﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
ديسمبر 19, 2024شمال غزة تحت القصف: 18 شهيدًا بينهم أطفال ونساء
ديسمبر 19, 2024العالم الأزهري/ الشيخ عبدالمنعم النمر – رحمه الله*
هذه آيات من القرآن الكريم تتحدث عن الهجرة من مكة إلى المدينة، ولم يكن الغرض منها ذكر تفاصيل الهجرة ودقائقها، بقدر ما تهدف إلى أن تضع العبرة أمام الرسول ﷺ وأصحابه، وأمام كل قارئ لها من بعدهم.. ليصلوا منها إلى ما يجب أن يضعوه نُصب أعينهم دائماً من عبر ومبادئ في أدوار حياتهم وكفاحهم:
أولها: أن المكافحين المناضلين الثابتين في كفاحهم ونضالهم، لا بد أن يدركوا غايتهم وإن طال الطريق بهم.
وثانيها: أن عون الله ونصره في ساعات العسرة والشدة، إنما يمد به عباده المؤمنين الذين يؤثرون الله ورسوله على كل ما يعتزون به في الحياة، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم.
وثالثها: أن الذين يترددون في ساعة الجد، ويحجمون عندما يجب الإقدام، ويجذبهم حبهم للعيش الهنيء إلى الاستكانة تحت راية الأعداء، ويخلدون إلى الدعة، ويؤثرون برد الراحة على لهيب المعركة، ويفضلون مصالحهم وارتباطاتهم المادية على عقيدتهم وكرامتهم وحريتهم، هم قوم اختلت معايير الحياة عندهم، حتى أصبحت معدتهم أعز عليهم من عقيدتهم، وحيوانيتهم أسمى من حريتهم وإنسانيتهم.. فكانوا من أجل ذلك لا وزن ولا كرامة لهم عند الله، وأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، ولو صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون.
قال الله تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِیلࣱ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦].
وقال تعالى: ﴿وَإِذۡ یَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیُثۡبِتُوكَ أَوۡ یَقۡتُلُوكَ أَوۡ یُخۡرِجُوكَۚ وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
وقال تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَیۡهِ وَأَیَّدَهُۥ بِجُنُودࣲ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفۡلَىٰۗ﴾ [التوبة: ٤٠].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰسِعَةࣰ فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾ [النساء: ٩٧].
ثمن النصر
والقرآن الكريم حين يدعو المؤمنين -بعد أن قوى شأنهم في المدينة- إلى أن يذكروا ما كانوا عليه قبل الهجرة: ﴿قَلِیلࣱ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ﴾، وما صاروا إليه بعد الهجرة: ﴿فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ﴾، لا يريد مجرد المنّ عليهم، ولكن يريد منهم أن ينفذوا بتفكيرهم إلى ما أهّلهم لتأييد الله، وإغداقه الطيبات عليهم، فيحافظوا على هذه الأهلية، ولا تبطرهم قوتهم، أو تغرهم كثرتهم، أو جريان الرزق الطيب عليهم، فيفقدوا بذلك عون الله ونصره.. وهي دعوة كذلك لأتباع القرآن أن يعرفوا الطريق الذي سلكه المهاجرون: من الإخلاص والصدق في إیمانهم، فيحرصوا على سلوكه، حتى ينعموا -كما نعم أسلافهم- بالعزة التي يريدونها، والحياة الطيبة التي يطلبونها. فإن عون الله وتأييده لا يُعطَيان جزافاً، بل إن لهما ثمناً لا بد من الوفاء به.
ولقد أعلن القرآن في آية أخرى دفاعه عن المؤمنين ﴿إِنَّ ٱللَّهَ یُدَ ٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟﴾ [الحج: ٣٨] ووصفهم بأنهم ﴿ٱلَّذِینَ أُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِم بِغَیۡرِ حَقٍّ إِلَّاۤ أَن یَقُولُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ﴾ [الحج: ٤٠] وفي آيات أخرى بأنهم ﴿ٱلَّذِینَ أُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأَمۡوَ ٰلِهِمۡ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰنࣰا وَیَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ﴾ [الحشر: ٨]، وأن ﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ * یُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَرِضۡوَ ٰنࣲ وَجَنَّـٰتࣲ لَّهُمۡ فِیهَا نَعِیمࣱ مُّقِیمٌ﴾ [التوبة: 20-21]. وذلك ليضع أمام المسلمين الصفات التي أهّلت هؤلاء السابقين لهذه المنزلة عند الله.
وكذلك حين تدعو الآية: ﴿وَإِذۡ یَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیُثۡبِتُوكَ…﴾ [الأنفال: ٣٠] إلى أن يتذكر الرسول ﷺ وصحابته والمؤمنون به حراسة الله سبحانه له وحمايته من شرور أعدائه ومؤامراتهم، للقضاء عليه، حتى يستريحوا منه ومن دعوته، وإنما تدعو المؤمنين كذلك في كل وقت للتأمل في سُنة الله مع رسله، وعباده المخلصين، التي تقضي بنصرهم وكفالتهم وحراستهم من أعدائهم، وعدم تخليه عنهم في وقت الشدة، حين يحيط بهم أعداؤهم، وأن الله طبق هذه السنة مع رسوله ﷺ حين عزم المشركون على التخلص منه، وأحكموا تدبيرهم، وظنوا أنهم بالغون ما دبروه؛ فأفسد الله مؤامرتهم، وردّ کیدهم إلى نحرهم، ونجى رسوله ﷺ منهم، ﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ﴾ [يوسف: ٢١].. ﴿وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
وهكذا يحرس الله الحق ودعاته، ويمهد له ولهم الطريق، بعد أن يبذلوا كل طاقتهم في حراسته والدعوة له..
حفز الهمم
ثم تأتي الآية: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ﴾ [التوبة: ٤٠].. فتذكر بعض حوادث الهجرة وساعاتها الحرجة، التي تخلت فيها عن الرسول ﷺ كل أسباب الأرض، ومساعدات الأصحاب، حتى الصاحب الوحيد الذي كان معه -وهو أبو بكر- احتاج إلى أن يزيل عنه الرسول الأعظم ما ألمّ به من رعب، وقد أصبحا في الغار لقمة سائغة، أو صيداً سهلاً لأضعف الناس خارج الغار..
في هذه الساعات الحرجة تجلى عون الله ورعايته لرسوله ﷺ بصورة لا تدع مجالاً لأي شاك في هذا العون أو هذه الرعاية، وقد كان الغرض من سياق هذه الآية حفز همم المؤمنين للجهاد والتضحية في ساعات تثاقلوا فيها عن النهوض للجهاد في سبيل الله، والسير في جيش الرسول ﷺ للدفاع عن كلمة الله، فكان من أقوى ما يوجه إليهم في هذه الحالة، هو أن يرجع بهم إلى الساعة الحرجة في هجرة الرسول مع صاحبه ﴿إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾ [التوبة: ٤٠].
وكانت الآيات التي قبل هذه الآية مباشرة تعاتب المؤمنين على موقفهم المتخاذل، وتهددهم وتقول لهم: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَا لَكُمۡ إِذَا قِیلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِیتُم بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا مِنَ ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ فَمَا مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا۟ یُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا وَیَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَیۡـࣰٔاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ…﴾ الآية.
ولم يكن هناك من دواء وعلاج لحالتهم هذه إلا تذكيرهم بهذا الموقف الذي نصر الله فيه رسوله ﷺ، وهو وحده يجابه قوة الكفار في أوجها وعنفوانها وشراستها، ليعلموا أن الله ناصر رسوله ولو تخلوا عنه.
فالآيات التي ذكرت الهجرة إذَن لم يكن القصد منها إلا التذكير والاعتبار لمعرفة مدى نصر الله للمخلصين، ومدى ما يمد به هؤلاء من عز وتمكين لهم في دينهم ودنياهم، ليداوي بذلك علل الضعف في نفوس المسلمين، ويحفز هممهم للتضحية والفداء، في عهده ﷺ وعلى مرّ القرون.
جزء من إیمانه
ولكي تكمل الصورة، وتتضح العبرة، نجد القرآن الكريم يذكر أيضاً أناساً أخلدوا إلى الراحة، ورضوا ذل العقيدة أو كبتها، حين استطابوا مكة مقاماً لهم في ظل النفوذ المشرك، ولم يكن لديهم من قوة الإيمان ما يحملهم على الهجرة مع مَن هاجروا إلى أرض الحرية في المدينة، ذكر القرآن هؤلاء في صورة حوار دار بينهم وبين الملائكة حين قال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰسِعَةࣰ فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾ [النساء: 97].
ليوضح بهذا بهذا عاقبة الضعفاء من المسلمين الذين أحجموا عن التضحية والهجرة إلى أرض الحرية، إلى المدينة، وآثروا البقاء في مكة أذلاء مستضعفين؛ ليظهر الفارق الكبير بذلك بين هؤلاء الذين أحجموا عن التضحية، ورضوا بالحياة الذليلة، وبين أقوياء الإيمان الذين ضحوا بكل ثمين لديهم، وكل عاطفة تمتلكهم في سبيل إعزاز عقيدتهم وحريتهم.
والقرآن بهذا كله يدعو كل مسلم إلى أن يجعل حريته في تعبيره عن عقيدته ورأيه جزءاً من إيمانه، ويضعها في مكان الصدارة من كل ما سواها، ويعتبر التفريط فيها هدماً للأساس فلا يصلح أن يقوم عليه بناء.
هذه هي الحقيقة التي يجب أن يعيها المسلمون الآن، وفي كل آن، نستمدها من القرآن ونضعها أمام كثير من المسلمين -ولا سيما أصحاب الرأي والكلمة فيهم- الذين يؤثرون العيش في ظل الاستعباد ويجعلون أنفسهم مطية لأعدائهم، ظانين أن الإسلام لا يطلب منهم إلا أن يصلوا ويصوموا ويتصدقوا.
إلا أن هذه كلها فروع وأغصان وسيقان.. جذورها حرية المؤمن في عقيدته، وعزته في أرضه، فإذا فقدت هذه الجذور انقطع عن الساق والفروع والأغصان روح الحياة، وصارت لقمة هنيئة للثيران، أو هشيما تذروه الرياح.
معنى الهجرة
وبعدُ.. فلقد كانت الهجرة التي تحدثتْ عنها هذه الآيات هجرة حسية مكانية، فيها انتقال من مكة إلى المدينة، من المحيط المشرك الطاغي المستبد في کفره وشركه، إلى المحيط الإسلامي الذي تتمثل فيه حرية المسلم وشعوره بكرامته.. ومن أجل ذلك جعلها الله حداً فاصلاً بين المؤمن الصادق المستحق لرضوان الله، وبين غيره ممن لا يستحقون إلا غضبه وعذابه.
وقد استمر الأمر كذلك حتى فتحت مكة وارتفع فيها علم الإسلام، وسادت كلمة المسلمين، وأصبحت دار حرية وأمن لهم كالمدينة.. وبذلك لم تعد هناك ضرورة للهجرة منها إلى المدينة؛ فقد رفرف عليهما معاً علم التوحيد وعطر جوهما نسيم الحرية والعزة.
ولكن بقي بعد ذلك من الهجرة معناها وروحها. فإن روح الهجرة التضحية بالشهوات والعواطف والملذات، ومجاهدة النفس فيما تهواه وتؤثره؛ من راحة بدنية أو ثروة مادية، أو الإبقاء على صلة عائلية، وإيثار الإيمان ومقتضياته على كل ذلك. هذا اللب أو هذا الروح من الهجرة هو الذي بقي، ويجب أن يبقى حياً في نفوسنا.
وقد قرر الرسول ﷺ ذلك حين جاءه مجاشع بن مسعود السلمي بأخيه معبد، بعد الفتح، وقال له: يا رسول الله، بايعْه على الهجرة. فقال ﷺ: “قد مضت الهجرة بأهلها”. فقال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: “على الإسلام والجهاد والخير”.
وفى حديث آخر له: “المهاجر مَن هجر السيئات”. أو: “مَن هجر ما حرم الله”.
فأصبح معنى الهجرة حينئذ: هجر الإنسان لشهواته وملذات نفسه المحرمة، مع فعل الخير والجهاد في سبيل الحق، وتحمل التضحيات من أجل ذلك كله.
لم يعد من المطلوب منا إذن أن نترك بلدنا، ونتخلى عن مسؤولياتنا، إذا رأينا فيها فساداً أو اضطهاداً، بل المطلوب أن نبقى ونجاهد ونكافح للقضاء على هذا الفساد، وعلى الذين يستبدون ويفرضون علينا كلمتهم، ويتلاعبون بديننا ومصالحنا ومصائرنا.
الهجرة المطلوبة
إن الهجرة المطلوبة من كل بلد إسلامي مغلوب على أمره هي هجرة الروح..
هَجْر العيش الهنيء والرضا به في ظل الاستعمار، وإيثار الجهاد والتضحية عليه..
هجر المنصب الزائف الذي يتلاعب من ورائه الاستعمار بمصائرنا..
هجر الألقاب والشكليات التي تغرينا بالراحة وعدم مقاومة الاستعمار..
هجر الدسائس التي تفرق كلمتنا، والشهوات التي تضعف قوتنا، والأهواء التي تمكّن عدونا منا..
هجر الحاكم صغيراً أم كبيراً ما تميل إليه نفسه من الاستيلاء على محكوميه، والاستبداد بهم وهضم حقوقهم، والتهاون في تحقيق مصالحهم، وإيثار العافية والراحة في دنياه عليهما في أخراه..
هجر الغني حبه لماله حباً يستعبده، ويجعله مملوكاً له لا مالكاً.
هجر الموظف وكل مَن يتحمل أمانة عمل من الأعمال ما تركن إليه نفسه من راحة أو عبث أو تفريط في الأمانة التي حُملها..
هجر العالم في معمله ومخبره أو في قاعات درسه وبين صفحات كتبه ترف الحياة ولذائذها، في سبيل أن يقدّم لأمته نتاج خبرته وعلمه..
هجر الصانع والزارع والطالب تهاونه وتفريطه في رسالته ومهمته..
هجر المسلمين جميعاً روح الكسل، والإهمال، والتواكل، والضعف، والتفرقة والدس..
إن واقع المسلمين الآن يفرض عليهم الهجرة بهذا المعنى.. فإنه واقع مر، لا يمثل أبداً ما پريده الإسلام لأتباعه.
ولقد كانت الهجرة التي هاجرها الرسول ﷺ وصحابته جهاداً للتخلص من واقع مرير يتمثل فيه الظلم والاضطهاد والكبت في صورة جلية، إلى واقع تتجلى فيه الحرية.. حرية العقيدة وحرية التحرك والتصرف.. ولقد تحمل المهاجرون الأوائل في سبيل ذلك أقسى وأشد أنواع الجهاد والتضحية.
والقرآن الكريم حين يذكّر المسلمين الأوائل بالهجرة وتضحياتها إنما يدعوهم إلى المحافظة على إيمانهم القوي، الذي كسبوا به عون الله وتأييده، وحين نقرأ هذه الآيات نشعر كأنها تنادينا وتدعونا إلى التأسي بالسابقين لا في ترك الأوطان يتلاعب بها وبمصيرها الظلمة المستبدون ولكن في قوة الإيمان، والبذل والتضحية؛ لتخليص الأوطان من هؤلاء المستبدين، ولإعزاز العقيدة، وتدعيم كلمة الدين، وتوطيد الحرية وتوفير العزة التي كتبها الله للمسلمين، هذا هو معنى الهجرة المطلوبة منا الآن.
هل نهاجر من البلاد المستبدة؟
ولكن لا أحب أن أقف عند هذا وأبتعد عن ناحية من واقعنا الآن أيضاً، ربما كانت لها صلة بالمعنى الأول للهجرة من بعض نواحيها وربما تثير تساؤلاً أيضاً في نفس القارىء:
هناك من المجاهدين في سبيل أوطانهم مَن يتعرضون للاغتيال أو السجن المؤبد أو التعذيب داخل وطنهم بيد المستعمرين والمستبدين، ويصبح بقاؤهم في هذه الحالة بأرض وطنهم عديم الجدوى، فهل لمثل هؤلاء أن يتركوا وطنهم، ويهاجروا منه إلى بلد يستطيعون فيه أن يرفعوا أصواتهم ضد المستعمرين له، المتلاعبين بمصيره، بما يتاح لهم من وسائل قد لا تتاح في وطنهم؟ أو أن تركهم للوطن يعتبر فراراً من تحمل المسؤولية؟
الواقع أن الحكم في ذلك لا يمكن أن يكون حكماً كلياً، فإن لكل مجاهد ظروفه وطاقته، التي تختلف عن غيره.. وقد يكون حبس الزعيم المجاهد، أو حتى قتله بيد المستبد، أقوى في إثارة الشعب ودفعه للجهاد من هجرته وخطبه ومقالاته خارج بلاده، وإن إضراب المجاهد عن الطعام في سجنه وتعرض حياته للخطر يهز الآن ضمير مئات الملايين من غير أبناء وطنه ويثيرهم على المستبدين؛ فيضطروا تحت سطوة الرأي العام إلى التراجع.
وهناك بلاد يفترس فيها المستبدون فرائسهم من المجاهدين، ولا يُسمَع لهم خبر، وبالتالي لا يهتز من أجلهم ضمير. هنا تكون الهجرة مستحبة بل قد تكون واجبة إلى بلاد يستطاع فيها فضح أساليب المستعمرين والمستبدين وإثارة العالم عليهم.. وإن في تاريخ البلاد العربية الماضي والحاضر زعماء هاجروا من أوطانهم إلى حيث وجدوا حريتهم في كشف الاستعمار وتوجيه الضربات له، وأفلحوا في ذلك، ومنهم من عاد وتصدر مكان الزعامة والقيادة والحكم، وجنى ثمرات جهاده.. عرفت بعضهم في القاهرة حين كانوا مهاجرين وقرأت عن الآخرين.
وهناك مع هؤلاء من يصطنع الجهاد والزعامة ويلعب بعواطف مواطنيه ويفر من مواجهة الواقع في وطنه -وهو قادر على مواجهته- خوفاً من أذى يصيبه، ويستغل موقفه المصطنع في العيش المرفه على حساب عواطف شعبه والمخدوعين فيه..
نعم، لا يمكن الحكم كلياً، و”إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.
والله من ورائهم محيط..
ــــــــــــــــــــــــــ
* الشيخ عبد المنعم النمر، مقال: من هدي القرآن الكريم في الهجرة، مجلة الوعي الإسلامي، عدد1، المحرم 1385= مايو 1965م.