
القرآن معجزة زمانية-مكانية
مايو 4, 2025
ماذا رَبِحَتْ حَماسُ بَعْدَ غَزْوَةِ طُوفانِ الأَقْصَى؟
مايو 5, 2025د. حسين عبد العال
عضو الأمانة العامة للهيئة
لقد نهى الله سبحانه وتعالى الإنسان من أن يهلك نفسه، أو أن يقتل نفسه، أو حتى أن يصيبها بالأذى، فالمرء لا يملك نفسه ولذا لا يحق له التصرف فيها إلا وفق مراد الله تعالى، ولذا قال ربنا سبحانه: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴿ [البقرة: 195]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].
فكيف يُلقي المرء بيديه إلى التهلكة أو كيف يقتل نفسه؟
المنطق يقول: مَن تردى من جبل، أو طعن نفسه بسكين، أو ألقى نفسه في اليمّ، ومثل هذا كثير، فهذا يكون قد ألقى بيديه إلى التهلكة أو قتل نفسه، ولذا قال الشيخ السعدي في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه، ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك”.
ويقول المنطق أيضًا: إن من سلّم نفسه لعدوه ليقتله دون مقاومة فقد قتل نفسه، ومن ترك السلاح الذي يحمله ليقف عاريًا أمام عدوه يفعل به ما يشاء، فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، ومن كان في مقدوره الاستعداد لعدوه ولم يستعد وتمادى حتى داهمه العدو وقتله فقد ألقى بيديه إلى التهلكة، ومن أعان العدو على أخيه المسلم فقد ألقى نفسه هو إلى التهلكة، ومن ترك أخاه ليقتل بأي حجة حتى إذا ما تخلص العدو من أخيه توجه إليه فقضى عليه فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة.
تفسير التهلكة وقتل النفس في كتاب الله تعالى
قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].
قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: “وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهٍ مَهْ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ…﴾ الْآيَةَ. وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَبَرَهُ هُنَاكَ. فَأَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ”.
إلقاء السلاح تهلكة للنفس
قال تعالى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾ [النساء: 102].
قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: “أَيْ تَمَنَّى وَأَحَبَّ الْكَافِرُونَ غَفْلَتَكُمْ عَنْ أَخْذِ السِّلَاحِ لِيَصِلُوا إِلَى مَقْصُودِهِمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي الْأَمْرِ بِأَخْذِ السِّلَاحِ، وَذَكَرَ الْحَذَرَ فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيةِ دُونَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أَوْلَى بِأَخْذِ الْحَذَرِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يُؤَخِّرُ قَصْدَهُ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ لِأَنَّهُ آخِرُ الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا يَقُولُ الْعَدُوُّ قَدْ أَثْقَلَهُمُ السِّلَاحُ وَكَلُّوا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَعَاطِي الْأَسْبَابِ، وَاتِّخَاذِ كُلِّ مَا يُنْجِي ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَيُوصِلُ إِلَى السَّلَامَةِ، وَيُبَلِّغُ دَارَ الْكَرَامَةِ. وَمَعْنَى (مَيْلَةً واحِدَةً) مُبَالَغَةً، أَيْ مُسْتَأْصِلَةً لَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى ثَانِيَةٍ”.
ويظهر من ذلك أن الله تعالى ينبهنا ألا نلقي سلاحنا لا في وقت الحرب ولا في وقت السلم، ومعنى أن نلقي سلاحنا أننا نسلّم أنفسنا لعدونا، حتى يقضي علينا كيف يشاء، وتأمل قوله تعالى: ﴿مَيلةً وَاحدةً﴾ ليظهر لنا مدى حرص العدو على إهلاكنا ولو في جولة واحدة لا ثانية لها.
من يدعو المقاومة في غزة لإلقاء السلاح يريد إهلاكها
برز اليوم كثير من الثعالب الماكرة، تنادي المقاومة بأن تلقي سلاحها، لتقف مكتوفة الأيدي أمام عدو مجرم، عدو يمتلك كل أسباب القوة والعتاد، ولم يجرؤ واحد منهم أن يطلب من العدو الغاصب أن يلقي سلاحه، إنما الدعوة فقط للرجال المقاومين أصحاب الأرض وأصحاب الحق لأن يلقوا أسلحتهم، ومعنى أن تلقي المقاومة سلاحها، أي أنها تسلم نفسها لعدوها يفعل بها ما يشاء، يقتل أهلها ويسبي نساءها ويذبح أطفالها ويشرد الباقين ويغتصب ما بقي من أرض وينتهك المصون من العرض، فهذه الدعوات ما هي إلى لإلقاء أهل غزة أنفسهم في التهلكة!
إن السلاح هو سبب بقائهم، فإذا ألقوه فنوا جميعًا.
ثم ما هو عمل الرجال إذا ألقوا سلاحهم، هل يتحولون لعمل النساء ويجلسون في البيوت ويتركون العدو يسرح ويمرح في بلادهم؟!
إن أم أيمن -رضي الله عنها- خرجت يوم أحد مع الجيش وكانت تسقي الجرحى وتمرضهم، فلما فرّ بعض الصحابة من المعركة، تلقتهم أم أيمن وأخذت تحثو التراب في وجوههم، وكانت إذا لقيت فارًا منهم تقول له: “هاك المغزل وهات سيفك”! بمعنى: اترك عمل الرجال وكن في عمل النساء.
إن من يدعو المقاومة لإلقاء السلاح إنما يدعوها للتخنث وترك الرجولة، وهذا لن يكون أبدًا بإذن الله تعالى.
وللمقاومة فيمن سبقهم المثل
لقد وعت المقاومة الدرس جيدًا، ورأت أن مَن تمسّك بسلاحه انتصر وكُتب له البقاء والعزة، وأن من تخلى عن سلاحه كُتب عليه الفناء والإبادة، ومن عاش منهم عاش مشردًا ذليلًا.
فها هي أفغانستان لما تمسك المقاومون فيها بسلاحهم عادت لهم دولتهم وعزوا بعد ذلة، وما أصدق مقولتهم عندما عرض عليهم الأمريكان التفاوض ووضعوا لهم شرط إلقاء السلاح لإتمام التفاوض، فردوا عليهم بقولهم: “لولا هذا السلاح لما جلستم معنا”.
نعم، قوة السلاح فقط هي التي تعيد الحق وتجبر العدو على التراجع.
وكذلك ما حدث من تحرير لفيتنام حدث بتمسك المقاومة بسلاحها وعدم التخلي عنه، وكذا الجزائر وليبيا وغيرها من البلدان، والتاريخ حافل بأمثلة المقاومين الأبطال الذين حرروا بلادهم بسلاحهم.
وعلى الجانب الآخر فإن من تخلوا عن سلاحهم، أو استجابوا للضغوط فتركوا السلاح، أو ظنوا أن النجاة في ترك السلاح، فهؤلاء جميعًا أبادهم العدو ونكل بهم شر نكال.
فها هي سربرنيتسا والتي ظلت تقاوم وتقاوم وما أن ألقى المقاومون سلاحهم نزلت بهم أعظم مذبحة عرفها التاريخ المعاصر والتي تسمى مذبحة سربرنيتسا.
وما حدث في بغداد أيام أن دخلها المغول ليس منّا ببعيد، وما كان له من سبب سوى عدم المقاومة، أو الظن السيء في العدو أنه سيرحم، وغيرها من أمثلة التاريخ كثيرة ووفيرة.
يا أهل غزة أبشروا فإن التاريخ يعيد نفسه
ويكأني أرى موقف النبي ﷺ وأصحابه الكرام يوم الأحزاب وقد تخندقوا بالخندق الشهير، وقد اشتدّ بهم الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، حتى ظنوا بالله الظنونا، وما أن كانوا ينتظرون الفرج من الله تعالى، إذ تتفاقم المعاناة وتنقض قريظة العهد ليحكم الحصار على المسلمين، ويزيد الكرب شدة، وعندها يأتي الفرج وينصر الله المسلمين بآية من آياته، ويتحول الأمر سبحان الله، فما أن جاء النصر حتى حاصر المسلمون قريظة في نفس اليوم، ثم نكلوا بهم جراء غدرهم وخيانتهم.
واليوم يتجمع بنو قريظة والنضير وقينقاع ويعاونهم الصليبيون بأجمعهم على حصار أهل غزة، ويتخندق أهل غزة بذات الخندق الأول، ويشتد عليهم الكرب، ويأتي مشركو العرب ومنافقوها والخونة منهم لينقضوا عهد الإسلام، وينضموا لحصار أهل غزة، ويزداد الكرب على أهلنا في غزة مع دعوات التهجير ونزع السلاح وخلافه.
وإنها والله لحظات انتصار النصر والفرج من الله تعالى، وغدًا بإذن الله سيتم حصار قريظة وإجلائهم بعد التنكيل بهم، وكذا حصار منافقي العرب وخونتهم وإزالتهم عن عروشهم، لبدء مرحلة جديدة من التاريخ بإذن الله تعالى، ليعود للإسلام عزه ومجده.
نصيحتنا للمقاومة في غزة
بداية إن حق لنا أن ننصح هؤلاء الأبطال، فهم الذين ينصحوننا لا نحن ننصحهم، وهم أعلم وأدرى منا بالعواقب، لكن الله تعالى فرض علينا التناصح في الله عز وجل، بل إن من عُذر الله تعالى لنا أن أوجب علينا النصح لهم ولعامة المسلمين، قال تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 91].
ومن هذا المنطلق نقول لهم ما قاله هانِئُ بنُ قَبيصةَ البَكْريُّ لقومِه يحُضُّهم على القتالِ يومَ ذي قارٍ، وهو يومٌ مشهورٌ من أيَّامِ العَرَبِ، فقال: “يا مَعشَرَ بَكْرٍ، هالِكٌ مَعْذور خَيْرٌ مِن ناجٍ فَرور، إنَّ الحَذَرَ لا يُغْني مِن القَدَر، وإنَّ الصَّبْرَ مِن أسْبابِ الظَفَر، المَنيَّةَ ولا الدَّنيَّةَ، اسْتِقبالُ المَوْتِ خَيْرٌ مِنِ اسْتِدبارِه، الطَّعنُ في ثَغْرِ النُّحور أكرَمُ مِنه في الأعجازِ والظُّهور، يا آلَ بَكرٍ قاتِلوا؛ فما للمَنايا مِن بُدٍّ”.
فيا أبطال غزة إياكم وإلقاء السلاح، فوالله ما بقي على ظهوركم وعلوكم إلا النذر اليسير، فالثبات الثبات، والله ناصركم ومعز دينكم.
اللهم ثبّت عبادك المجاهدين على أرض غزة يا رب العالمين، وردّ عنهم كيد المجرمين، وعافِهم برحمتك من المنافقين والمخذلين والخائنين، واجعل لهم من لدنك نصرًا وفرجًا عاجلًا برحمتك يا أرحم الراحمين!