ابحثوا عن قصص الأسرى في سجون الاحتلال
مايو 8, 2024الوطنية سبب تخلف المسلمين وارتداد عن سُنة النبي
مايو 17, 2024نتوسل إليكِ يا أمنا العزيزة أن تتقبلي استلام رسالة من ابنيك الأسيرين.. اللذين استدرجهما الأمل في كل عام على التأخير. لكن بعد مضى 30 عاماً من أسرنا، ومن غوايات الوعود اللذيذة، كان لا بد لنا أن نبعثها لحضرتك الكريمة، ولزوجتي الحبيبة، والخجل مستبد بنا وبحروف كلماتنا من أن ترفع رأسهما بوجهيك الجليل، فمعذرة منكما على انتظاركما الطويل.. كل المعذرة.. وصفحكما نرجو.. على كل هذا التأخير.
بسم الله الرحمن الرحيم..
يا أمي..
دعينا نناديك.. يا أمي..
فأكثر من 30 عاماً ونحن تحترق شوقاً لتتشرب أرواحنا صدى صوتك العذب حينما تجيبيننا: “نعم يمّا”.
أكثر من مرة يا أمي يسقط القلم من يدي كلما هممت بالكتابة، بعد أن حسمنا أنا وأخي قرارنا وعزمنا لأن نكتب لك؛ لأنني لم أعرف من أين أبدأ معك الحكاية، أو كيف أصف لك شكل النهاية، التي لم تُكتب فصولها بعد.
ولأن حروف شوقنا وحنيننا وعبق التاريخ تندفع جملة واحدة من خلايا أجسامنا جميعاً، تتدافع نحو الأعلى متحاشرة عند حلقي محدثة فوضة وإرباكاً في أفكاري وخواطري؛ فأشعر في الحال بالانسداد والاختناق الذي لطالما كنت في كل محاولة أجهد لأن أتفاداه فيفلت القلم من يدي مسرعة مسعفة عنقي لتدليكها وتليينها، ولتسليك حلقي طمعاً لأن يتحرر للهواء مجراه.
لكننا يا أمي نقسم برب العرش إننا لم نكتب لنقول لك: أماه اصبري.
فدون صبرك الجميل قمم الجبال، ويعجز عن إدراكه أو تصوره أي خيال، فأنتِ الصبر بالكمال.. وأنت الأمل.. وأنت الجمال.
أتذكرين يا أمي زيارتك الأولى لنا في سجن الرملة، ذات صباح، إذ كنت أمشى نحوك كسنبلة الحقل المثقلة بحبات لوعة فراقكم والقلق عليكم واشتياقنا المطرد لكم، فجلست مستسلماً بين يدي حضرتك كما تستسلم خاشعة السنبلة الحاملة مطمئنة؛ كمن وجدت أمانها في قبضة يد الفلاح.
لكنك يا أمى ظننتِ بنا للوهلة الأولى غير ذلك، فأنشبت بكلتا يديك الشبك البليد، الذي يفصل بيننا، وقلت لنا معلمة كما تعلم اللبوة شبلها: “خليك يا ابني كما ربيتك.. محارب عنيد؛ معنويات عالية وإرادة صلبة حديد”.
فقلنا لك: يا أماه، ليس القيد في المعصم نشكوه، ولا حقارة السجان، فنحن هنا منجزين وعداً لوطن قطعناه، وليعلم يوماً شعبنا الحر أننا أبداً ما خذلناه، مجاهدين في سبيل الله لا نبتغي غير رضاه، إنما هو يا أمي قلق عليكم عانيناه، وعلى إرث بارك الله حوله من آلاف السنين عن كنعان والفاتحين ورثناه.
فقلتِ راضية والبسمة المشرقة ترتسم جذلة على وجهك الوضاح توشكين أن تطيري من الفرح: “الحمد لله.. الحمد لله.. أبناء أبيكم يمّا.. عليه رحمة الله”.
وألا تذكرين يا أمي يوم تسنّى لنا سجن السبع أن نلتقي بشوق السنين العابرة، بعد جهد وعناء، كشوق الزهرة لخيوط الشمس الناعمة، وتحضنينني بلهفة الأرض العطشى لغيث السماء، وأخذت تتحسسينني وتلمسين شعري بكف يمناك، وتشعشعين ابنيك بفيض حبك وحنانك، كما تفعل الأم الرؤوم مع طفلها المولود للتو.
ولما سألنا عنك بعد أيام قالوا لنا إنها لم تنهض من فراشها منذ الزيارة ولا ندري لماذا.. لكننا أنت ونحن يا أمي ندري.. نعم ندري، وقلوب البشر تدري ونبض الكون يدري، والدم في عروقنا يدري: ندري لأنك أم.. لأنك أمنا.
وألا تذكرين يا أمي في إحدى زياراتنا قبل بضعة سنوات لما سألتك عن أحوال البلد؟ قلتِ لي: “عن (مشيرفة) موطن ولادتك؟ أم عن (أم الفحم) عرين أخوالك تسأل”؟
فقلت: عن الوطن أسأل يا أمي!
سكتِ برهة، حسبتها دهراً، ثم بدمعك الصامت أتاني الجواب، وإلى الآن يا أمي لم أعلم أعلينا بكيتِ أم الوطن؟! فاستطردت بعد سائلاً: كيف شعبنا يا أمي؟
أجبتِ: “شعبنا بخير يمّا”.
قلتُ مستغرباً: كيف شعبنا بخير يا أمي وجرائم القتل تمزق مجتمعنا في الداخل مخترقة مدننا وشوارعها؟! وكيف شعبنا بخير يا أمي وأوغاد المستوطنين يتغولون ويعربدون في شوارع وكروم الضفة راسمين للمعازل حدودها؟
حينها قلتِ لنا: “إذا عندنا يمّا انسحب علي بابا وقانون من شوارعنا، فلا تستغرب أن يصل القاتل ابن جلدتنا للأسف عتبات الأبواب.. وهناك يمّا في الضفة الحزينة لما نام عن واجبهم الأمناء انفلتت مزهوّة من عقال خوفها الذئاب والكلاب”.
يا أمي، لم أركِ في حياتي غضبتِ يوماً قط كغضبك لأجل زوجتي إذا ما صدر عني نكتة لا تروق لها، أو كلمة مستفزة قطبت لها جبينها.
فعلمني حبك وعلمني قلبك إن ضوء الشمس أوسع وأكرم من أن يستفرد به إنسان.
أيا زوجتي..
كنتُ إذا ما ضاقت بي الدنيا كان يكفيني منك رؤياك..
ودوماً أناجي ربي خالقي صباحاً يكون فيه لقياك..
أيا غاليتي.. لطالما كدحت باحثاً في كل قواميس الأرض لأجد ما يليق بك من الكلمات أو بيت شعر في كل كتب الأشعار، وما وجدت شيئًا يا زوجتي يناسبك. ولو واحدة من دمعات الانتظار؛ فاسمحي لروحي أن تقول لك بإخلاص: أحبك يا زوجتي للأبد.
أما الآن، بعد 30 عامًا، فلن نسألك يا أمي ما شكل الضياء وما شكل القمر، ولكننا نسألك عن حصيرتنا البنية وليالي السمر، وعن مصطبة دارنا، وعن قعداتنا أيام زمان وعن بستاننا المليء بالملوخية والخضار، وعن شجرتي التين والرمان، وعن ليمونتنا الشهرية خلف الدار، وعن موزتنا العنيدة، وشجرة الصبار.
لا نريد أن تطيل عليكِ يا أمي، غير أنه بالأمس واجهني سجان -بعدما عرف أنني أكملت 30 عاماً في الأسر- بسؤال مشحون كله بخباثة الاحتلال وحقارته:
من بقي لك في هذه الدنيا له في قلبك محبة بعد هذا الغياب الطويل؟
صمتُ لحظة ولوهلة شعرت يا أمي أن صخرة الزمان الطويل أسقطت كلها بلؤمه على رأسي كله، غير أن روحي لم تتردد في الإجابة طرفة عين، إذ داهمتني من فوري باندفاعة لا تباري صورتك يا أمي وصورة زوجتي، فقلت له بحزم أسلافي الفاتحين و دون تردد أو تلعثم: فلسطين.
ربما يا أمي لأنني أحسست أو رأيت من عينيه تنبعث شماتة الأعداء الغاصبين؛ فإحساس التاريخ والحق والعدالة أقوى من أي صولة للغرباء العابرين.
فمعذرة منك يا أمي، فأنت لنا فلسطين وأنت الوطن وأصل الحنين، أنت الفرحة تمحو الشجن.. وأنت دفتي وقت المحن.. وأنت أغلى ما في الوجود.. بوسة على جبينك يمّا تسوى وجودي.
فيا إلهي ألهمني كيف نحب حباً يليق بجلال أمي.. وامنحني يا إلهي وزوجتي أن نجدد عهداً بالحب عشناه.
وعلمنا يا إلهي كيف نشكرك ونحمدك على نعمة انتماء لوطن قد عشقناه ..
محباك المشتاقان.. ابناك الأسيران: إبراهيم ومحمد إغبارية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* إبراهيم ومحمد إغبارية، أسيران لدى الاحتلال الصهيوني منذ 25-2-1992م، صدر بحقهما حكم بالسجن 3 مؤبدات، كتبا المقال في ذكرى دخولهما عامهما 37 في سجون الاحتلال. المصدر: رسائل من داخل السجون، مجلة جامعة الدول العربية، 30-3-2022م، موقع إلكتروني (فيسبوك): عبد الناصر عوني فراونة.