه فصل لا فضول فيه ولا تقصير حديث. فكان يتكلم بكلام بَيّن فصل (واضح محدد) يحفظه من جلس إليه.
ووصف الجاحظ حُسن كلام النبي ﷺ وهو يتحدث عن بلاغة الرسول ﷺ وفصاحته في كتابه (البيان والتبيين) فقال الجاحظ: وأنا ذاكرٌ بعد هذا فنًّا آخر من كلامه ﷺ.. وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه، وكثرت معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلُّف، وكان كما قال تبارك وتعالى: قُل يا محمد “﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾8.
أما الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي فقال: إن هذه الفصاحة قد كانت له ﷺ توفيقاً من الله وتوقيفاً، إذ ابتعثه الله للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة9.
ومن كمال فصاحته ﷺ: عدم إطالة الكلام مع وضوح منطقه، واستخدام أبلغ المعاني وأحسنها تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِی یَقُولُوا۟ ٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ یَنزَغُ بَیۡنَهُمۡۚ﴾ [الإسراء: ٥٣].
ولمس الرافعي جانباً متفرداً من البلاغة النبوية إذ اعتبرها بمثابة حركات نفسية في ألفاظ: ومن كمال تلك النفس العظيمة، وغلبة فكره ﷺ على لسانه قل كلامه وخرج قصداً في ألفاظه، محيطاً بمعانيه، تحسب النفس قد اجتمعت في الجملة القصيرة والكلمات المعدودة بكل معانيها؛ فلا نرى من الكلام ألفاظاً، ولكن حركات نفسية في ألفاظ، ولهذا كثُرت الكلمات التي انفرد بها دون العرب، وكثُرت جوامع كلمه، وخلص أسلوبه، فلم يقصر في شيء، ولم يبلغ في شيء، واتسق له من هذا الأمر على كمال الفصاحة والبلاغة ما لو أراده مريد لعجز عنه، ولو هو استطاع بعضه لما تم له في كل كلامه، لأن مجرى الأسلوب على الطبع، والطبع غالب مهما تشدد المرء وارتاض ومهما تثبت وبالغ في التحفظ”10.
وتحدث النبي ﷺ عن فضل الله عليه في منحه جوامع فقال: “أوتيت جوامع الكلم”. والتي سماها الرافعي، “حكمة البلاغة”.
وتتميز هذه الحكم بقلة كلماتها وغزارة معانيها وسهولة حفظها وتداولها على مدى القرون، لا سيما أنها باتت محفوظة في الصدور والسطور معاً منذ عهد النبوة والصحابة والتابعين وحتى تقوم الساعة.
ومن هذه الجوامع:
“إنما الأعمال بالنيات”، “الدين النصيحة”، “الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور متشابهات”، “المرء مع من أحب”، “الصبر عند الصدمة الأولى”..
5- دلالات الألفاظ والحركات
كان الحبيب المصطفى ﷺ يستخدم دلالات ألفاظ بعينها يهدف منها إلى تفقد حال المتلقين وتأهيلهم للرسالة المنشودة، أو جذب الانتباه بتحديد أرقام بعينها، وهو ما ينعكس إيجاباً على المستمعين إذ يشعرون بعظم أهميتهم للمتحدث وحرصه على توصيل الرسالة بأيسر الطرق. ومن هذه الألفاظ: “استنصت لي الناس”، “خذوا عني مناسككم”، “اجتنبوا السبع الموبقات”.