“الحلوة الملاحة”أم المؤمنين جويرية بنت الحارث
فبراير 13, 2024قراءة نصية في جوانب من فقه الهجرة [ج1]
فبراير 14, 2024ما إن يتكلم المسلم فيجري على لسانه لفظ “أمهات المؤمنين” حتى ينشأ في نفسه ارتباطٌ جديد خاصٌّ بالنبي ﷺ، وكما أن النبي أولى بنا من آبائنا وأنفسنا، فإن زوجاته أمهاتنا، وهذه علاقة قررها الله تعالى في قوله ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، ويسميها الشهيد سيد قطب “الأمومة الشعورية بين أزواج النبي ﷺ وجميع المؤمنين”([1])، ومن هنا فإن حياة أمهات المؤمنين هي مما يزيد من الرابطة والعاطفة الخاصة بين المسلم ونبيه ﷺ.
ومن فوائد هذا أن أمهات المؤمنين كُنَّ إحدى العلامات الفارقة التي يتميز بها المسلم عن الكافر والضال والمبتدع! فالمسلم حقاً هو من يشعر نحوهن بهذه الأمومة والتوقير والتبجيل، وأما غيره، فتشتعل في صدره الأحقاد والأغراض، وتدب في نفسه العقارب والمآرب، ويسعى في تشويه سيرتهن، أو تشويه سيرة النبي من بابهنّ!
وقد كان هذا قديماً وحديثاً، وتأمل هذا الفارق:
لما حوصر عثمان رضي الله عنه ذهبت إليه أم المؤمنين أم حبيبة تغيثه ببعض الماء والطعام، وما خطر في بالها أن الذين يحاصرونه يمنعونها، فهي أم المؤمنين، وهم إنما يزعمون لأنفسهم التقوى والإيمان، وأنهم ما خرجوا على عثمان إلا لانحرافه عن بعض الدين! إلا أن هذا القناع الزائف قد سقط وانكشف، حين منعوها أن تصل إليه، وضربوا بغلتها وقطعوا الحبل بالسيف حتى كادت تسقط من فوقها([2])! وهؤلاء الذين تمردوا على عثمان حتى قتلوه، هم أنفسهم الذين حاولوا اغتيال أم المؤمنين عائشة في موقعة الجمل، حتى صار هودجها كأنه القنفذ من كثرة السهام والنبال!
بينما ترى المشهد الآخر عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعند أهل الجمل، فمع أنهما معسكران متقاتلان، إلا أن كليهما كان حريصاً على حياة أم المؤمنين عائشة، فأما أهل الجمل فقد استماتوا في الدفاع عنها وأحاطوا بجملها واستشهدوا تحته لكي لا يخلص إليها أذى([3])، وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد أرسل فرقة خاصة من جيشه، لاستنقاذها وكلَّف بذلك أخاها محمد بن أبي بكر وعبد الله بن بديل بن ورقاء([4]).
فهنا ترى الفارق بين المسلم الذي يوقر أمهات المؤمنين ويحرص على حياتهن، وبين الضال المبتدع والكافر الحقود الذي يسعى في إيذائهن وقتلهن!
وامتدَّت هذه القاعدة منذ ذلك الزمن وحتى وقتنا هذا وإلى ما شاء الله! فلستَ ترى مسلماً أو حتى منصفاً إلا وهو يوقّر أمهات المؤمنين، ولست ترى عدواً للمسلمين إلا وهو يسعى في إيذائهن، سواء أكان هذا العدو شيعياً رافضياً أو مستشرقاً أو علمانياً أو ملحداً.
لقد صارت أمهات المؤمنين من علامات الإيمان، فإنهن الطيبات اللاتي اختارهن الله لنبيه ﷺ، ووصفهن بقوله ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: 26]
***
وفوق ذلك، فإن المؤمن يشعر بنعمة الله عليه بأمهات المؤمنين –رضي الله عنهن- إذا تصوَّر أن لو لم يكن للنبي أزواج! فلو كان ذلك لخفيت علينا كثير من سنن النبي ﷺ في بيته ومع أزواجه، وكيف كان يتعامل مع رغباتهن وغيرتهن واعتراضاتهن، وكيف كان يغازلهن ويغار عليهن ويحتوي ما يقع بينهن من الأمور، وكيف يكون في خدمة أهله، ويتلمس في ألفاظهن وتعبيراتهن المعاني التي تنطوي عليها نفوسهن، وكيف أنه استشارهن ونزل على رأيهن في أمور كبرى، بل كيف ترك لهن بعض الألغاز بعد وفاته كلغز “أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً”، فلم يعرفن إجابة هذا ومعناه إلا بعد وفاته، فعلمن أن طول اليد كناية عن كثرة الصدقة.
إن من يطالع الأحاديث المروية عن عائشة -رضي الله عنها- وحدها، يُصاب بالصدمة إذا تصَوَّر أننا نفقد كل هذا العلم والثراء، فإنها معدودة في أكثر الرواة عن النبي ﷺ، كما قال الناظم:
والمكثرون من رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر كالخدري وجابر، وزوجة النبيّ
أو كما قال الآخر:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا من الحديث عن المختار خير مضر
أبو هريرة، سعد، جابر، أنس صدِّيقةٌ وابن عباس، كذا ابن عمر
فعائشة وحدها قد روت علماً غزيراً عن النبي ﷺ، وكانت أعلم أمهات المؤمنين، ومن فقهاء الصحابة، هذا فضلاً عما روته الأخريات كأم سلمة وزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث وصفية بنت حيي.. فلو لم يكن لهن من الفضائل إلا أنهن عرَّفننا بنبينا ﷺ وقرَّبن إلينا صورته وطبائعه وطريقته لكان ذلك منهن أعظم الفضل!
***
ومن العجيب الذي يدل على فساد بعض النفوس أن ترى المنصفين من غير المسلمين يوقرون أمهات المؤمنين، ويرون في سيرتهن دليلاً على عظمتهن وعظمة النبي ﷺ، بينما حُرِم من هذه النعمة بعض من يزعم الانتساب إلى المسلمين.
يقول مؤرخ الحضارة ول ديورانت: “وكان النزاع يقوم في بعض الأحيان بين النبي وبين أزواجه كما يحدث عند غيره من المسلمين، ولكنه كان على الدوام يعزهن، ويظهر لهن ولغيرهن من النساء المسلمات ما يليق بهن من عواطف طيبة، ويروى عنه أنه قال: إن المرأة الصالحة أثمن شيء في العالم”([5]).
ومن أعجب ما في هذا الباب أن ترى امرأة أوروبية غير مسلمة تنطق بالحق في موضوع مثل تعدد الزوجات، أقصد المستشرقة الإيطالية لورافيشيا فاجليري، والتي تقول: “أصر أعداء الإسلام على تصوير محمد شخصاً شهوانيا ورجلاً مستهتراً، محاولين أن يجدوا في زواجه المتعدد شخصية ضعيفة غير متناغمة مع رسالته. إنهم يرفضون أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه الحقيقة: وهي أنه طوال سني الشباب التي تكون فيها الغريزة الجنسية أقوى ما تكون، وعلى الرغم من أنه عاش في مجتمع كمجتمع العرب؛ حيث كان الزواج كمؤسسة اجتماعية مفقوداً أو يكاد، وحيث كان تعدد الزوجات هو القاعدة، وحيث كان الطلاق سهلاً إلى أبعد الحدود، لم يتزوج إلا من امرأة واحدة ليس غير، هي خديجة التي كان سنها أعلى من سنه بكثير، وأنه ظل طوال خمس وعشرين سنة زوجها المخلص المحب، ولم يتزوج مرة ثانية وأكثر من مرة إلا بعد أن توفيت خديجة، وإلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره، لقد كان لكل زواج من زواجاته هذه سبب اجتماعي أو سياسي؛ ذلك بأنه قصد من خلال النسوة اللاتي تزوجهن إلى تكريم النسوة المتصفات بالتقوى، أو إلى إنشاء علاقات زوجية مع بعض العشائر والقبائل الأخرى؛ ابتغاء طريق جديد لانتشار الإسلام، وباستثناء عائشة ليس غير، تزوج محمد من نسوة لم يكنّ لا عذارى، ولا شابات، ولا جميلات، فهل كان ذلك شهوانية؟”([6]).
وثمة كاتب آخر من بين الجميع يستحق وقفة خاصة، بل لا يسمح المقام سوى بإشارة عابرة، ذلك هو الكاتب القبطي المصري د. نظمي لوقا، وهو أستاذ في الفلسفة وشاعر وأديب ومترجم، ذلك الرجل الذي ظلمته الكنيسة لأنه أنصف الإسلام، وظلمته دولة العسكر العلمانية لأنها تراعي خاطر الكنيسة، ولم ينتبه إليه المسلمون في غمرة ما هم فيه من الهموم التي تجعلهم لا ينتبهون لبعض أعلام المسلمين أنفسهم.
كتب نظمي لوقا ثلاثة من الكتب عن الإسلام هي من أرقى وأجمل ما يُكتب، منها كتابه “محمد في حياته الخاصة”، الذي تركز على تبرئة النبي ﷺ من الشبهات المثارة حول زواجه وزوجاته، فأخذ يروي قصة كل زواج ودوافعه ومعانيه بعقل ذكي وقلم عبقري، ومن بديع ما قاله في هذا([7]):
“ربع قرن من الزمن، هي فترة الشباب العارم والرجولة الفتية، ولم يكن فيها زوجاً للعدد العديد من الحريم، بل كان بعل امرأة واحدة هي خديجة، وذلك في بيئة لا تعرف إلا التعدد الذي لا حصر له”.
“لو كان محمد أخا مجانة لكان أول ما يتشدقون به من المطاعن عليه حين نهض يدعوهم إلى عبادة الله، وما ينبني عليها من التعفف والاستقامة والطهر، أن يتصايحوا: ما هذا الذي خرج علينا به محمد ﷺ من الدعوة إلى العفة، وهو الذي عهدناه كذا وكيت؟! ولكنها لم تخطر ببالهم على كثرة ما رموه من البذاء، لسبب واحد لا يُعقل سواه، أنه كان في سلوكه الشخصي على نقيض ذلك، وكان مشهوراً بالتزام العفة والطهر والبعد عن الشبهات، فالفجور في عصر الفجور لم يكن شيمة محمد، ولم يكن مكلفاً بعد برسالة”.
“لقد كان بيده أن يجعلها (جويرية بنت الحارث) من نصيبه من السبايا، وكان بيده وقد راقته أن يجعلها في ملك يمينه بشرائها من قيس بن ثابت، ولكن المسألة كانت أكبر وأجل من فتاة راقت رجلاً فتمناها؛ لأن المسألة كانت مسألة فتح مبين، وتألف قلوب، وانتشار دين، ثم هي فضلاً عن هذا مسألة نخوة لا نزوة”.
“كان بيده أن يجعلها (صفية بنت حيي) أَمة من إمائه، لو أنه كان ينظر إلى متعة، ولكنه حررها وتزوجها لتكون لها عزة بعد ذلة، وهو الذي طالما أكرم عزيز قوم ذل، ولكي يعلم من لم يعلم بعد أن محمداً يجبر القلوب الكسيرة، ويعفو عند المقدرة، ويأسو ما جرحه مضطراً”.
وبعد أن استعرض سائر الزيجات، وتوقف ملياً عند قصتي عائشة وزينب لما فيهما من الكلام الكثير الذي اتكأ عليه المغرضون، خرج بهذه الخلاصات:
“هؤلاء زوجاته اللواتي بنى بهن وجمع بينهن، لم تكن واحدة منهن هدف اشتهاء كما يزعمون، وما من واحدة منهن إلا كان زواجه بها أدخل في باب الرحمة وإقالة العثار والمواساة الكريمة، أو لكسب مودة القبائل وتأليف قلوبها بالمصاهرة، وهي بعد حديثة عهد بالدين الجديد”.
“ما كان من الهين على رسول قائد جيش وحاكم دولة محاربة أن يزيد أعباءه بما يكون في بيت كثير النساء من خلافات على صغائر الأمور، ولكنه الواجب؛ واجب الدعوة، أو واجب النخوة، وشتان ذلك وما يتشدقون به من أمارة النزوة”.
“إن النهج الصحيح في فهم أعمال كبار الرجال أن نتصورهم في ضخامتهم وفي عناصر تكوينهم النفسي، وعلى ضوء هذا التصور نتخير من الدوافع المختلفة الممكنة للعمل الواحد من أعمالهم ما يتفق وشخصيتهم”.
“فليقل من شاء ما يشاء! ولكن لا حيلة في نسبة محمد إلى الوفاء غاية الوفاء، إلى وفاء يكاد يجعلني أشك في بشريته، وأنا الذي جربت من فنون التنكر والمروق ما أوشك أن يقضي على ثقتي بسائر خلق الله من أبناء آدم وبنات حواء”.
***
لقد كانت سيرة النبي ﷺ مع زوجاته الطاهرات أكبر دليل نرفعه في وجه العالمين لنحدثهم عن مكانة المرأة في ديننا، لا سيما وقد بُعث النبي في قوم لا يكرمون المرأة ولا يرون إلا أنها شيء كغيرها من الأشياء، ولكنهم حين نزلت عليهم أوامر الله في شأن النساء التزموها كأن لم يكونوا يهينونها من قبل!
فأمهات المؤمنين هن النماذج الحية التي شرحت للمرأة المسلمة، ولغير المسلمين جميعاً، طبيعة المرأة ودورها في هذه الحياة ومكانتها في هذا الدين، وبيَّنت لها حقوقها وواجباتها!
وأمتنا تنفرد في هذا عن بقية الأمم، فعيسى لم يتزوج النساء، وأتباعه ابتدعوا الرهبانية التي لا يطيقها أكثر الناس، بل لقد غزت الشهوانية رهبانهم وصار لهم في كل يوم فضيحة وفضائح. كذلك لا يكاد يثبت شيء من أخبار الأنبياء مع زوجاتهن. فسيرة أمهات المؤمنين عندنا هي مزية أخرى نفتخر بها ونرتفع.
_________________________________________________
([1]) سيد قطب، في ظلال القرآن، (5/2819).
([2]) أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، (799) بإسناد صحيح كما قال محققه وصي الله عباس. الطبري، تاريخ الطبري، (2/672، 673).
([3]) خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص190؛ الطبري، تاريخ الطبري، (3/53)، بإسناد حسن، انظر: عبد الحميد فقيهي، خلافة علي بن أبي طالب، رسالة دكتوراة، ص138، (الملحق).
([4]) ابن أبي شيبة، المصنف، (37831)، بإسناد جيد، انظر: ابن حجر، فتح الباري، (13/57).
(([5] ول ديورانت، قصة الحضارة، (13/64).
([6]) لورافيشيا فاجليري، دفاع عن الإسلام، ص99، 100.
([7]) أنقل هذه العبارات باختصار يُلزم به المقام، من كتابه “محمد في حياته الخاصة”، والذي أرجو أن يعود إليه القراء ليستمتعوا بما فيه.