
هذا عيد المسلمين
أبريل 29, 2025
مقاصد الكفر العالمي في الحرب على الأمة المسلمةغزة أنموذجاً (2/2)
أبريل 30, 2025الشيخ إبراهيم السكران
فك الله أسره*
تدشين المراجعات
من أجلّ أنوار القرآن في مثل هذه الحنادس الدعوة إلى مراجعة العلاقة بالله، وأن الانكسار في الجهاد فرع عن شرخ في التزكية، كما بيّن كتاب الله هذا في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ [آل عمران: 155]، وقال سبحانه: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].
فيا لله العجب ما أشد شؤم المعصية! حتى ضعفت طاقة المجاهد، ومال للفرار ووقع عليه الأذى بسبب ذنب! فإذا كان هذا على المجاهد مع رسول الله ﷺ فكيف بنا نحن اليوم؟!
ومن كمال الدلالة القرآنية أن يبيّن القرآن المعنى وضده، وهو أحد الأوجه في تفسير وصف الله لكتابه بأنه “مثاني”، ومن أفراد هذا المعنى هاهنا: أن الله كما بيّن أن المعاصي سبب للهزيمة فقد بيّن أن الطاعات سبب للثبات كما قال الله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 66]، وأنتم يا أهل السّنة في الشام وسطٌ بين طرفين من المنتسبين للإسلام، حيث ذكر الله في كتابه ثلاثة أطراف في قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 190]، فقد حُرِم فئام من المسلمين من شرف الجهاد معكم، وشارككم طائفة من الغلاة قتال الكفار لكنهم “اعتدوا” وبقيتم أنتم بإذن الله ممن جمع أطراف الشرف في هذه الآية: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾، وتقوى الله كما تكون في قتال المعتدين فإنها تكون في ترك العدوان في القتال، فسنام الإسلام ليس للمخذّلين عن الجهاد ولا للمعتدين في الجهاد.
والمراد أن شرف الجهاد الشرعي وسط: بين من دعا لترك قتال الكفار والمسلمين سويًا وهم المخذّلون، وبين من دعا لقتال الكفار والمسلمين سويًا كالغلاة، وهذا الوسط يتبين بمعرفة مثارات الذنوب في القوة الشهوية والغضبية المركوزة في النفس البشرية، وسيأتي تفصيله في فرصة قادمة بإذن الله.
ومن أعظم أنوار القرآن في مثل هذه المدلهمة تدبر ربط القرآن النصر بقدر الاجتماع، وهذا موضع تُسكب عنده عبرات المحبين للجهاد الشامي، فقد تقرّحت الآماق من مشهد الافتراق، والله يقول: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]؛ فعلى قدر التنازع والافتراق يكون ذهاب الريح، وعلى قدر اجتماع الكلمة يكون النصر، بل انظر كيف أن “التنازع في الأمر” في موقف واحد حال الملحمة فتح على المسلمين من الانكسار بقدره، فكيف بالافتراق والتنازع والتشرذم على طوائف وأحزاب؟! يقول الله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152].
وتدبر هذا الذي وقع على سادات الأولياء الذين جمعوا شرف الصحبة وشرف الجهاد في موضع واحد كله بشؤم التنازع العارض من أعظم ما يقتلع من القلب جذور الحزبية القتالية، وهذه الجراحات التي تقع بين فصائل القتال المتحزبة هي من جنس العذاب الذي يسلطه الله سبحانه كما قال جل وعلا: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام:65]، فكل من سعى في رأب الصدع ولم شمل أهل السنة فقد سعى في رفع العذاب عنهم، والله سبحانه يكون في عون العبد إذا كان العبد في عون واحد من إخوانه وفي لفظ “كان الله في حاجته”، ويفرج عنه كربة من كُرَب يوم القيامة إذا فرج عن أخيه كربة من كُرَب الدنيا، وكلاهما في الصحيحين، فكيف بالله عليك من سعى في رفع العذاب عن طوائف الأمة، فكيف سيكون ثوابه؟! ولذلك عظم الله في كتابه شأن الإصلاح بين الناس في مواضع متعددة.
ومن أعجب دروس القرآن في مثل هذه اللحظات، بل هي من معجزاته ودلائل نبوة من أتى به، أن أصحاب التفكير الذاتي والمصالح الشخصية الذين لا يهمهم إلا أنفسهم أو وطنهم الجغرافي المسيّس، ولا يهمهم أهل الإسلام؛ هذه الشريحة هم مادة الوقوع في “ظن الجاهلية”، الذين لا يثقون بوعد الله، كما قال الله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: 154]، وما أحسن عبارة ابن كثير عن أصحاب هذا التفكير إذ قال في تفسيره: “اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة”. وهذا الظن الذي سماه القرآن “ظن الجاهلية” ما أكثر ما رأيناه في أصحاب الدعوات “الوطنية الجاهلية” وهكذا فجاهلية الراية تورث جاهلية المشاعر.
والحقيقة أن الظنون المرتابة كثيرًا ما تنبجس لحظة احتشاد الأحلاف وإحاطة كمّاشتها بأهل الإسلام كما وصف الله يوم الأحزاب بقوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب: 10]، وهي من أحلك لحظات الاختبار لأهل الإيمان كما في الآية التي عقيبها: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب:11]، وهي أيضًا أكثر لحظات الإخفاق للقلوب التي ضعف فيها اليقين كما في الآية الثانية بعدها: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: 12].
ثم لما حكى الله المقولة النفاقية التي نجمت في هذه المحنة: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ جاء بعدها ببضع آيات حكاية المقالة الصحابية الإيمانية التي تتلهف النفوس الشريفة أن لو كانت شاركت بمثل هذا الموقف، تذكر هذه المقولة النفاقية السابقة يوم اجتماع الأحزاب: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾، ثم اقرأ قول الله بعدها ببضع آيات: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22]، لا إله إلا الله، هذا والله الشرف، هذه والله المعالي، هذه والله القلوب، يارب نسألك من فضلك أن تعمر قلوبنا بكمال التوكل عليك واليقين بك وبوعدك!
ومن المؤكد أن القارئ لم يفُته ملاحظة الاشتراك بين وصف القرآن لحال رسول الله ﷺ يوم بدر، ووصف القرآن لسادات الأولياء من الصحابة يوم الأحزاب، فقد قال سبحانه عن احتشاد الأعداء يوم بدر: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173]، فوصفه بأن الخطب زاده إيمانًا، وبنفس هذا الوصف قال سبحانه عن احتشاد الأعداء يوم الأحزاب: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ فوصفهم أيضًا بأن الحدث ما زادهم إلا إيمانًا.
وربما لم يفت القارئ أيضًا ملاحظة أن “ظن الجاهلية” ذكر الله ظهوره في الوقعات الثلاث: فقال عن غزوة أحد: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: 154]، وقال عن غزوة الخندق: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب: 10]، وقال عن منصرف رسول الله ﷺ إلى عام الحديبية: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ [الفتح: 12]، فهذه من الأمراض المتكررة الظهور في اللحظات الحالكة، ومن أشد الأمراض التي تفتك بالكوادر المنتسبة للجهاد أن يكون ولاؤها ونفرتها على قدر حظ نفسها، كما قال الله عن جنس ذلك: ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: 58]، ولكن النفوس إذا مرضت أظهرت موالاتها في قالب جمع الكلمة، وأظهرت معاداتها في قالب الصدع بالحق، وللنفوس من الخبايا والأغوار ما لا يقدره إلا الله.
ومن أعظم المراجعات التي تستدعيها الأحداث إعادة بعث الهمة باستكمال تحكيم الشريعة في كل شؤون الحياة، وكثير ممن غزت قلبه النظرات المادية في الاجتماع البشري يظن أن “الشريعة” غرضها البُعد الأخلاقي الفردي فقط، وهو فكر يروج بين من يمكن تسميتهم “متصوفة الحداثة”، وهم خليط من العلمانيين الذين يسمون أنفسهم المتصالحين مع الدين والمتقاربين معهم من روحانيي الفلسفة المعاصرة، فيحصرون الإسلام بالتفسير الأخلاقي، بالتعريف الضيق للأخلاق، وهي فكرة قديمة قد تعود لتصبح موجةً اليوم للتجمّل أمام مدارس النقد الأخلاقي الغربي للحداثة، ولا يدرك هؤلاء -أو يدركون لكن لا يعيشون المعنى يقينًا- أن إقامة الشرع زيادة على كونها لتحقيق العبودية لله فإن لها “آثاراً منفصلة” في الدنيا بهطول الخيرات ودفع الجوائح، كما قال الله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: 66].
وقد قال أبو العباس ابن تيمية: “فقد عُلم بالاضطرار من النقل المتواتر، والتجارب المعروفة، أن الأعمال الصالحة توجب أمورًا منفصلة من الخيرات في الدنيا، وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك، وأن الله تعالى عذّب أهل الشرك والفواحش والظلم، كقوم عاد وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون، بالعذاب المنفصل والمشاهد، الخارج عن نفوسهم، وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجودة المشاهدة، وهذا أمر تقر به جميع الأمم، فكيف يقال إن العبادات والطاعات ليس مقصودها إلا ما يوجد في النفس من صلاح الخُلُق؟”.
والبوح الأخير في هذه المقالة هو تأمل درس الحضارة الغربية مجددًا، فتواطؤ الأحزاب على الشام وإلقاؤهم النيران على أهله مجرد تأكيد جديد ليوقظ الذي ما زال يخفق قلبه بالهيام بالإنسان الغربي وتعشّقِ القيم في الحضارة الغربية، وليقرأ قول الله: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ [آل عمران: 119].
اللهم استعملنا في تقوية قلوب إخواننا المسلمين!
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
ـــــــــــــــــــــــــ
- من مقال: إن الناس قد جمعوا لكم، إبراهيم السكران، موقع إلكتروني: طريق الإسلام، 2016م.