
سيد قطب: وُضِع له القبول في الأرض
أغسطس 2, 2025
فتوى وجوب إنشاء التحالف الإسلامي العسكري والاقتصادي والسياسي حماية للأمة ودينها
أغسطس 3, 2025رحلتي مع سيد قطب
د. محمد الصغير
رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
في التاسع والعشرين من أغسطس القادم تحل ذكرى استشهاد الأستاذ سيد قطب، الذي ارتقي عام 1966م بعد محاكمة صورية سرع جمال عبد الناصر من إجراءاتها وأمر بنفيذ الحكم مباشرة، لاسيما بعد تعدد الوساطات الدولية، وأصبح تاريخ إعدام سيد قطب هو بداية ميلاد مرحلة جديدة، أصبح هو سيدها وقطب رحاها.
حتى في الفترة التي فترت فيها علاقة الإخوان المسلمين بأفكار الأستاذ سيد، جاء الربيع العربي فجدد العهد معه، وأنهى الربيع فترة الخريف والجفوة التي كانت، وظهر للمحب والشانئ أن زهرات التغيير التي تفتحت، والبعث الثوري الذي تمدد، إنما اقتات على أفكاره ونظرياته، وحتى بعد إخفاق ربيع التغيير في جولته الأولى، ظل اسم سيد قطب وفكره في واجهة المشهد، حتى أنني رصدت العقد الماضي أنه ما مر عام بعد عودة أنظمة الحكم القديمة، وانقلابها على ثورات التغيير، إلا والأستاذ سيد هو الاسم الأكثر تدوالاً “ترند” في وسائل التواصل كلما حلت ذكرى استشهاده، وما وجدت نظيرا لذلك أو قريباً منه مع أحد غيره.
كما أن المكانة التي أحرزها لم يتقدم لملء فراغها أحد حتى الآن وربما يستمر ذلك حتى تمام مائة سنة على استشهاده، ويشهد لذلك أن ما كُتب عنه من أبحاث ومؤلفات ورسائل علمية، قَلّما توفر مثله لأحد من أترابه أو رموز جيله، ولذا اخترتُ أن أكتب عني مع سيد قطب، لأنه الباب الذي أوقن أنني لم أُسبق إليه.
أولاً: بداية معرفتي بسيد قطب
كانت البداية من سماع اسمه على ألسنة الخطباء والمدرسين من أبناء الحركة الإسلامية، والاستشهاد بمواقفه وكتاباته في المواقف المختلفة، ثم كانت معرفتي بسِفره العظيم حول تفسير القرآن الكريم، الذي أسماه: (في ظلال القرآن)، وذلك في مكتبة شيخنا الأول ومعلمنا الأكرم فضيلة الشيخ عوض أحمد عبد الرحيم، الذي شعرت منه أن تفسير الظلال أحد أهم الكتب في مكتبته، ومع أزهريته القحة وعدم حفاوته بمؤلفات التيار الإسلامي إلا أنه كان يتعامل مع الظلال على أنه الروضة التي يستروح فيها والواحة التي يأوي إليها، فكان إذا حزبه أمر فزع إلى القراءة، وكان يقول: الحريري “صاحب المقامات” وسيد قطب كلاهما قادر على أن يأخذني مما أنا فيه، وينقلني إلى عالمه. وكان إذا أراد الوقوف على تفسير آية تنقل بين كتب التفسير؛ كالجمل على الجلالين وأبي السعود وغيرهما، ثم يكون مسك الختام مع الشيخ سيد قطب رحمه الله.
وعلمت من أحد رفقاء فضيلة الشيخ عمر عبد الرحمن، أستاذ التفسير بالأزهر الشريف، أنه كان على السنّة نفسها، وكان يقول لرفقائه بعد التطواف على كتب المفسرين: “عايزين نحلّي بالظلال”. أي: حلاوة الختام.
ثانياً: في مرحلة الثانوية الأزهرية
وفيها بدأت أخطب الجمعة، والخطيب المبتدئ الأيسر عليه أن يجعل خطبته حول حديث نبوي فيشرحه، أو آيات يذكر تفسيرها، فأدركت مبكراً أن ما أبحث عنه من المعاني أو ما أريد إيصاله من رسائل، لا أجده من أيسر طريق إلى في تفسير الظلال، فاستقر في خَلَدي أنه يكفيني عن غيره، ولا يسد غيره َمسدّه، لذا كان من أوائل الكتب التي اقتنيتها، وكانت الطبعة المشهورة ستة أجزاء من القطع الكبير، وجلدها باللون الأسود، وكان والدي -رحمه الله- يدرك أنني سأخطب الجمعة وأنها ربما تثير القلاقل إذا رأى نسخة الظلال في يدي؛ فيقول: “كلما رأيت هذا المجلد (الأسود) عرفت أن الخطبة مش هتعدي على خير”!
ثالثاً: في مرحلة الجامعة
كنا آخر مَن درس في الجامع الأزهر على الطريقة القديمة، حيث كنا نتحلق إلى شيخ العمود من أساتذة كلية الدعوة الإسلامية -عليهم سحائب الرضوان- وكان عميد الكلية أ. د. محمد إبراهيم الجيوشي، وهو من أساطين الأزهر الشريف رحمه الله، وكان مهتماً بتكوين الذائقة الأدبية لدى طلابه، فقرر علينا مادة تُعنى بذلك، تحت عنوان: (أساليب) وكان في شرحه يلفت الأنظار إلى الأسلوب الفريد الذي يكتب به سيّد قطب، ويكرر كثيراً مدحه لكتاب (التصوير الفني في القرآن الكريم)، ويرى أن هذا الباب من العلم أول مَن طرقه وأرشد الناس إليه هو صاحب الظلال، رحمه الله.
كانت كلية الدعوة الإسلامية نمطاً فريداً في مكانها وأساتذتها، وانعكس ذلك بالطبع على طلابها، الذين توافق أن يكون أكثر أبناء الحركة الإسلامية منهم، وكانت لنا خطة في عرض القضايا الفكرية في المحاضرات، عن طريق فقرة الأسئلة مع الأساتذة، ولا أنسى هذا اليوم الذي كان فيه أستاذنا د. حلمي عبد المنعم صابر -رحمه الله- على كرسي الأزهر، وخلفه المحراب وعن يساره المنبر، فسألته عن مؤلفات سيد قطب فقال: “لا أقرأ له”. فتعجبنا ثم ابتسم قائلاً: “لأن كلمات سيد كلما قرأت له وخزت ضميري، وشعرت أن سوطا يلهب ظهري، وصوتا يملأ أذني يهتف بي قم فاصنع شيئاً”.
كان د. حلمي وجيهاً أنيقاً، مما حببنا في الزي الأزهري، ومنحني الدرجة الكاملة 100% في مادة: تاريخ الخلفاء.
ثم درّسنا أيضاً فضيلة مولانا الدكتور محمد البري، وقد كتبت عنه كثيراً، وهو أحد معالم الطريق في حياتي، وكنا نعرف انتماءه إلى سيد قطب ومدرسته، وكنت في الامتحان الشفهي أقول لزملائي إذا سألنا الدكتور البري في التفسير لن نأخذ الدرجة الكاملة لو ذكرنا كل كتب التفسير ولم نستشهد له بـ(ظلال القرآن).
واكتمل المثلث الدعوي عندي بأستاذنا د. حسن يونس عبيدو، الذي درّسنا مادة التفسير في الكلية، وكنا نتتبع خطبه في المساجد وكأنها قراءة في صفحات الظلال، وروحاً من روح كاتبها.
ثالثاً: رحلة الهجرة الأولى إلى ألمانيا
وذلك بداية من عام 2000م، وفي مدينة (آخن) الشهيرة، كان مركزها الإسلامي برعاية أستاذنا الشيخ عصام العطار، يقيم مؤتمراً سنوياً لتكريم العلماء في حياتهم، وعقد مؤتمراً لتكريم الأستاذ الكبير محمد قطب بحضور كوكبة من العلماء والدعاة، وألقى الأستاذ المحاضرة الرئيسة، والتي خلت من أي ذكر للأستاذ سيد قطب، فغلى من ذلك صدري، وطلبت التعليق وقلت ما اعتمل في نفسي، وذكرت للأستاذ: أنه يندر أن تخلو محاضرة لأحد من الإسلاميين من ذكر سيد قطب ولم نسمعك تذكره بشيء!
وإذا بمقدم المحاضرة يقول: هذا السؤال تكرر فيما وردني من أسئلة مكتوبة !
وإذا بالأستاذ محمد قطب يقول: عن أي سيد تريدونني أن أتحدث؟ عن سيد قطب أخي؟ أم عن سيد أبي؟ أم عن سيد شيخي وأستاذي؟ ثم انهمر في البكاء، حتى قلت ليتني ما سألت.
رابعاً: في الهجرة الثانية
التي بدأت 2014م، ومع كثرة التجوال الدعوي في محافظات تركيا المختلفة، ما وجدت الأتراك يذكرون عالماً كما يذكرون سيد قطب، وفي غيرها من الدول إذا قلتُ أنا من مصر، فمنهم من يقول لك بلد النيل، الأزهر، الأهرامات، حسب ثقافة المتحدث واهتماماته، أما عامة أهل تركيا فالثالوث المصري “نيل- أزهر- أهرام” مختزل في سيد واحد: هو سيد قطب !
وكنت قبل شهور في زيارة لمدرسة علمية في ولاية ديار بكر التركية، وفي غرفة الأساتذة يجلس بعض الطلاب لتقديم الإكرام والضيافة، ولكني لاحظت أن واحداً منهم لا يشاركهم الخدمة، فسألت عن سبب ذلك، فقال أحد الأساتذة سَل الولد عن اسمه وستعرف السبب، فقال لي: اسمي “سيد قطب” اسم مُركب. فقال الأستاذ: لذا نحن نستحيي أن ننادي عليه، كيف يستقيم أن نقول أحضر الماء يا سيد قطب؟
فقبّلت رأسه ودعوت له ولوالديه!
لقد درس سيد قطب في كلية (دار العلوم)، في الوقت نفسه الذي درس فيه الإمام حسن البنا، لكن لم يجمعهما إطار واحد، وانضم سيد قطب للإخوان بعد استشهاد البنا بسنوات، ولا أرى تعارضاً في مسلك الرجلين المجددين، فكلاهما أدى الواجب الذي عليه، وما تطلبته مرحلته.
فإني أشبّه ما قام به البنا من البناء والتأسيس بمن صنع سيارة واستكملها على وجهها “الحسن”، لكن المنيّة عاجلتْه قبل اختيار المحرك المناسب ” الموتور”؛ فجاء سيد قطب فوضع هذه اللّبِنة، واختار المحرك الذي يقوم بهذا الجسم الكبير، لكن هناك من أصر على أن تبقى السيارة على حالتها الأولى، والاكتفاء بمحرك يحافظ على السيارة وإطاراتها من التلف، أو من اكتفى بالجلوس على مقعد القيادة دون تشغيل المحرك الأصلي تفادياً لصوته العالي.
ختاماً
كل من يعرفني عن قُرب يعرف شغفي بسيد قطب، وأنني لا أقدّم عليه أحداً من المعاصرين، كما أنني لا أرى لشيخ الإسلام ابن تيمية عديلاً في السلف السابقين، وإذا أردتُّ تقريب المسألة لأذهان أهل هذا الزمان قلت لهم: سيد قطب بين الكُتاب والمفكرين كالشيخ محمد صديق المنشاوي بين قراء القرآن الكريم.
رحم الله الجميع وجمعنا به عليين!