
فتوى الأزهر الشريف حول إسرائيل
مايو 9, 2025
علماء الجامع الأزهر: إنقاذ فلسطين واجب ديني
مايو 10, 2025الشيخ المختار بن العربي مؤمن
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
لقد قص الله علينا كثيراً من قصص أحبار أهل الكتاب وما فعلوه من تبديل وتحريف لشرع الله تعالى، وأوجب على أمة محمد ﷺ بيان الحق وعدم كتمانه، فقال سبحانه: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187-188].
قال ابن كثير رحمه الله: “هذا توبيخ من الله، وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد ﷺ، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وُعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي ﷺ أنه قال: “من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”.
وقد شهد الله تعالى على أهل الكتاب بالتحريف والتغيير؛ فقال: ﴿أَفَتَطۡمَعُونَ أَن یُؤۡمِنُوا۟ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ یَسۡمَعُونَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥].
قال ابن كثير: “قال: هم اليهود، وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعدما عقلوه ووعوه. وقال مجاهد: الذين يحرّفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم. وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد ﷺ فحرّفوه عن مواضعه، وقال السدي ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: أنهم أذنبوا. وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرّفونها؛ يجعلون الحلال فيها حرامًا [والحرام فيها حلالًا] والحق فيها باطلًا، والباطل فيها حقًّا، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق، ولا رشوة، ولا شيء، أمروه بالحق، فقال الله لهم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾”.
فليحذر علماء الأمة المحمدية أن يسلكوا مسلك علماء السّوء من بني إسرائيل، فيصيبهم ما أصابهم من تبلد الإحساس، وتحريف كلام ربّ النّاس، وتحريم ما أحل، وتحليل ما حرم، فمن فعل ذلك فقد أصيب بلوثة الأمّة الغضبيّة، وعلى علماء المسلمين ألا يحرفوا كلام الله ودينه لا سيما ما نراه من بعض المفتين اليوم من تزوير الفتاوى، خاصة في شأن فلسطين وأهلها من أنهّ يجب عليهم ألا يجاهدوا اليهود وحلفاءهم، وأن لا تخرج الشعوب الأخرى لنصرتهم لأن كل مخطط استعماري من بقايا سايس بيكو ينبغي أن يبقى خاضعاً لرسوم المفتين الضالين.
وقال تعالى: ﴿فَوَیۡلࣱ لِّلَّذِینَ یَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِأَیۡدِیهِمۡ ثُمَّ یَقُولُونَ هَـٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِیَشۡتَرُوا۟ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۖ فَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا یَكۡسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]. وقال: ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَـٰسِیَةࣰۖ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُوا۟ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَاۤىِٕنَةࣲ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [المائدة ١٣]. وقال: ﴿مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ﴾ [النساء: ٤٦].
فانظر أيّها العالم حقاً أو المتلبس بالعلم زوراً ولأسياده عبودية ورقاً، يا من انتسبت إلى الملة الغراء والحنيفية السمحاء، إلى ما ذمّ الله به علماء الكتاب وأحبارهم حينما حرفوا كلامه عن مواضعه ولم يصدقوا في تبليغه على الوجه الذي أمر الله تعالى به، فقد جمع لهم من الخزي والبغض والتشويه ما لم يجمعه لأحد من العالمين:
أولاً: الذم الشديد في بيعهم لدينهم مقابل دنيا غيرهم ﴿وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187-188].
ثانياً: تحريفهم لكلام الله تعالى المنزل على أنبيائه بعد فهمهم إياه وتعلمهم له وتبصرهم في فقهه ولكن عميت قلوبهم فانتكسوا﴿وَقَدۡ كَانَ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ یَسۡمَعُونَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 75].
فتحريفهم كان بعلم وليس عن جهل، وبسابق إصرار وترصد، طمعاً بما في أيدي الملوك والسلاطين، وإشباعاً لرغبات المنتفعين من الشعوب لينالوا حظوة المشيخة والعلمائية عندهم.
ثالثاً: نقضهم لمواثيق الحق سبحانه، فكلما أخذ الله منهم الميثاق لتلبيغ رسالات الله نقضوا تلك المواثيق وجعلوا ما أمرهم به وراء ظهورهم. ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمۡ رَسُولٌ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 101]، سبحان الله لقد استووا في كتمانهم مع أهل الجهل، كأنّهم لا يعلمون.
رابعاً: يحرفون النّصوص ثم يقولون بأن هذا المعنى هو الذي قاله الله وأراده الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً: ﴿وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقاً يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران: 78].
فكانت عقوبتهم -عائذاً بالله- النار وبئس القرار ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾، وعوقبوا باللعن والطرد من رحمة الله تعالى ﴿لَعَنَّاهُمْ﴾، وعوقبوا بقسوة القلوب، وما أقساها من عقوبة لا يستفيق نشوان الهوى والضلال منها إلا في قعر جهنم ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلًا مِّنۡهُمۡ﴾ [المائدة: 13]، قلوب لا يلج فيها نور الهدى والحق، ولا تسبح فيها إلا ظلمات الهوى والشهوات وحلك الشبهات.
نموذج صارخ من نماذج التحريف
ففي الموطأ والصحيحين من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: إن الْيَهُودُ جاءوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ قَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا آية الرَّجْمَ! فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: ارْفَعْ يَدَكَ! فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَرُجِمَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ”.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “قصدوا في جوابهم تحريف حكم التوراة والكذب على النبي ﷺ، إما رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله، وإمّا لأنّهم قصدوا بتحكيمه التخفيف عن الزانيين واعتقدوا أن ذلك يخرجهم عما وجب عليهم، أو قصدوا اختبار أمره، لأنه من المقرر أن من كان نبياً لا يقر على باطل، فظهر بتوفيق الله نبيه كذبهم وصدقه، ولله الحمد”.
ومعلوم أنّ بعض مَن ينتسب إلى العلم زعم أنّ لا جهاد دفع على حكام العرب وشعوبهم الذين ليسوا في فلسطين، لأنهم غير مطالبين به! وقد افترى هذا على الدين وخالف الوحي المبين وإجماع المسلمين، فإننا والله نخشى أن الأمة كلها آثمة لأنها تركت أصلاً جهاد الطلب الذي هو فرض كفاية على الأمة، فلما قامت فئة تدفع عن نفسها العدو الجاثم المحتل على أرضها، استفاقت أبواق الفتوى المضلة لتزيد الأمة تخديراً والمقاومة تخذيلاً.
“وممن نقل الإجماع: أبو بكر الجصاص (370هـ)؛ حيث يقول: “ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين، أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم، أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة؛ إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم”.
وابن حزم (456هـ) حيث يقول: “واتفقوا أن دفاع المشركين وأهل الكفر عن بيضة الإسلام وقراهم وحريمهم إذا نزلوا على المسلمين فرض على الأحرار البالغين المطيقين”.
وإمام الحرمين (478هـ) حيث يقول: “فأما إذا وطئ الكفار ديار الإسلام فقد اتفق حملة الشريعة قاطبةً، على أنه يتعين على المسلمين أن يخفوا ويطيروا إلى مدافعتهم زَرَافاتٍ”.
والقرطبي (671هـ) حيث يقول: “إذا تعيّن الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر فإذا وجب على جميع أهل تلك الدار أن يخرجوا خفافاً وثقالًا، شبانًا وشيوخًا، كل على قدر طاقته.. حتى يظهر دين اللَّه وتُحمى البيضة وتُحفظ الحوزة ويُخزَى العدو، ولا خلاف في ذلك”.
وابن عطية (541هـ) حيث يقول: “الذي استقرّ عليه الإجماع أنّ الجهاد على كلّ أمة محمد ﷺ فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذٍ فرض عين”.
وحكى الاتفاق أيضًا ابن القطان الفاسي (628هـ).
وشيخ الإسلام (728هـ) حيث يقول: “وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين.. فواجب إجماعًا”.
وقال رحمه الله أيضًا: “فأما إن هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإنّ دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعًا”.
والمرداوي (885هـ) حيث يقول: “ومَن حضر الصف من أهل فرض الجهاد، أو حضر العدو بلده تعيَّن عليه بلا نزاع”.
- الموافقون للإجماع: وافق الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية على تعين الجهاد في هذه الحالة.
- ومستند الإجماع: دلَّ على هذا الحكم أدلة كثيرة، منها ما يلي:
1- قول اللَّه تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190].
2- وقوله سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ [النساء: 75].
فقد دلّت هاتان الآيتان على أن قتال مَن قاتل المسلمين، وحماية المستضعفين، ونصرة المظلومين واجبٌ شرعي حتى ينكفئ المعتدون ويُنْتَصَرَ للمظلومين.
3- وقوله عز وجل: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 41].
4- وعن أنس رضي الله عنه أن رسول اللَّه ﷺ قال: “جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم”.
فهذه النصوص ظاهرة الدلالة في الأمر بالجهاد، ولا شك أن الأمر بالجهاد في حالة هجوم الأعداء على بلاد المسلمين يدخل دخولًا أوليًا في مدلولها.
النتيجة: الإجماع متحقق حيث لم أجد من خالف في ذلك من أهل العلم، واللَّه تعالى أعلم.
قال ابن قدامة رحمه الله: “(والجهاد فرض على الكفاية، إذا قام به قوم، سقط عن الباقين) ومعنى فرض الكفاية، الذي إن لم يقم به من يكفي، أثم النّاس كلّهم، وإن قام به من يكفي، سقط عن سائر النّاس. فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره، والجهاد من فروض الكفايات (أي: جهاد الطلب)، في قول عامة أهل العلم”.
فهذا جهاد الطّلب الذي دلّت النّصوص المتضافرة على وجوبه.. فكيف بالدفع المتفق على فرضيته والذي لا يجوز لأحد أن يتخلف عنه ممن حل العدو دارهم؟ ولو كانت امرأةً أو أعمى، صغيراً أوكبيراً، حرّاً أوعبداً.
يقول (ابن المناصف) في كتابه الإنجاد في أبواب الجهاد وجهاد الدفع: “أصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، كما قال الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ [الحج: 39]”.
قال ابن القيم:” فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمّ وجوباً، ولهذا يتعيّن على كل أحد، يجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق.
ولا يُشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضِعْفَي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجباً عليهم؛ لأنه حينئذٍ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرّته؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد.
ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالباً مطلوباً أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين.
وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رجلين: إمّا عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلّه لله، وإما راغب في المغنم والسَّبي.
فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجَبَان المذموم شرعًا وعقلًا (قلتُ: فاقعدوا مع القاعدين أيها المفتون المفتونون! لأنكم لو خرجتم في هذه الفئة المؤمنة المجاهدة في فلسطين لخذلتموهم ولأرجفتم فيهم بالأكاذيب والتثبيط، فاقعدوا فأنتم الطاعمون المكتسون بسرابيل دراهم الحكام الذين باعوا آخرتهم بدنيا عدوهم) وجهاد الطَّلَب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالبًا مطلوبًا، فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله تعالى ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفر”.
يقول الشيخ ابن عثيمين: “ويكون جهاد الكفار باليد واجباً متعيناً في أربع حالات هي:
1- إذا حضر المسلم الجهاد.
2- إذا حضر العدو وحاصر البلد.
3- إذا استنفر الإمام الرعية يجب عليها أن تنفر.
4- إذا احتيج إلى ذلك الشخص ولا يسد أحد مسدَّه إلا هو.
فـ”يجب الجهاد ويكون فرض عين إذا حضر الإنسان القتال وهذا هو الموضع الأول من المواضيع التي يتعين فيها الجهاد؛ لقول الله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ زَحۡفࣰا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ * وَمَن یُوَلِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ دُبُرَهُۥۤ إِلَّا مُتَحَرِّفࣰا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَیِّزًا إِلَىٰ فِئَةࣲ فَقَدۡ بَاۤءَ بِغَضَبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ﴾ [الأنفال: ١٥-١٦].
وقد أخبر النبي ﷺ: أن التولي يوم الزحف من الموبقات حيث قال: “اجتنبوا السبع الموبقات”، وذكر منها: “التولي يوم الزحف”. إلا أن الله تعالى استثنى حالتين:
الأولى: أن يكون متحَرّفاً لقتال. بمعنى أن يذهب لأجل أن يأتي بقوة أكثر. (قلت: فهل هؤلاء المرتدون الذين خرجوا عن إخوانهم في فلسطين في دفعهم العدو، وانحازوا للعدو نفسه، مسلمون؟ كلا والله ما هم كذلك).
الثانية: أن يكون منحازاً إلى فئة بحيث يذكر له أن فئة من المسلمين من الجانب الآخر تكاد تنهزم فيذهب من أجل أن يتحيز إليها تقوية لها، وهذه الحالة يشترط فيها: أن لا يخاف على الفئة التي هو فيها، فإن خيف على الفئة التي هو فيها فإنه لا يجوز أن يذهب إلى الفئة الأخرى، فيكون في هذا الحالة فرض عين عليه لا يجوز له الانصراف عنه.
الثاني: إذا حصر بلده العدو فيجب عليه القتال دفاعاً عن البلد، وهذا يشبه مَن حضر الصف في القتال؛ لأن العدو إذا حصر البلد فلا بد من الدفاع؛ إذ إن العدو سيمنع الخروج من هذا البلد، والدخول إليه، وما يأتي لهم من الأرزاق، وغير ذلك مما هو معروف، ففي هذا الحال يجب أن يقاتل أهل البلد دفاعاً عن بلدهم.
الثالث: إذا قال الإمام انفروا، والإمام هو وليّ الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إماماً للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي ﷺ قال: “اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي”. فإذا تأمر إنسان على جهة ما صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذاً، وأمره مطاعاً”.
قلت: وأهل فلسطين وليّ أمرهم هي حركة المقاومة الإسلامية، التي أخذت الإمارة بالانتخاب الحرّ، ثم بسواعد المجاهدين، نصرهم الله، فلتخرص الألسن المحرفة للحق، المثبطة لأهل الرباط، فاللهم نصراً من عندك تعجز البشرية الظالمة عن دفعه! آمين. والله أعلم.