أنصار النبي ﷺ
فبراير 2, 2024الآية الخالدة
فبراير 5, 2024
الخط العربي من الفنون الإسلامية الجميلة، التي برع فيها خطاطون عظماء، تركوا بصمتهم، وخلدها مَن جاء بعدهم واقتفى آثارهم إلى يومنا هذا، ومنهم من ارتبط اسمه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا له من شرفٍ عظيمٍ.
ومن هؤلاء المبدع المتألق عبد الله الزهدي التميمي عليه رحمات الله ورضوانه ([1]).
كاتب الحرمين الشريفين/ كاتب الحرم النبوي الشريف/ خطاط كسوة الكعبة المشرفة/ وخطاط مصر الأول: ألقاب نالها هذا الخطاط العظيم عن جدارةٍ واقتدارٍ، وحاز من الشرف، والمجد ما لم ينله غيره، حين اصطفاه الله تعالى – عبر السلطان الخطاط العظيم عبد المجيدِ – لكتابةِ حوائطَ وقبابِ المسجد النبوي الشريف، وشيءٍ في الحرم المكيّ الشريف، ثم حين أكرمه خديوي مصر وكرَّمه، ليتركَ من إبداعاتِه في مصر ما لا يُقَدَّر بثمن، ولا يتكرر كل زمن، وما شهد الخطاطون الكبار بروعته وقيمته العالية!
ولم يكن الزهديُّ مجرد خطاطٍ، بل أكرمه الله تعالى بأخلاقٍ عاليةٍ، وطبيعةٍ خيرةٍ، وكرمِ نفسٍ مشهودٍ!
كتب عنه مصطفى بك غزلان الخطاط المصري الكبير، معجباً مشيداً بأثره في نهضة الخط العربي في مصر، فقال: وفد على القاهرةِ المرحوم عبد الله بك زهدي بدعوةٍ من خديو مصر إسماعيل، جاء ليكتب الكسوة – وكانت تخرج من مصر آنذاك- بعد أن كتب الحرمَ النبويَّ الشريف، فلقيَ من لدُن ولي الأمر التأييد والتعضيد…… وكان الرجل خيّرًا بفطرته، فأخذ يذيعُ فنُّه على الناس، ويُعَلِّمُهم إياه، لا ينتظر أجرًا ولا شكرًا، فكانت داره يومئذٍ أشبه بمدرسةٍ داخليةٍ، يتعلم فيها الطلاب، وينعمون بحديقتها الرحبة، بل يأكلون ويشربون!
ومن يومئذٍ بدأ الخط يتحول إلى القاهرة، وكانت العنايةُ شديدةً بإتقانِه وإجادته، وكان له شأنٌ رفيعٌ وجليلٌ، في المدارس الابتدائية، والثانوية، بل والعالية!
وكفى بهذه الشهادة شهادةً، على أن الله تعالى يبارك لذوي الأخلاق العالية، وأن الخط بمجرده ليس ذا قيمة وبركة؛ ما لم يكن صاحبه ذا تواضعٍ جم، ونفسٍ طيبة!
ولد رحمه الله تعالى قبل عام1251ه/ 1836م – ومات 1296هـ/ 1879م، أي أنه رحمه الله لم يُعمِّر طويلًا، فقد مات دون الخمسين، فيما يبدو لي.
وقد هاجر أجداده من نابلس إلى الشام، ثم هاجر هو مع والده إلى كوتاهية صغيرًا، لينتقل بعدُ إلى الآستانة عام 1836 متتلمِذًا على أيدي خطاطي عصرهِ من أمثال: الخطاط راشد أفندي، القائم على شؤون ضريح سيدي الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري في إستانبول، وقاضي العسكر، الخطاط الكبير مصطفى عزت.
وقد أحسن الزهديُّ الاقتداء بهذا الأستاذ القدير، وسار على طريقته في خطَّي الثُلُث والنَّسْخ، حتى اعتُبر من خير من سار على طريقته، بين العديد من الخطاطين الذين تعلموا على يديه، مثل محمد شفيق بك، ومحسن زاده عبد الله حمدي بك، وحسن رضا أفندي.
وتشير المصادر إلى أن الزهدي كان يجيد أيضًا فن الرسم. ولعل هذا الأمر ساعده كثيرًا في إبداعه في فن الخط العربي (وهذا يظهر في بعض تصاميمه التي حول خطوطه، و(براويزه) المرتجلة).
وبعد أن حذَق على يدي عزت خطَّي الثُلُث والنَّسْخ، عُيَّن معلمًا للخط في مدرسة نور عثمانية، (وكانت تسمى مشقخانة) كما كان معلمًا في مدرسة (المهندسخانة البرية الملكية).
وكانت بداية شهرته عندما أراد السلطان العثماني عبد المجيد (ت: 1255 هـ/ 1839 م، وبه سُمِّي البابُ المجيدي، الموجود في الحرم النبوي الشريف) إعادة تعمير المسجد النبوي الشريف وتوسعته؛ بعد انهيار إحدى القباب فيه، فطلب من الخطاطين العثمانيين تقديم نماذج من أفضل ما لديهم من خطوط؛ ليختار الأفضل منهم، ويُسند شرف الكتابة على جدران المسجد النبوي إليه. وشارك في هذه المسابقة كبار الخطاطين آنئذ، وكان من بينهم ذلك الشاب زهدي أفندي، الذي لم يكن مشهورًا آنذاك.
يروي الأستاذ علي البداح، عن الأستاذ أحمد ضياء أطال الله في عمره حكاية هذا الخير الذي أصابه الزهدي رحمه الله تعالى:
لقد كان السلطان عبد المجيد من السلاطين الذين أولوا عنايةً كبيرة للخط العربي، وللخطاطين، فتعلم الخط، وأُجيز به، كما لُقِّب بخادم الحرمين الشريفين؛ حسبما ورد في إجازته تلك، لعنايته الشديدة بالحرمين!
ومما يروى عن تقديره للخطاطين، وإعجابه بالشاب عبد الله الزهدي أنه كان يُجلسه في صدر مجلسه؛ ما دفع بعض الحساد من الوزراء، وجلساء السلطان من عِلْيَةِ القوم، إلى سؤال السلطان عن سبب تقريبه للزهدي؛ وكأنهم يستكثرون عليه هذه المكانة!
وكان رد السلطان عليهم عمليًّا؛ إذ أحضر لهم مجموعة من الأقلام والأوراق والأحبار، ودعاهم للكتابة بأحسن ما يمكنهم، فلما انتهوا، أحضر لهم وِرد دلائل الخيرات بخط عبد الله الزهدي، وسألهم: لو وضعت كل ما كتبتموه في كفة ميزان، وهذا الوِرد في الكفة الأخرى، فأيتهما ستكون أثقل وأرجح؟ هي بخط عبد الله الزهدي، ولذلك فأنا أُقربه إليّ!
بعدها سكت الجميع، ولم يعودوا لتعاليهم وتَكَبُّرِهم على عبد الله الزهدي!
ولئن صحّت هذه الرواية، فهي موقفٌ آخر من المواقف الرائعة التي تُحسب للسلطان عبد المجيد، في تقديره للخط العربي وأعلامه!
ولكن الخطاط الكبير، والمثقف في فنه الأستاذ أحمد فارس، يرفض هذه الحكاية، ويراها حصلت للشيخ حمد الله الأماسي، مع السلطان بايزيد، وأن الزهدي لم يجالس السلطان؛ الذي أرسله من فوره للعمل، ولم يلق السلطان بعد ذلك؛ إذ كان قد مات قبل رجوعه! وهو ما قاله أيضًا أ. محمد أوزجاي، وأنه لم يَطَّلِع عليه في أي مرجع!
وقد حصل عبد الله زهدي أفندي على نيشان (وسام) المجيدي من الدرجة الثالثة في جمادى الآخرة 1274 /1858 لتفوقه في فن الخط بين أقرانه ومعاصريه.
وكانت هذه الأوسمة تُمنح في ذلك الوقت لمستحقيها، وليس لأي مدّعٍ كما في الوقت الحاضر، وكان ذلك يعدّ شرفًا كبيرًا لنائله.
ومن مظاهر هذا الاعتناء أنه كان يختار أفضل الخطاطين؛ لكي تُطَرِّز خطوطُهم هذه الأماكنَ المقدسة، فاختار محمد شفيق بك لكتابة خطوط قبة الصخرة في القدس الشريف، وعندما أراد اختيارَ خطاطٍ لكتابةِ الحرمِ المدنيّ لم يتعجل في قراره، فطلب من مساعديه أن يُحضروا له من أعمال الخطّاطين في ذلك الوقت، ويَعرضوها في إحدى غرف القصر؛ ليعاينَها بنفسه، ويفاضلَ بينها؛ دون أن يخبرهم بالسبب من وراء هذا الطلب.
وعندما علم بذلك أحدُ أصدقاءِ عبد الله الزهدي المقربين له، طلب منه تزويدَه بإحدى لوحاتِه، ليذهبَ بها إلى قصر السلطان! إلا أن الزهدي تردد في ذلك؛ لصغر سنّه بالنسبة للخطاطين المعاصرين له في ذلك الحين، وتقديرًا لمكانتهم الكبيرة في فن الخط العربي، ومنهم أستاذه مصطفى عزت، والخطاط عبد الفتاح أفندي، والخطاط راسم أفندي، ولعل صديقه أخذ أحد لوحات الزهدي دون علمه!
ولما كان السلطان عبد المجيد يعاين كل يوم لوحات الخطاطين التي تُضاف إلى سابقاتها في الغرفة التي خُصصت للعرض، فلقد توقف عند لوحة عبد الله الزهدي بخط الثُّلُث الجليّ، التي أُضِيفت مؤخرًا، وأُعجب بها غايةَ الإعجاب، فطلب مقابلة كاتبها!
وعندما حضر الزهدي رأى السلطانُ أمامه شابًّا يافعًا، فسأله للتأكد: هل أنت من كتب هذه اللوحة؟ ولما رد عليه الزهدي بالإيجاب، قال له السلطان: إني سأذهب بك إلى مكان هام جدًّا؛ فإن لم تكن أنت من كتب هذه اللوحة فستُوقِع نفسك في مأزقٍ كبيرٍ!
وسأله الزهدي: إلى أين ستأخذني يا مولاي؟
فقال له السلطان: سأرسلك إلى مسجد خيرِ البشرِ صلى الله عليه وسلم “الحرم النبوي الشريف” لتُطَرِّزَه بخطوطك الجميلة.
لم يرق اختيار السلطان عبد المجيد لهذا الشاب للقيام بهذه المهمة الجليلة بعضُ كبار الخطاطين في عصره، ومنهم الخطاط الشيخ عبد الفتاح أفندي، الذي كان يَكْبرُ زهدي أفندي بعشرات السنوات، فأبدى تذمره واعتراضه، إلا أن السلطان عبد المجيد لم يأبه.
وفعلًا توجَّه زهدي أفندي إلى المدينة المنورة، للعمل في المسجد النبوي الشريف، ومعه قرار التعيين من قبل السلطان، بصلاحياته الممنوحة له في هذا الشأن. وبدأ العمل في إعادة ترميم المسجد النبوي الشريف وتوسعتِه.
وكانت الخطة الحكيمة أن يكون الترميم والبناء بالتدرج؛ بحيث يكون العمل في واحدة من جهات الحرم الشريف؛ حتى لا يتعطل الناس عن أداء الصلاة، وكلما انتهى البناء في جهة انتقل العمل إلى جهة أخرى، وهكذا حتى تم الترميم، واكتملت التوسعة، وكانت توسعة السلطان عبد المجيد تلك هي الكبرى من نوعها؛ منذ إنشاء المسجد النبوي الشريف حتى ذلك التاريخ، حيث بلغت مساحتها 9132 مترًا مربعًا.
وبعد إتمام البناء، انتقل العمل إلى الخطاطين والمُزَيِّنين – وعلى رأسهم عبد الله زهدي أفندي – لكتابة الخطوطِ على جدران المسجد؛ بناءً على تكليف السلطان، فظلَّ يمارس عمله في المدينة المنورة عدة سنوات، حتى أنجز العمل على أحسنِ وجه وأكملِه، فكتب مجموعة من الآيات القرآنيةِ والأحاديث، والمدائح النبوية.
وقد ساعده في ذلك مجموعةُ من المهندسين والفنَّانين، مثل الخطاط جُومر زاده محسن أفندي (ت 1304 هـ)، والمُذهّب الحاج حسين أفندي، وتلميذهُ الحاج أحمد أفندي!
بل يقال: إن السلطان عبد المجيد أرسل فرقة أناشيد إلى المدينة المنورة؛ لإنشاد التواشيح الدينية، والمدائح النبوية، ترويحًا عن عبد الله زهدي ومن معه، وشَحْذَ هممهم، وتشجيعَهم على إتقان العمل، وإتمامه على أكمل وجه، وأفضل صورة.
وخلال عمل عبد الله زهدي أفندي، وصله نبأُ وفاة السلطان عبد المجيد، وجاءه الأمر بعد ذلك من إستانبول بالتوقف – هو ومن معه – عن العمل في ترميم المسجد النبوي، وتزيينه بالخطوط!
وقد ساء هذا القرارُ المفاجئُ عبدَ الله زهدي أفندي، والمسؤولين عن تعمير المسجد النبوي الشريف، فطلب المشرف العام على عملية التوسعة والتعمير عرياني زاده أسد أفندي من زهدي أفندي التوجه إلى إستانبول؛ لإقناع المسئولين هناك بالعدول عن قرارهم، والاستمرار في عملية التعمير، وفعلًا سافر زهدي أفندي إلى هناك، ولكن مهمته باءت بالإخفاق، بل إن الأمر تعدى ذلك؛ حيث أُبلِغ بانقطاع معاشه الذي كان قرره له السلطان عبد المجيد طول حياته!
من بدايات الكتابة عند باب السلام، وقد دُمَّر وطُمس جزءٌ منها عند عضادتي الباب للأسف الشديد
بعد إخفاق عبد الله زهدي أفندي في مهمته، عاد إلى المدينة المنورة لجمع المال من أهل الخير؛ لاستكمال ما تبقى من عملية التعمير، حيث أكمل هذا الأمر على أحسن وجه، سنة 1277 هـ. فتَكونُ إعادةُ تعميرِ المسجد النبوي قد استغرقت اثني عشر عامًا!
وبلغت نفقات هذه العمارة ثلاثة أرباع مليون من الجنيهات المجيدية!
وإن الخطوط التي كتبها عبد الله زهدي أفندي، والتي ما يزال أكثرها باقيًا إلى الآن في المسجد النبوي الشريف، لتَشْهَد بروعةِ هذا الفنان المُلْهَم وعبقريتِه، وقد ورد في كتاب فن الخط أنها: “من حيث طولها تُبْرز لنا أن عبد الله زهدي هو صاحب أكبر قدر من كتابات خط الثُّلث الجليّ، بحيث لا يتعداه خطّاط آخر في الدنيا؛ إذ يزيد طول الشريط الكتابي الذي كتبه عن كيلومترين، أو ألفي متر، منها 240 مترًا في ثلاثة أسطر فوق جدار القبلة، و140 مترًا على رقبة القبة.
كتب رحمه الله تعالى في قباب المسجد، وجداره من السور، والآيات، والقصائد.
ومن ذلك: سورة الكهف، وسورة الرحمن في قباب الروضة، وما يليها من المشرق، وقصيدة البردة أمام الوجه الشريف، وما يليه من الرواقين القبليين، في طُرُزٍ أربعة. وقد كتب على باب السلام من الخارج أربعة أسطرٍ أيضًا، ففي السطرين الأول والثاني: آياتٌ قرآنية، وفي السطر الثالث: أبياتٌ شعرية، وفي الرابع: أسماءُ سلاطين آل عثمان.
وجاء توقيعه في آخر العمل، في طرف المقصورة عند باب الخروج، في شكلٍ بيضاويّ، وكتب فيه ما نصه: اللهم فشَفِّع هذا النبيَّ الكريمَ لكاتبِ الحرم النبوي الشريف الفقير عبدِ الله الزهدي، من سلالة تميم الداري رضي عنه ربُه الباري.
وقد أُزيلت قصيدةُ البردة، بعد أن بقيت أكثر من مائة سنة (وقد رأيتها أواسط السبعينيات الماضية) كما أُزيلت من قَبْلها خطُوطُه على باب السلام من الخارج – وكانت تحوي أبياتًا شعرية – ووضعوا مكانها بلاطات مزخرفة، وأُبقيت أسماءُ السلاطين العثمانيين إضافة إلى الآيات!
وكل هذه الكتابات – التي تعدت في طولها الكيلومترين – عملٌ فذّ، لا يقدر على مثله إلا من كان مثل هذا العظيم.
ومن خلال استقراءٍ جزئي، وخبرةٍ طويلةٍ بالخط والخطاطين، أزعم أنه يَعزُّ مَن يكتب مثل هذا الأثر (الزهدي) بعده، فلقد سمعت من عددٍ من الخطاطين تعليقاتٍ مفادها أن عبد الله الزهدي أنهى السطر ووضع نقطة Full stop فلا يستطيع أحد أن يضيف بعده أية إضافة!
كما أزعم أن هذا الأثر سيبقى بارزًا محفورًا؛ تحفةً لا يمحوها القِدم، وإبداعًا فنيًّا يَعِزّ نظيره، ومستوىً خطيًّا لا يرقى إليه المعاصرون؛ رغم كون الفرص أمامهم عظيمة من التقنية وأعمال الكمبيوتر، وبرامج التكبير والتعديل، والحفر بالليزر وغيرها!
ويتجلَّى عجزُ الخطاطين المعاصرين، في التوسعة الجديدة في الحرم النبويّ؛ إذ استُكتب خطاطون كثيرون، فكتبوا مئات الأمتار التي لا ترقى لمجرد المقارنة بإبداع الزهدي المكتوب قبل نحو 160 سنة! ويُؤسِفُنِي ويسوؤني أن المُرمِّمِين قد أفسدوا مساحاتٍ، ودمَّروا مساحاتٍ، وطمسوا مساحاتٍ، منها توقيعَ الخطاط الذي تركه في نهاية العمل عند باب النساء، في طرف الحائط عند المقصورة النبوية، ولكن معظم العمل باقٍ شهادةَ إبداع لا ينطمس! وقد ترك الزهدي كل ما استعمله لكتابة خطوط الحرم النبوي من أقلام، وأحبار، وأوراق، وقوالب، في مكتبة الحرم المدني؛ احترامًا وتقديرًا لها؛ إلا أن بعض الجهلة من المتشددين قاموا بإتلافها وإلقائها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبعد أن أتم عبد الله زهدي أفندي عملَه في المسجد النبويِ الشريفِ توجه إلى مصر، وكان صيته قد سبقه إلى تلك الديار، فاستقبله حاكمُ مصرَ الخديوي إسماعيل، وأطلق عليه لقب خطاط مصر الأول، وذلك سنة 1283 هـ، وأوكَل إليه مهمةَ كتابةَ خطوطِ المساجدِ والمدارسِ ودوائرِ الدولة، وكذلك خطوطِ الأوراق النقدية المصرية، ثم كلفته الحكومةُ المصريةُ كتابةَ خطوطِ كسوةِ الكعبةِ المشرفة، فأبدع أيُّمَا إبداع، وكانت الكسوة تُصنع في مصر في ذلك الوقت.
ومما أُوكلَ إليه أيضًا: كتابةَ الخط على سبيل أم عباس بالصليبية بالقاهرة، وكذلك جامعِ الرفاعي. كما كان مفتشًا عامًّا على أقسام الخطوط في المدارس الكبرى، وتخرَّج على يديه الكثير من كبار الخطاطين في مصر.
وقد كتب نسخة من المصحف الشريف للوجيه حسين باشا، مقابل ثلاثين ألف قرش تركي، وهذا مبلغ ضخم جدًّا بمقاييس ذاك الزمان، كما كتب أكثر من نسخة من سورة الأنعام، ومعها بعض سور القرآن، والأدعية الشريفة، وقصيدةَ البردة للبوصيري، وقد طُبِعت إحدى هذه النسخ في المطابع العثمانية.
وبعد حياة حافلة بالعطاء توفى خطاط المسجد النبوي الشريف سنة 1296 ه -1878 م. ودفن بالقرب من ضريح سيدنا الإمام الشافعي رحمه الله، قريبًا من قبر سيدنا وكيع بن الجراح تلميذ الإمام. وقد رثاه أحد الشعراء مؤرخًا لوفاته على طريقة حساب الجُمل بقوله:
مات رب الخطّ.. والأقلام قد | نكست أعلامها حزنًا عليه |
وانثنت من حسرة قاماتها | بعد أن كانت تُباهي في يديه |
ولهذا قلت في تأريخه: | مات زهديٌ رحمةُ الله عليه |
وعبارة “مات زهدي ” تعني الرقم 1296 على طريقة حساب الجمل، وهو سنة موته.
[1] () استفدت مادة هذه المقالة (بتصرف كثير) من كتاب الأستاذ سامي صالح البياضي: الخطاط عبد الله الزهدي النابلسي كاتب الحرمين الشريفين، ودراسة الدكتور تحسين عمر طه أوغلي عن الزهدي، في كتابه أعلام فنّ الخط العربي في العصر العثماني Osmanlı Devrinde Hat Sanatı Duayenleri، والدراسة المميزة للأستاذ علي عبد الرحمن البداح عن عبد الله الزهدي.