طوفان الأقصى في ميزان: (وَأَعِدُّوا)
مايو 6, 2024فلتكن معركة شاملة مع العدو الصهيوني (2/2)
مايو 7, 2024الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا على رسول الله وبعد:
يقول ثعلب السياسة الأمريكية وأحد أشهر مهندسي النظام العالمي هنري كيسنجر: “الشرعية تعني قبول كل القوى الكبرى إطار النظام الدولي، بحيث لا يوجد على الأقل دولة مستاءة جدًا.. النظام الدولي لا يجعل الصراعات مستحيلة، فقد تقع الحروب ولكنها ستخاض باسم الهيكل الحالي، ويبرّر السلام الذي يلي بأنه تعبير أفضل عن الإجماع العام المشروع، ولا تكون الدبلوماسية بمعناها التقليدي -أي تسوية الاختلافات عن طريق المفاوضات- ممكنة إلا في الأنظمة الشرعية”.
فمن خلال ذلك المقال يتضح جلياً أنه في ظل النظام العالمي الليبرالي الكل من الأحرار، إنما ليس من أجل صناعة السلام، بل مِن أجل التسابق على الدمار.
فهو نظام عالمي قام على انفتاح العالم على بعضه البعض ووفق تنافسية عالية حول القطبية، بدت فيه الصين كعملاق استيقظ لينافس أمريكا بغزارة إنتاجه ورواج سوقه، وأمريكا كحامي لمكانتها المهيمنة السلطوية، لتستعر بين الدول الكبرى معارك وجودية بمقاربات أمنية وسياسية واقتصادية، تضمن لها استمرارية الهيمنة، خاصة وأن النظام الرأسمالي في طريقه إلى الزوال، وبات مجرد بناء هش لا يمكن أن تقف عليه أقدام الدول الكبرى لتحكم العالم من جديد، وأمام كل ذلك أصبحت الدول الكبرى منقسمة بين دول تريد الحفاظ على الهيمنة ودول تتنافس عليها، أما الدول الإسلامية فهي مجرد دول مستضعفة، أقصى وظيفة لها أن تحفظ قواعد هذا البناء كي لا ينهار، وبدلاً من أن تبحث لها عن موقع لتغيير هذا الواقع، تعلقت بأهداب هذا النظام كالذليل الذي لا يجد البديل.بينما كان الحري بها هو انتهاج نهج فوكو في الحفر المعرفي، أو ما يدعى بالإركيولوجيا لرصد الخلفيات التاريخية لأي إيديولوجيا، والوقوف عند حيثياتها الواقعية، فرصدنا لليبرالية كأحد مخرجات هذا النظام الدولي يجعلنا نرى أنه لا وجود لليبرالية عربية قد ولدت من الليبرالية الغربية بالمعنى الآلي للكلمة، فمجرد تطبيق النظرية الليبرالية يجعلنا ندرك ما ينتج عنها من تناقضات، من خلال مثلاً نداء الثورة الفرنسية القائل: “لاحرية لأعداء الحرية”، أو استبدادية روسو الذي يقول: “لابد من إجبار الناس على أن يكونوا أحراراً”. فجميعها تحمل تناقض النطاق التطبيقي لتلك النظرية.
أو حتى من خلال رصد الاتجاهات الثلاثة لليبرالية الغربية التي تمثلت في الفلسفة الألمانية: فلسفة نيتشه، وفيورباخ. والفلسفة الوجودية، والفلسفة الماركسية، إضافة للكلامية الجديدة.
فبالرغم من أنّ الفلسفة الكلامية في عهد الأنوار كانت تدور حول الله، إلا أنّ الوضع انعكس -كما وصفه فيورباخ- وأصبحت تدور حول الإنسان. وهذا ما نلاحظه عند هيغيل، فلم تبق الحرية الفردية تابعة للحرية الإلهية، بل أصبحت صورة من صورها عند تعيين المطلق في الفرد، فهيغيل قام بوضع الحرية الإنسانية المطلقة متجاوزًا المجتمع والتاريخ، ثم أسّس نظريته تلك، وجعل من حيثيات تطبيقها هو توافق إرادة الفرد مع إرادة الدولة، فنتج عن ذلك أمران هما:
أولاً: تقديس هيغيل للدولة
ثانياً: علاقة الحرية بالدولة
فإن كان الفلاسفة التقليديون يضعون الله كتوافق مطلق بين إرادة الفرد وإرادته، فإنّ هيغيل قد أحل محلها الدولة العقلانية، لتكون توافق إرادة الفرد وإرادتها، وهو مطلق الحرية، وهدف التاريخ.
فكان الفكر الهيغلي إذن يقول: “المطلق هو الدولة”.
والماركسي يقول: “المطلق هو الطبقة العاملة”.
والوجودي يقول: الحرية الوجدانية هي المطلق، حتى أنّ سارتر قال: “ليس بوسع الإنسان إلّا أن يكون حرًا”.
والكلامي يقول: المطلق هو الله، حتى أنه رأى أن “الحرية هي لمسة إلهية في الإنسان”.
فكيف طُبّقت الليبرالية كأحد ركائز النظام الدولي في المنطقة الإسلامية؟
أعقاب سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي، نشأ التيار الليبرالي وبدأت ملامحه تظهر ظهوراً بارزاً بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م؛ حيث تميز بما يلي:
أولًا: الاصطفاف الكامل مع المشروع الأمريكي في المنطقة الإسلامية، الرامي إلى تغيير مناهج التعليم، واستعمال القوة العسكرية لتغيير الأنظمة العربية، وجعل سبيل الاحتلال سبيل هذه الدول نحو الديمقراطية، والتلذذ بدوي الانفجارات في بغداد، كما صرح بعضهم بأنها أصوات تشبه موسيقى بيتهوفن.
ثانيًا: تطبيق مقاييس النقد الغربي على نصوص الوحي، وإخضاع المقدَّس إلى المنطق العقلاني.
ثالثًا: اعتبار الأحكام الشرعية أحكامًا آنية الزمان، لا يمكنها العبور إلى أزمنة تاريخية أخرى، مثل قضية الميراث والإمامة في الصلاة بالنسبة للمرأة.
رابعًا: عدّ الإسلام تراثاً من الماضي المتحجر ولابد من الانفصال عن مبادئه لأجل حاضر متحرّر.
خامسًا: الدعوة إلى الديانة الإبراهيمية التي تمتزج من خلالها جميع الديانات السماوية، وهي دعوة صارخة لجعل الإنسانية هي البديل الوحيد للتعايش بين البشر، وليس الإسلام بقيمه الأخلاقية السامية.
سادسًا: التطبيع مع إسرائيل واتهام العرب بكل النقائص، وعدّ حتى دعواتهم إلى الاستقلال محض دعوات غوغائية بعيدة عن العقلانية، فالمقاومة الفلسطينية مثلاً هي مجرد مقاومة إرهابية بزعمهم، لأن الحل الوحيد حسبهم للقضية الفلسطينية هو الجلوس على موائد المفاوضات، ليكون الرد الطبيعي على إسرائيل هو التطبيع معها.
يقول محمد عمارة رحمه الله: “إننا لا نكاد نجد موقفًا سياسيًا لهذا التيار إلا وهو يطابق موقف أمريكا، وهذا يؤكد أنّ هذا التيار عبارة عن احتياطي إعلامي يستعمله الأمريكيون لتسويق أفكارهم وسياساتهم، وجناح فكري، ورافد ثقافي لمشاريعهم في المنطقة الإسلامية”.
كما أنه يرى أنها تناقض أصول الإسلام ومنهجه وأخلاقه، كما تناقض قيمه، ومحاولة التوفيق بين الإسلام والليبرالية هو محاولة استفراغ لدلالة كل منهما، ففلاسفة الليبرالية قد شكلوها خارج إطار الأديان جميعًا، ولم يدّع أحدهم ارتباطها ولو بدين محرّف، فالليبرالية لا تعترف بحكم الله، ولا تقر بشريعته جلّ وعز، وترى أنّ الحرية الإنسانية وحدها كافية لإصدار التشريعات، فالليبرالية -حسب المفكر محمد عمارة رحمه الله- عقيدة في الحرية الفردية، تعتمد على العقلانية المنكرة للوحي، والمادية المضادة للقيم والأخلاق.
وكل مَن يتأمل الواقع وما يحدث في الدول الإسلامية من تمزُّق فكري أشبه بالخلل العقلي، سيتفق مع الدكتور محمد عمارة، فما نراه فيها من تقديس لليبرالية، ما هو إلا تضعضع للطغاة، فلا مراعاة حقيقية لهموم الشعوب، ولا تألم لآلامهم، ولا كفكفة لدموعهم، بل مجرد شعارات جوفاء، تلوح في الأفق كلّما أوشك على الكراسي أن يحل الغسق.
فحتى العلمانيين لا يملكون من قطمير من الليبرالية، فما يحدث في النظام العالمي اليوم لا ينتمي إلى أي أصول، سوى الأصول الوحشية، بما نراه من انتهاكات صارخة لجميع الاتفاقات الدولية، فلم تعد هناك أسلحة دولية محرّمة، ونحن نشهد هذا الكم من الإبادات الجماعية في حق أطفال، وأبرياء مدنيين في قطاع غزة وقبلها في سوريا، اليمن، الصين والهند، دون أي استحياء من مساءلة مجلس الأمن، ولا المحاكم الدولية، ولا اكتراث بما يقومون به من كوارث إنسانية، إذ أن حتى المحكمة الدولية قضت بأن لا تقضي على تلك الوحشية، بعد قرابة 30 ألف قتيل خلال ثلاثة أشهر، وبعد طوفان عالمي وحراك كوني امتد من شرق الأرض إلى غربها، متجاوزًا جميع خطوط الأرض الوهمية وتقسيماتها الجغرافية لوقف تلك الوحشية.
ورأينا كيف أن أمريكا بامتلاكها لحق الفيتو صارت تنقض كل الحقوق الإنسانية فقط لأنها حقوقًا لبشر بهوية إسلامية، فلم تعد تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، واستبدلت كل ذلك بشعار “إسرائيل أولاً”.
وروسيا وإن بدت أقل وحشية في فلسطين فهي ليست كذلك في سوريا، واستخدمت الأسلحة المحرمة دولياً، فقط انطلاقاً من منطق بوتين: “لا حاجة إلى عالم لا مكان فيه لروسيا” يقول ديمتري موراتوف، الحائز على جائزة نوبل للسلام ورئيس تحرير صحيفة نوفايا غازيتا الروسية: “… لم يكن بوتين يتصرف كزعيم للكرملين، وإنما كزعيم للكوكب؛ تماماً كمالك سيارة فارهة يتباهى بذلك عبر اللعب بمفتاحها في إصبعه.. وهكذا قد يفعل بزِرّ السلاح النووي”.
وليست ليبرالية الصين عنهم ببعيدة، إذ أنها أدخلت مصطلح “التصيين” إلى معجم الحكومة الرسمية عام 2015م، ودعت الزعماء من المسلمين والبوذيين والمسيحيين إلى دمج دياناتهم في الفكر الاشتراكي الصيني، وما حملات القمع والإبادات الجماعية ضد المسلمين من الإيغور إلا مظهر من مظاهر ذاك “التصيين”.
وأمام كل ذلك ماذا تفعل الدول الإسلامية للخلاص من هيمنة هذا النظام الدولي الوحشي؟
إنّ الشعوب العربية الاسلامية حين انتفضت في الثورات العربية أرادت أن تمر بثلاث مراحل:
أولاً: مرحلة إسقاط الرئيس
ثانيًا: مرحلة تفكيك قواعد النظام
ثالثًا: مرحلة تفكيك قواعد هيمنة النظام الدولي
غير أنها للأسف توقفت عند أول مرحلة وهي مرحلة إسقاط الرئيس، وبعدها إما أننا شاهدنا انتخابات رئاسية مزورة، تم من خلالها ترئيس مَن يُجدّد الرئيس، فكان كانقلاب ناعم على الشرعية الشعبية، أو انقلابات مباشرة عسكرية، أو انتخابات نزيهة فيها يعين الرئيس الشرعي وتُسلب منه كل صلاحية سيادية، يمكن أن تجعل من دولته دولة قوية.
فما هو خطأ الشعوب الإسلامية لعدم بلوغها آخر مرحلة وتفكيك قواعد النظام الدولي؟
إن الرد على على الإشكالية يستوجب بداية معرفة قواعد النظام الدولي في المنطقة الإسلامية ومرابطه الثلاثة الرئيسية وهي:
- المربط اليهودي: في بيت المقدس
- المربط النصيري: في الشام
- المربط العقدي: المنتشر في كل العالم، والذي وُظف بموجبه علماء السلطان لإصدار جميع الفتاوى التي تخدم أمن هذا النظام واستقراره، فضلاً عن فرض الوصاية التامة للدولة القومية القطرية على الدين الإسلامي.
ومن الواضح والجلي أن الوعي بهذه المرابط هو السبيل لتفكيكها، غير أن عملية التفكيك لا تتم بالاعتماد على الدول الخارجية أو من خلال الثورة المضادة الداخلية، بل تتم من خلال الشعوب الإسلامية التي تقرر أن يكون الإسلام بينها رباطًا أشد من أي رابطة دموية، وأن تجعل من الحرية غاية، ومن قوتها العسكرية والعلمية والاقتصادية، وبأن وحدة شعوبها عروة وثقى ويقين سيفكك يومًا كل مرابطهم الشيطانية ويعيد الخلافة الإسلامية.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء رفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة”1.
ــــــــــــــــــ
1 صححه الشيخ الألباني في (السلسلة الصحيحة).